نزار حسين راشد - فرصة سانحة.. قصة قصيرة

اليوم موعد العيادة المتنقلة، تجمعت النساء قبل حضور السيّارة، فرصة للاستراحة من العمل الذي لا ينتهي في البيت والحقل، والتنفيس عن حنقهن المكبوت على الرجال وظلمهم وتسلطهم وبث شكواهن بين بعضهنّ بلا تحفظ، أما النميمة فيوفرنها للجلسات الثنائية الخاصة، حيث أنها لا بُدّ أن تطال إحداهن،
أخيراً فتح باب العيادة، وملأ الطبيب بقامته الباب، وشهقت امرأة واضعة سبابتها على فمها وفاتحة عينيها على وسعهما:
- أشقر وأحمر. هذا ليس الدكتور منصور.
بينما وقف الطبيب السويدي يراقب هذا الجمع النسائي غير المنظم، ولم يفته مغزى حركات النساء وهن يتعازمن وكل واحدة تقدم الأخرى، مؤثرة إياها على نفسها، إلى أن عقدن أمرهن أخيراً على تقديم كبيرات السن!
ابتسم الطبيب أخيراً وأوعز إلى الممرضة أن تجعلهنّ ينتظمن في طابور، وهكذا رتبت النساء أنفسهن، الأكبر سناً فالأصغر.
وعبّر الطبيب عن دهشته بصوتٍ مسموع قاصداً أن يسمع الممرضة:
-لماذا قال لي الدكتور منصور أنّ هؤلاء القرويين فوضويون جدّاً؟ يبدو لي أنّ لهم معاييرهم الخاصة، هذا كل ما في الأمر
توالى دخول النساء واحدة تلو الأخرى، وتوالت طمأنات الطبيب لهن:
- صحة تمام! صحة تمام-
عدا بعض الحالات التي أظهر الفحص أنها بحاجة لعناية وبعض الدواء!
كلهن يرتدين الزي الموحد حسب تعبير الطبيب، الثوب المطرز وغطاء الرأس الأبيض، ما عدا واحدة وقفت في آخر الصف، وكأنه كان بود النساء أن يخفينها عن الأعين، لأنها كانت سافرة الرأس، ترتدي التنورة وقميص نسائي بأزرار، لبس بنات المدينة في نظرهن، واللبس الأوروبي في نظر الطبيب، الأمر الذي أثار استغرابه، وحين خاطبته بالإنجليزية، زاد استغرابه أكثر، وربما اعتقد أنها ضيفة أو طارئة على هذا المجتمع الريفي، ولكنه لم يعلق على اختلافها عن الأخريات بشيء، وبدل ذلك طلب إليها أن تراجعه في عيادته الدائمة في المدينة المجاورة لمزيدٍ من الفحوصات، وحين رأى القلق في عينيها طمأنها بقوله:
- لا شيء خطير، ارتفاع بسيط في ضغط الدم، ربما يكون عارضاً و لا شيء، ولكننا يجب أن نطمئن على أية حال.
وداد عادت إلى القرية بعد وفاة والدها الذي كرٍّس لها حياته بعد وفاة والدتها، وألحقها بمدرسة أجنبية، نفس المدرسة التي يدرس فيها أبناء الموظفين الأجانب، زملاؤه، في شركة النقل البحري التي يعمل بها.
وداد التي كان القرويات يلقبنها: دمية الطين، بسبب تناسق جسدها وانسدال شعرها، وهذا اللقب هو في الحقيقة تعديل على اللقب الأصلي الذي أطلقته إحداهن عليها: لعبة الجبصين، حين نبهتها أخرى إلى أن الجبصين أبيض، ولا يتفق مع سمرة بشرتها، وهكذا اتفقن وهن يتضاحكن أن يستبدلن اللقب إلى دمية الطين.
في الحقيقة كاتت سمرة وداد سمرة فاتحة، ولم تكن بشرتها بتلك الدكنة، ولكنهن كن يشبعن غرورهن وينفسن عن غيرتهن منها.
في تلك الليلة نامت وداد نوماً قلقاً، شابته أحلامٌ متقطعة
دعوة الطبيب لها لمراجعته، فتحت ذهنها على احتمالات كثيرة، أكثر من ذلك شجعتها على أن تفكر في مغادرة القرية إلى الأبد، كل ما عليها أن تستجمع عزيمتها التي ظلت فاترة ومستسلمة لقدرها حتى ذلك الحين.
وحين نهضت من نومها أخيراً، هبت الأفكار في رأسها كطيورّ فزعة، ولكنها أخذت تهدأ شيئاً فشيئاً، إلى أن استكنّت وادعة أخيراً، بعد أن استقرّ رأيها على أن تطلب من الطبيب أن يساعدها على تقديم طلب للهجرة.. أو على الأقل الحصول على عمل يعيدها إلى جو المدينة الذي ألفته، أو ربما أفضل ذلك يخرجها من وحدتها إلى الأبدُ... احمرّ وجهها خجلاً، ولكنها بالتأكيد لمحت تلك النظرة في عينيه، النظرة التي لا تخطيء في قراءتها النساء، وربما كان ارتفاع الضغط مجرد ذريعة، ليقابلها في عيادته!
ولكن إن حصل ذلك هل سيقبل أن يسقط الحاجز الأخير ويعتنق الإسلام، دينها الذي لن تتخلى عنه أبداً لأنه دين حق، والطبيب هو الأولى بالتضحية، التاريخ يقول ذلك، فهم قد صدّروا لنا كل شيء، باستثناء الدين، وسرقوا منّا كل شيء باستثناء العفة التي حفظناها ولو حتى بين رجلينا، وداد تتذكر وقوفها أمام مدرس اللغة الإنجليزية الإنجليزي حين قال معرّضاً أن العفة ليست بين الرجلين كما تفهمونها!
وحينئذ وقفت وداد بحزم لتقول له: بل إنها كذلك لأننا لو فقدناها هناك فسنفقدها في كل مكان آخر!
فبهت الذي كفر، هكذا فكرت وداد في حينه!
وداد واثقة أن لا شيء سيقف في طريقها، وأن العواطف البشرية ستسير في مجراها الطبيعي ملتفة حول كل الصخور التي ستقف في طريقها!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى