محمد بنيس - أثَــر.. شعر

لمْ أعُدْ أذْكرُ متَى جاءَني الأزْرقُ
وتحتَ شجَـرةِ الصّمْتِ
ظـلَّ يهْـدِلُ
لكنّ بذْلةَ ذلكَ العَاملِ وهْوَ في الصّباحِ البَاكرِ يرْكبُ درّاجتَهُ كانتِ الأثرَ
انْحدَرتْ
مثلُ شُعْلـةٍ
بغيْر علْمٍ منّي ولاَ إرادةٍ
إلَى
أسْفلِ النّظرِ
زُرْقةٌ
بكُلّ غُموضهَا امْتدّتْ
في حدَقةِ العَيْـنيْنْ
هذَا الأزرقُ لمْ يكُنْ عنّي غريباً
معَ ذلكَ أحْسَسْتُ كما لوْ كنتُ أوّلَ مرّةٍ أراهُ
ما بدأَ كانَ يحْفرُ فضاءَهُ في القصيدةِ
خلْفَ طبقاتِ السّحابِ منْ ذَاوتِ الرّماديِّ
كانَ مُنعزلاً في الرحيلِ وفي الإقَامةِ
يرْفعُ أكْمامهُ
يُلوّحُ بيدَيْنِ نحيلتيْنِ
يرْميهمَا
في هواءٍ قريبٍ منَ الأنْفاسِ
كانَ يبْحثُ
عنْ كلمةٍ أكْبرَ منَ الزّمنِ
أخْتِ السّماءِ
صَديقةِ البحْرِ
كانَ كلُّ شيْءٍ بهِ يكُونْ
جذْرٌ منَ النّار يظْهرُ
حاملاً صوْتَ هذَا الأزْرقِ
يُضيءُ كفّاً
في عتمةٍ
لا تُدركُ مُنتهَاهَا
أنتَ لا أنتَ أقُولُ
شبْهُ غمْغَمةٍ
تمرُّ
منْ خلالِ أصَابعي بعْدَ أنْ
تعذّرَ السّكونُ
وَما يَثبتُ في السّريرةِ
ينْزلُ عَاصفةً
هيَ مرْكزُ
الصّمتِ ما زلتُ
أنْظُرُ إلى ما لسْتُ أنَا
نُقطةٌ قُصْوَى
ترْتجُّ في الأنْفَاسْ
معَ ذلكَ حُجّةٌ لا شيْءَ يُبرّرُهَا تُنادي عليّ أنْ أبْقَى هُنا أنْظرُ إلى الأزْرقِ يشقُّ صدْري ينْفذُ لا في شكْلِ ترانيمَ بلْ كلمْعةٍ منْ أقاصي الشّرقِ فجْراً خفيفاً لوْ أنّني تَرجّيْتُ ما كنتُ عثرْتُ علَى بُزوغٍ كهَذا هيَ الأرْجاءُ تتجمّعُ جاذبةً نحْوَ أعْضَائي رعْشةً لكَ السّرُّ الذي يزْدادُ سُطوعهُ منْ فراغٍ إلَى فراغْ
أثرٌ وحْدهُ
في يوْمٍ يطُولُ
علَى مقْرُبةٍ منْ أصَابعي
كأنّما يأسٌ وأملٌ معاً ينْسحبَانِ
منَ
المسْرحِ
لا حُدودَ بيْنَ الأزْرقِ واللاّأزْرقِ دَاخلي
ذبْذباتُ مُسْتحيلٍ تتكوّنُ
في غَرقٍ
هُوَ العُروجُ دائماً
يتّقدُ حُلْـمُ أنْ أُشاهـدَ
الأزرقَ
بيْنَ الأضْلاعِ مُتدفّقاً
واثباً
مُنْهمراً في شَوارعِ الأعْصابِ
جَارفاً ما انْكسَرَ منّي
مُتملّكاً إرَادةَ أنْ يهْمزَ النّداءَ
في
ليلٍ
أوْ
نهَارْ
علَى عتَبات "فارُو"
بحْرٌ يدثّرُ موجَهُ بغمُوضِ لألأةِ الجنُوبْ
ترسو المراكبُ
في صَباحٍ
والمحَارُ يصيرُ أكبرَ
فوقَ مُرتفعٍ يبدّلُ حجْمَ قافلةٍ
منَ الأشكَالِ ثمةَ شاعرٌ
يغفُو
لتحْضُرَ من بعيدٍ سيّداتٌ جاءَ
الأرخبيلُ بهنّ
لمْ يكْذبْ هَـواءٌ
والصعُودُ إلى البياضِ
يمرّ عبِرَ مدًى من الأحْجارِ
أبيضُ
شاسعٌ يعْلو
ويصمتُ جاذباً نحْوي ظلالَ تعدّدِ الألوانِ
أخضرُ يغسلُ القرميدَ
أو شجَرٌ أسلّمهُ المتاهةَ طائفاً
بثقوبِ أسْوارٍ
تَكادُ تضيءُ أندلُساً
كأنّ عروقَ أرضِ "الغرْبِ" تسبقُ
صرخةَ المنْفَى
فتّشْ عن الكلماتِ في وطنِ السّكينةِ
لاَ تتبّعْ رَحمةَ الأمطارِ
في صمْتٍ
هو الزيتونُ
والأقواسُ
والزلّيجُ
ملحونُ ابنِ قُزمانٍ
وآياتٌ تفيضُ
بلوْعةٍ
وَاوُ الحديقةِ نشوةٌ عادتْ
منَ النّسْيانْ
تباركَ حرْفُكَ اللّيْليّ تحتَ رداءِ
أغْنيةٍ
تجسّدُ في الفراغِ صَداقةَ الكُلّيّ
أسْمعُ زائرينَ يمجّدونَ نقوشَ ساريّةٍ
توازُنَ خفّةِ الحركاتِ
منْ شمسٍ
إلَى شمْسٍ
لكَ المقهى التي اختارتْكَ وانضمّتْ
إليْكَ معَ المرايا وارْتفاعِ السّقفِ
أصْواتٌ
تحسّ برعشةٍ
فلربّما شيءٌ يغيبُ معَ النّوارسِ
كُتْلةٌ في الرّكْنِ غامضةٌ
بياضُ
الجيرِ يبحثُ عن رجُوعِ الأرخبيلِ
إلى سُكونِ البحْرِ
في قوْل كأنكَ لا تراهُ
ولاَ يراكْ

محمد بنيس
من ديوان "هذا الأزرق"
أعلى