عبد الفتاح القرقني - هَلْ أَنَا مَجْنُونٌ؟

عبدالفتاح.jpg


مُنْذُ إِقْرَارِ الْحَجْرِ الصِّحِيِّ الْعَامِّ في 22 مارس 2020 اضْطَرَّ الشَّيْخُ خَالِدٌ إِلَى المُكُوثِ فِي مَنْزِلَهِ تَوَقِّيًا مِنْ عَدْوَى فِيرُوسِ كُورُونَا فَهْوَ يَمْتَثِلُ عَنْ وَعْيِ رِفْقَةً أُسْرَتِهٍ لِهَذَا النِّدَاءِ الَّذِي يَتَكَرَّرُ فِي الْمِذْيَاعِ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الْمَسَاءِ : « شَدْ دَارَكْ احْمِ رُوحَكْ و الِّي تحبّهُمْ وَ أُسَرْتَكْ وَ اصْغَارَكْ ». إِنَّهُ غَيَّرَ نِظَامَ حَيَاتِهِ رَأْسَا عَلَى عَقِب إِيمَانًا مِنْهُ أَنَّ جُيُوشَ كُورُونَا لاَ تُبْقِــي وَ لاَ تَذَرُ وَ لَنْ يَسْلَمَ النَّاسُ مِــنْ بَطْشِهـــَا إِلاَّ إِذَا تَوَخَّــوْا الْحِيطَةَ وَ الْحَذَرِ وَ طَبَّقُوا تَعْلِيمَاتِ وِزَارَةِ الصِّحَّةِ تَطْبِيقًا مُحْكَمًا.
لَمْ يَعُدْ شَيْخُنَا الْفَاضِلُ يَأْنَسُ إِلَى بَهْجَةِ الْقَهْوَةِ وَ سَمَـرِ الرِّفَاقِ فَقَدْ حَتَّمَتْ عَلَيْهِ جَائِحَةُ كُورُونَا أَنْ لاَ يَهْدِرَ أَوْقَاتَ فَرَاغِهِ هَبَاءً مَنْثُورًا فِي مَا لاَ يَعْنِي بَلْ أَصْبَحَ يَسْتَثْمِرُهَا فِي مُمَارَسَةِ هِوَاياتٍ مُتَعَدّدَةٍ حَتَّى لاَ يَشْعُرَ بِالضَّجَرِ . ذَاتَ أَصِيلٍ ذَهَّبَتْ شَمْسُهُ سَعَفَ النَّخِيلِ لَعِبَ الشَّيْخُ خَالِدٌ مَعَ أَحْفَادِهِ لُعْبَةَ الْغَمَّيْضَةِ فَكُنْتَ تَرَاهُ حِينًا راَكِضًا وَ حِينًا وَاثِبًا وَ حِينًا آخَرَ مَطْرُوحًا فَوْقَ أَدِيمِ الْأَرْضِ يُخَلِّلُ لِحْيَتًهُ الْبَيْضَاءَ ، الْمُعَفَّرَةَ بالتُّرَابِ . وَ لَمَّا شَعُرَ بِالْإِنْهَاكِ الشَّدِيدِ اسْتَظَلَّ بنَخْلَةٍ بَاسِقَةٍ يَسْتَرِدُّ أَنْفَاسَهُ وَ يُجَدِّدُ طَاقَتَهُ الْإِيجَابِيَّةَ . وَ بَعْدَ نَيْلِ نَصِيبٍ مِنَ الرَّاحَةِ تَلاَ وِرْدَهُ مِنَ الْقُرآنِ الكَرِيمِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ ثُمَّ فَتَحَ مُجَلَّدَ مُذَكَّرَاتِهِ بِيَدٍ خَشِنَةٍ معروفة وَ انْغَمَسَ فِي قِرَاءَةٍ إِحْدَى حِكَايَاتِ شَبَابِهِ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ . فَمَا أَسْعَدَهُ وَ هْوَ يَنْفُضُ الْغُبَارَ عَنْ ذِكْرَيَاتٍ عَذْبَةٍ عُمُرُهَا خَمْسُونَ سَنَةً وَ نَيْفًا !.
ذَاتَ أصِيلٍ شَتْوِيٍّ اِحْتَجَبَتْ شَمْسُهُ الضَّحُوكُ وَ سَمَاؤُهُ الزَّرْقَاءُ خَلْفَ سَحَابٍ دَاكِن، كَانَ حَشْدٌ مِنْ تَلاَمِيذِ السَّنَةِ السَادِسَةِ فِي أحَدِ الْمَدَارِسِ الرِّيفِيَّةِ بِجَزِيرَةِ جَرْبَةَ يَرْكُضُونَ خَلْفَ دَرَّاجَةِ مُعَلّمِهِمْ الْحَمْرَاءَ فِي اسْتِخْفَافٍ دُونَ أَنْ يَدْرِكَهُمْ الْفُتُورُ. مَا أشَدَّ وَطْأَةِ صِيَاحِهـــِمْ الْمُتَعَالِـــــي وَ قَهْقَهَاتِهِمْ الْعَرْجَاء عَلَى رُوحِ مُعَلِّمِهِمْ الزَّكِيَّةِ ! مَا هَذِهِ الكُنْيَةُ الْبَغِيضَةُ الَّتِي تَتَرَدَّدُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ دُونَ وَجَلٍ ؟ يَا بُوهَالِي، يَا بُوهَالِي ، يَا بُوهَالِي ؟
إِنَّ بَطَلَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ الْعَجِيبَةِ مُعَلِّمٌ شَابٌّ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ، صَارِمُ الْعَزْمِ ، فَتِيُّ الْهِمَّةِ لَكِنَّهُ فَظٌّ ، غَلِيظُ الْقَلْبِ يَقْسُو فِي مُعَامَلَةِ الصِّبْيَانِ.
تَسَتَّرْتُ عَلِى اسْمِـــــهِ الْأَصْلِــيِّ وَ اِنْتَقَيْتُ لَــــهُ اِســــمَ خَالِدٍ تَحَاشِيًا لِمَا لاَ يُحْمَــــدُ عُقْبَاهُ مِنْ تَدْنِيسٍ لِكَرامَتِـهِ وَ اسْتِنْقَاصٍ لِهَيْبَتِــهِ وَ هَيْبَةِ الْمُعَلِّمِينَ الْأَجِلاَّءِ الَّذِينَ دَأَبُوا عَلَى تَرْبِيَةِ النَّشْءِ الصِّغَارِ تَرْبِيَّةً مُتَوَازِنَـــــةً وَ هُـــــــمْ مَاضُونَ بِهِـــمْ فِي كَبِدٍ مِنْ ضِفَّةِ الْجَهْلِ إِلَى ضِفَّةِ النُّورِ.
وَ بَعْدَ زُهَاءِ رُبْعِ سَاعَةٍ مِنَ السَّيْرِ وَصَلَ خَالِدٌ إِلَى بَيْتِهِ الْمُتَوَاضِعِ وَ هْوَ مَحْمُومٌ، مَهْمُومٌ ، مُتَذَمِّرٌ مِنْ حَيَاتِهِ الْبَائِسَةِ . أَمَّا أُولَئِكَ الْمُتَمَرِّدُونَ الصِّغَارُ وَاصِلُوا طَرِيقَهُمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ الْمُتَنَاثِرَةِ هُنَا وَ هُنَالِكَ بِخَطْوٍ حَثِيثٍ، مُتَمَادِينَ فِي هَرَجِهِــمْ وَ مَرَجِهِــــــمْ وَ هُتَافِهِمْ الصَّاخِبِ الْمَسْعُورِ : يَا بُوهَالِي ، يَا بُوهَالِي ، يَا بُوهَالِي.
أَشْعَلَ خَالِدٌ مِصْبَاحَهُ النَّفْطِيَّ بِيَدٍ مُرْتَعِشَـــةٍ فَأَرْسَـــلَ نُورًا ذَابِلاً كَشَـــفَ عَنْ سَرِيـرٍ وَطِيءٍ وَ صِواَنٍ قَدِيمٍ قِدَمَ الْأَزَلِ وَ حَصِيرٍ بَالٍ مِنَ السَمَارِ وَ طَاوِلَةٍ مُسْتَدِيرَةٍ مِنْ خَشَبِ الْأَبْنُوسِ مُثَقَّلَةٍ بِالْمَرَاجِــــــــعِ وَ الْقَوامِيسِ وَ الرّواياتِ وَ الْمَجَلاَّتِ وَالْكُرَّاسَاتِ.
وَ الَّذِي لَفَتَ انْتِبَاهَ خَالِدٍ وَ أَثَارَ شَفَقَتَهُ ِمُنْذُ الْوَهْلَةِ الْأُولَى هُوَ قِطٌّ بُنِّيُّ اللَّوْنِ، نَاعِمُ الْفَرْوِ، مُلْتَفٌّ عَلَى ذَاتِهِ فِي شَكْلِ كُبَّةِ صُوفٍ. كَانَ هَذَا الْقِطُّ يَغُطُّ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ غَيْرَ آبِهٍ بِالْجُوعِ الَّذِي يُمَزِّقُ أَحْشَاءَهُ تَمْزِيقًا وَ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالزَّمْهَرِيرِ الْهَائِجِ الَّذِي يَنْخُرُ عِظَامَهُ نَخْرَ الأَرْضَةِ لِعَصَا سَيِّدنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ. إِنَّهُ لَمْ يَتَسَلَّلْ مِنَ كُوَّةِ الْبَابِ إِلاَّ بَحْثًا عَــــنِ الدِّفْءِ وَ الطَّعَامِ وَ الْأُنْسِ وَ الْاِسْتِقْرَارِ شَأْنُهُ شَأْنَ أَيِّ حَيَوَانٍ شَرِيدٍ ، طَرِيدٍ يَتَسَكَّعُ فِي الأَحْيَاءِ الشَّعْبِيَّةِ أَوْ يَطُوفُ بَيْنَ الْمَنَازِلِ الْمُنْزَوِيَةِ دَاخِلَ القُرَى وَ الْأَرْيَافِ.
حَدَّقَ خَاِلِدٌ فِي هَذَا الْقِطِّ الْآمِنِ ثُمَّ دَثَّرَهُ بِغِطَاءٍ صُوفِيٍّ وَ هْوَ يُرَدِّدُ فِي قَرارة نَفْسِهِ بِصَوْتٍ نَحِيلٍ، مُتَهَدِّجٍ تَنْسِفُهُ عَوَاصِفُ الْإِحْبَــــــاطِ وَ تُغْرِقُهُ عَبَرَاتُ الْاِنْكِسَارِ فٍي وِهَادٍ سَحِيقَةٍ ، دامِسَةٍ :
- « نَمْ يَا سَمْسَمُ نَوْمًا وَدِيعًا فَأَنْتَ مُنْذُ الْآنَ سَتَكْسِرُ شَوْكَةَ وِحْدَتِي وَ تُرِيحُنِي مِنْ فِئْرَانِ قَرَضَتْ ثِيَابِي وَ قَضمَتْ مَؤُونَتِي وَ تَوَاثَبَتْ فِي غرفتي رَاقِصَةً ، شَامِتَةً بِي شَمَاتَةَ الْأَعْدَاءِ. عِش دَاخِلَ بَيْتِي فِي كَنَفِ الْاِطْمِئْنَانِ وَ الهَنَاءِ رَيَّانَ ، شَبْعَانَ وَ أَنَا سَأَكُونُ مواظبا عَلَى نَظَافتِـــــكَ وَ حَرِيصًا عَلَى مَوَاعِيدِ تَلْقِيحِك حَتَّى تَكُونَ فِي صِحَّةٍ جَيِّدَةٍ مُعَافَى مِنَ الْأَمْرَاضِ الْجُرْثُومِيَّةِ. اِنْتَظِرْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَ أَنْتَ فِي ذَرْوَةِ شَرَهِكً عَشَاءً لَذِيذَا يُسِيلُ لُعَابَكَ وَ يَخْمِدُ حَرِيقَ جُوعِكَ . أَمَّا أَنَا يَا أَنِيسِي سَأَكْتَفِي مِنْ هَذَا الْعَشَاءِ بِمَا يُقِيمُ أَوْدِي . لَيْسَتْ لِي رَغْبَةٌ فِي الْأَكْلِ لأَنّ الْأَحْزَانَ أَنَاخَتْ عَلَيَّ بِكَلْكَلِهَا فَاسْوَدَّتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنَيَّ وَ ضَاقَ صَدْرِي وَ تَبَرَّمْتُ مِنْ عَقَبَاتِ الْحَيَاةِ الْكَأْدَاءِ .
فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ اللَّيْلاَءِ مِنَ المُسْتَحِيلِ أَنْ أَسْهَرَ كَاللَّيَالِي السَّابِقَةِ عَلَى ضَوْءِ مِصْبَاحٍ نَفْطِيٍّ ضَئِيلِ النُّورِ أُجْهِدُ بَصَرِي فِي إِصْلاَحِ كُومِ مِنَ الْكُرَّاسَـــــاتِ وَ صِيَاغَةِ مُذَكَّرَاتٍ مُنَمَّقَةٍ يَتَجَلَّى فِيهَا يُسْرُ التَّبْلِيغِ وَ عُمْقُ الْمَضْمُونِ وَ عُنْفُوَانُ الْإِبْدَاعِ ».
أَفَاقَ خَالِدٌ مِنْ ذُهُولِهِ الْمَرِيرِ فَفَرَكَ عَيْنَيْهِ الذَابِلَتَيْنِ مُتَثَائِبًا ثُمَّ هَرَعَ إِلَى الصِّوَانِ لِتَغْيِيرِ ثِيَابِهِ وَ التّلَفُّعِ بِبَرْنُسِهِ الْجَرِيدِيِّ. إِثْرَ ذَلِكَ وَلَجَ عَنْ مَضَضٍ مَطْبَخًا ضَيِّقًا وَ طَفِقَ يَطْهُو لَبْلَابِي َ حَارَّ الْأَنْفَاسِ :حِمَّصٌ مَطْبُـوخٌ و هرِيسَة عربي وَ زَيْتُ زَيْتُونٍ وَ بَيْضٌ مَسْلُوقٌ وَ تُنٌّ مَبْشُـــــــورٌ وَ كَمُّونٌ مَرْحِـــــــيٌّ وَ فُجْلٌ مُخَلَّلٌ وَ لَيْمُونٌ مَعْصًورٌ .
مَا إِنْ صَارَ الْعَشَاءُ جَاهِزًا عَلَى الْخِوَانِ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ شَزْرًا دُونَ أَنْ يَهْتَمَّ بِلَوْنِهِ الْقِرْمِزِيِّ وَ بُخَارِهِ المُتَصَاعِدِ وَ رَائِحَتِهِ الشَّهِيَّةِ. إِنَّهُ حَزِينٌ، مُبْتَئِسٌ ، مُنْقَبِضُ الصَّــدْرِ لاَ يَرْغَبُ فِي الْأَكْلِ عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الطُّوَى الْمُقْرِفِ الَّذِي يَشْعُرُ بِهِ.
اِكْتَفَى خَالِدٌ بِأَكْلِ سَبْعَ تَمْرَاتٍ وَ بِضْعِ لُقَمٍ مِنَ عَشَائِهِ لاَ تُسْمِنُ وَ لاَ تُغْنِي مِنْ جُوعٍ ثُمَّ صَبَّ مَا تَبَقَّى مِنْهُ فِي صَحْفَةٍ مِنَ الْفَخَّارِ نَصَلَ لَوْنُهَا وَ دَاهَمَتْهَا الشُّقُوقُ . أَلَيْسَ مِنْ حَقِّ خَالِدٍ فِي هَذَا اللَّيْلِ الْبَهِيمِ أَنْ يَقْهرَ فِي إِصْرَارٍ كَآبَتَهُ فَيَأْكُلَ حَتَّى يَشْبَـــــــعَ وَ يَبِيت دَافِئًا ، قَرِيرَ الْعَيْنِ لاَ يُخَامِرُ ذِهَنَهُ لاَ هَمٌّ وَ لاَ غَمٌّ و لاَ نَكَدٌ وَ لاَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ؟
مَشَى عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ مِشْيَةَ اللُّصُوصِ عَلَى سُطُوحِ الْمَنَازِلِ وَ هْوَ مُمْسِكٌ جَيِّدًا وِعَاءَ الطَّعَامِ. وَ حِينَمَا وَصَلَ إِلَى قِطِّهِ سَمْسَمَ وَضَعَهُ أَمَامَهُ فِي هُدُوءٍ تَامٍّ وَ هْوَ مُتَحَذِّرٌ مِنْ إِيقَاظِهِ وَ تَكْدِيرِ صَفْوَ خَرِيرِهِ الْمُتَنَاغِــــمِ .
لَمْ يُفَكِّرْ خَالِدٌ كَسَالِفِ الأَيَّامِ فِي تَنْظِيفِ أَوَانِي الْأَكْلِ وَ تَنْشِيفِهَا وَ تَنْظِيمِهَا فِي أَنَاةٍ عَلى رَفٍّ مُزَخْرَفٍ بِشَتَّى الزَّخَارِفِ بَلْ فَكَّرَ تَفْكِيرًا عَمِيقًا فِي صِبْيَةٍ مُشَاغِبِينَ كَنَّوْهُ الْبُوهَالِي . هَذِهِ الْكُنْيَةُ السَّمِجَةُ تَسَبَّبَتْ لَهُ فِي ضُغُوطَاتٍ نَفْسِيَّةٍ وَخِيمَةِ الْعَوَاقِبِ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُتْلِفَ عَقْلَهُ وَ تَزُجَّ بِهِ لاَ قَدَّرَ اللهُ فِي مَارِسْتَانِ الرَّازِي .
أَحَسَّ الْمِسْكِينُ بِصُدَاعٍ شَدِيدٍ يُزَلْزِلُ رَأْسَهُ فَهَرَعَ فِي الْحِينِ إِلَى فِرَاشِهِ وَ هْوَ مُنْكَسِرُ النَّظَرَاتِ ، سَخِيُّ الْعَبَرَاتِ ، . أَسْدَلَ الْغِطَاءَ الصُّوفِيَّ عَلى جِسْمِـهِ الْمَنْهُــوكِ وَ لَمْ يُبْقِ مِنْهُ سِوَى وَجْهِهِ الْمُكْفَهِرِّ عَارِيًا. كَانَ يَسْتَرِقُ النَّظَرَ إِلَى قِطِّهِ سمسم وَ هْوَ شَارد الذِّهْنِ ، زَائِغُ الْبَصَرِ، تَائِهٌ بَيْنَ دُرُوبِ الضَّلاَلِ وَ مَسَالِكِ السَّرَابِ فِي صَحَار جَفَّتْ مَنَابِعُهَا وَصَارَتْ قَاعًا صَفْصَفًا لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَ لاَ كُثْبَانًا . هَا هُوَ سَمْسَمُ يَسْتَفِيقُ مِنْ رُقَادِهِ مُتَثَائِبًا، مُتَثَاقِلاً فَيَسْعَى إِلَى عَشَائِهِ مُتَرَنِّحًا لِيَلْعَقَهُ فِي لَمْحِ الْبَصَرِ مُسْتَأْصِلاً جُذُورَ الْجُوعِ منْ أَحْشَائِهِ .
وَ بَعْدَ أَنْ اِطْمَأَنَّ خَالِدٌ عَلَى قِطِّهِ سَمْسَم اِنْطَوَى عَلَى نَفْسِهِ يَصْبِرُ أغوارها . دَسَّ رَأْسَهُ المَكْدُودَ ،َ الْمَكْمُودَ فِي الْفِرَاشِ مُسْتَسْلِمًا لِهَوَاجِسَ بَغِيضَةٍ وَعَنْكَبُوتٍ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ فِي لَيْلٍ مُدْلَهِمٍّ تَوَاتَرَ عُوَاءُ ذِئَابِـــــــهِ وَ هُبُوبُ رِيَاحِهِ وَ هَدِيرُ رُعُـــــــودِهِ وَ قَعْقَعَةُ صواعقهِ وَانْهِمَارُ أَمْطَارِهِ .
: هَا هُوَ يَشُدُّ الرّحالَ إِلَى ذِكْرَيَاتٍ ضَبَابِيَّةٍ كَفَّنَتْهَا الدُّمُوعُ و الْأَحْزَانُ
« هَا هِيَ رَفِيقَتِي خَدِيجَةُ تَتَخَلَّى عَنِّي بَعْدَ ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ مِنَ التَّعَارُفِ مُدَّعِيَةً فِي وَقَاحَةٍ سَافِرَةٍ أَنَّهَا تَتَحَرَّجُ مِنَ أَنْ يَكُونَ لَهَا صَدٍيقٌ أَسْوَدُ الْبَشَرَةِ فَأَلْعَنُ فِي أَسى بَالِغٍ التَّمْيِيـــــزَ الْعُنْصُــــرِيَّ وَ المُحَرِّضِينَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَحْرِقُ فِي جُنُونٍ دَاخِـــــــلَ مِرْمَدَةٍ نُحَاسِيَّةٍ كُلَّ الصُّـوَرِ وَ الرَّسَائِلِ الَّتِي تَرْبِطُنِي بِهَا.
هَاهِيَ وَالِدَتِي آمِنَةُ تُوَدِّعُنِي وَ عَلَى ثَغْرِهَا الْأَبْلَجِ ابتسَامَاتٌ بَاهِتَةٌ وَ نَصَائِحُ نَاصِعَة . مَا أَبهَى طَلْعَتَهَا وَ هْيَ تُهَرْوِلُ لاَهِثَةً خَلْفَ سَيَّارَةِ الأُجْرَةِ لِسَكْبِ الْمَاءَ بِوَاسِطَةِ إِبْرِيقٍ مِنَ الطِّينِ مُتَمَنِّيَةً لِي سَفْرَةً مَيْمُونَةً وَ عَوْدَةً مُظَفَّرَةً ! وَ أُولَئِكَ إِخْوَتِي الصِّغَارُ يَبُوسُونَ خَدَّيَّ النّافِرَيْنِ وَ فِي أَعْيُنِهِمْ الذَّابِلَةِ دُمُوعٌ حَارَّةٌ كَأَنَّهَا الْجَمْرُ فَلاَ أَتَوَانَى عَنِ دَسِّ قَلِيلٍ مِنَ النُّقُودِ فِي أَجْيَابِهِمْ و لا أَدَّخِرُ جُهْدًا فِي التَّرْبِيتِ عَلَى أَكْتَافِهِمْ حَاثًّا إِيَّاهُمْ فِي مُنْتَهَى الْهَشَاشَـــــــــةِ و الْبَشَاشَةِ عَلَى الْاِجْتِهَادِ وَ الْمُثَابَرةِ وَ الاِمْتِثَالِ لِأَوَامِرِ وَالِدَتِهِمْ .
إِنَّهَا لَحَظَاتٌ مُثَقَلَةٌ بِالأَوْجَاعِ فَالْفِرَاقُ مُرٌّ كَالصَّبَّارِ لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْهُ لِنَحْتِ الْمُسْتَقْبَلِ وِ خِدْمَةِ تُونِسَ الْخَضْرَاء بِوَطَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ فِي كُلِّ شِبْرٍ مِنْ تُرَابِهَا الْعَزِيزِ. مِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ مِهْنَةَ التَّعْلِيمِ نَبِيلَةٌ وَ شَرِيفَةٌ لَكِنَّهَا عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ نَظَرًا لِمَا تَتَطَلَّبُه مِنْ صَبْرِ جَمِيلٍ وَ أَنَاتٍ وَ تَرَيُّـثٍ وَ حَزْمٍ وَ فَرَاسَةٍ وَ نَبَاهَةٍ وَ كِيَاسَةٍ .
هَا هُوَ خَالِدٌ يَلِجُ قِسْمَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ وَئِيدَ الْخَطْوِ يَجُرُّ نَعْلَهُ المُلَطَّخَ بالوحل جَرَّ الْأَسِيرِ لِلْأَغْلَالِ الَّتِي تُكَبِّلُهُ. كَان أَشْعَثَ الشَّعْرِ، غَرِيبَ الهَيْأَةِ ، شَدِيدَ الْإِمْلاَقِ : قَمِيصٌ كَثِيرُ الْأَخَادِيدِ وَمِئْزَرٌ أَبْيَضُ مُشَوَّهٌ بِحِبْرٍ بَنفْسَجِيٍّ وَ سِرْوَالٌ فَضفَاضٌ كَسِرْوَالِ شَارْلُو لاَ يُغَطِّي إِلاَّ جُزْءً مِنْ رُكْبَتَيْهِ.
يَقِفُ التَّلاَمِيذُ فٍي دَهْشَةٍ إِجْلاَلاً لَهُ ثُمَّ يَجْلِسُونَ عَلَى مَقَاعِدِهِمْ الْخَشَبِيَّة لِمُبَاشَرَةِ عَمَلِهِمْ فِي وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ حَوَالَيْ السَّاعَـــةِ الثَّامِنَـــــــةِ وَ النِّصْفِ. وَ فَجْأَةً اِنْفَرَطَ عِقْدُ الْقِسْمِ وَ تَحَوَّلَ هَذَا الفَضَاءُ التَرْبَوِيُّ إِلَى سِرْكٍ صَاخِبٍ بَطَلُهُ مُهَرِّجٌ غَرِيبُ الْهَيْأَةِ ، مُخَوَّصُ الشَّعْرِ . لَقَدْ كَثُرَ الْهَرَجُ وَ الْمَرَجُ وَ الْغَمْزُ وَ اللَّمْزُ وَ عَلاَ الْهُتَــافُ وَ التَّصْفِيرُ وَ الْتَهَبَتِ الْأَكُفُّ بِالتَّصْفِيقِ.
بَهْلُولٌ آخَرُ يُضَافُ إِلَى بَهَالِيلِ قَرْيَتِنَا ... مِسْكِينٌ لَقَدْ أَلِفْنَاهُ بَاسِمَ الثَّغْرِ ، أَنِيقَ الْمَظْهَرِ ، مُسَرَّحَ الشَّعْرِ ، بَرَّاقَ النَّعْلِ ... يَا رَبُّ حَبِّسْ عَلَيْنَا عُقُولَنَا وَ أَخْرِجْنَا مِنَ هَذِهِ الدُّنْيَا سَالِمِينَ، غَانِميِنَ.
اِشْتَدَّ زَعِيقُ خَالِدٍ عَلى تَلاَمِيذِهِ بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ يُؤَجِّجُ لَظَاهُ تَوَتُّرٌعَمِيقٌ :
- « الْعِلْمُ يَبْنِـــي بُيُوتًا لاَ عِمَــــــادَ لَـهَا
وَ الْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ وَ الشَّرَفِ
كَفَاكُمْ تَشْوِيشًا أَيُّهَا الْأَغْبِيَاءُ . مَا أَرْجُوهُ مِنْكُمْ الْآنَ هُوَ أَنْ تَحْتَرِمُونِي وَ تُقَدِّرُوا تَضْحِيَاتِي فكَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّنِي تَحَمَّلْتُ عَنَاءَ الْمَجِيءِ إِلَيْكُمْ رَغْمَ الْعَوَاصِفِ وَ الْأَمْطَارِ حَتَّى لاَ تُحْرَمُوا مِنْ دُرُوسِ هذَا اليَوْمِ. الْمُعَلِّمُ الْمُخْلِصُ لاَ تَسْتَقِرُّ حَالُهُ وَ لاَ يَهْدَاُ بَالُهُ إِلاَّ إِذَا انْتَزَعَ تَلاَمِيذَهُ مِنْ بَرَاثِنِ الْجَهَالَة وَ الضَّلاَلَةِ وَ نَوَّرَ عُقُولَهُمْ بِالْمَعَارِفِ وَ الْعُلُوم وَ الآداب وَ طَوِّعَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى لُغَةِ الضَّادِ وَ غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ . هَيَّا شَمِّرُوا عَلَى سَوَاعِدِ الْجِدِّ وَ الْاِجْتِهَادِ وَ بَادِرُوا بِإِحْضَارِ أَلْوَاحِكُمْ لِلْقِيَامِ بِالْحِسَابِ الذِّهْنِيِّ »
اِسْتَتَبَّ الْهُدُوءُ فِي الْقِسْمِ وَ انْطَلَقَتِ الدُّرُوسُ عَلَى قَدَمٍ وَ سَاقٍ بِعَزْمٍ ثَابِتٍ وَ إِرَادَةٍ لاَ تَلِينُ
إِلَى النُّورِ فَالنُّورُ عَذْبٌ جَمِيلٌ
إِلَى النُورِ فَالنُّورُ ظِلُّ لإلَـــــــهْ.
مَشْهَدٌ تَعِيسٌ آخَرُ مِنَ الْعِيَارِ الثَّقِيلِ قَرَعَتْ طُبُولُ حرْبِهِ مُخَيِّلَةً خَالِدٍ دُونَ اسْتِئْذَانِ : أَطْفَالٌ فِي عُمْرِ الْوُرُودِ يَرْكُضُونَ خَلْفَ دَرَّاجَةِ سَيِّدِهِمْ الْحَمْرَاءِ مُرَدِّدِينً بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ : « يَا بُوهَالِي ، يَا بُوهَالِي ، يَا بُوهَالِي»
هَلْ أَنَا مَجْنُونٌ ؟ هَلْ أَنَا مَجْنُونٌ ؟ هَلْ أَنَا مَجْنُونٌ ؟ رَدَّدَ خَالِدٌ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْآثِمَـةَ وَ هْوَ يَلْطِمُ خَدَّيهِ لَطْمًا شَدِيدًا وَ يَذْرِفُ دَمْعًا غَزِيرًا كَأَنَّهُ الْمَطَرُ فَتَبَلَّلَتْ وِسَادتُهُ تَبَلُّلَ الْأَرْضِ الظمآى ، الْعَطْشَى لِأَمْطَارِ الْخَرِيفِ الْأُولَى»
فَلِلْمَرَّة الْأُولَى يُغَالِبُ السُّهَادُ خَالِدًا فَيَتَقَلَّبُ عَلَى فِرَاشِ تَقَلُّبَ السَّمَكَةِ فِي المْقْلاَةِ فَتَشْتَدُّ زَفَرَاتُـــــــهُ وَ تَطِنُّ أُذُنَاهُ طَنِينَ الْنَحْلِ الْهَائِجِ قُرْبَ خَلِيَّتِهِ وَ تَتَضَاعَفُ نَبَضَاتُ قَلْبِهِ فَوَقْعُهَا أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ الْمِطْرَقَةِ عَلى السِّنْدَانِ فِي دُكَّانِ الْحَدَّادِ.. وَ فِي الْهَزِيعِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ بسط النوم جناحيه عَلَى جُفَونِهِ المُتَرَاقِصَةٍ فَأغْرَقَهَا فِي نَوْمٍ مضطربٍ مُوَزَّعٍ بَيْنَ الْأَحْلاَمِ الْوَرْدِيَّــــةِ وَ الْكَوَابِيسِ الْمُزْعِجَةِ .
وَ فِي الْيَوْمِ الْمُوَالِي اِسْتَهَلَّ خَالِدٌ نَشَاطَهُ فِي الْقِسْمِ بِإِلْقَاءِ هَذِهِ الأَبْيَاتِ الشِّعْرِيَّةِ :
-« لَوْلاَ الْمُعَلِّـــــمُ مَا كَـــانَ الْأَطِبَّـــــاءُ
وَ لاَ تَفَنَّـــــنَ فِي الْإِعْمَـــــاِرٍ بَنَّاءُ
فَلْتُكْرِمُوهُ وَ لاَ تَقْسُوا عَلَيْـــــهِ فَمَــا
أَهَانَهُ غَيْــرُ مَنْ فِــــي عَقْلِـــهِ دَاءُ
دَاءُ الْجَهَالَـــةِ بِالْإِذْلاَلِ يَدْفِــــنُنَا
وَالْعِلْمُ نُورٌ بِهِ لِلْمَجْـــــدِ إِحْيَـــــاءُ
مُعَلِّمِي سَوْفَ تَبْقَى لِي السِّرَاجَ و إِنْ
وَ إِنْ بَعُدْتَ عَنِّي فَلِلْأَرْوَاحِ إِسْرَاءُ»
سَوَّى خَالِدُ رَبْطَةَ عُنُقِهِ الزَّرْقَاءَ وَ هْوَ يَشْعُرُ بِكَثِيرٍ مِنَ الاِخْتِنَاقِ ثُمَّ أَرْدَفَ قَائِلاً وَ هْوَ يَنْظُرُ إِلَى تَلاَمِيذِهِ بِعَيْنَيْنِ مُتَوَرِّمَتَيْنِ، حَزِينَتَيْنِ:
- « هَلْ أَنَا مَجْنُونٌ ؟ هَلْ أَنَا بَهْلُولٌ كَمَا يَدًّعِي الْبَعْضُ مِنْكُمْ ؟ مَنْ مِنْكُمْ بِالْأَمْسِ إِبَّانَ الْغُرُوبِ أَثْنَاءَ عَوْدَتِهِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ تَجَرَّأَ عَلَى خَدْشِ كَرَامَتِي بِأَبْشَعِ النُّعُوتِ يَا بُوهَالِي ، يَا بُوهَالِي ، يَا بُوهَالِي ؟ »
شَخَصَتِ الْأَبْصَارُ وخَرَسَتِ الْأَلْسُنُ وَ خَيَّمَ عَلَى الْفَصْلِ مَلَلٌ مُوحِشٌ ، رَهِيبٌ تَقْشَعِرُّ لِهَولِهِ النُّفُوسُ . آنَذَاكً أَخْرَجَ خَالِدٌ مِنْ جَيْبِهِ رِسَالَةً قَصِيرَةً ثُمَّ قَرَأَهَا بِلِسَانٍ مُبِينٍ وَ هْوَ مُسْوَدُّ الْوَجِهِ ، كَظِيمٌ :
- « يَا أَيُّهَا المُشَاكِسُونَ التُّعَسَاءُ لاَ مَفَرَّ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنَ عِقَابِي وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَوْ فِي بُرْجٍ مِنَ الْأَبْرَاجِ. شَعْبَانُ، بِلاَلٌ ، مُصْطَفَى ، رَشِيدَةُ ، عَجِّلُوا إِلَى الصَّبُّورَةِ »
امْتَثَلَ هؤلاء الأَنْفَارُ الأَرْبَعَةُ إِلَى أَوَامِرِ سَيِّدِهِمْ فِي تَثَاقُلٍ مَذْعُورِينَ ، مُطَأْطِئِي الرُّؤُوسِ ، يَرْتَجِفُونَ ارْتِجَافَ الرِّيشِ فِــي مَهَـــــبِّ الرِّيـــحِ فَكَـــمْ كَانُــوا يَتَمَنَّوْنَ أنْ تَنْشَقَّ بِهُـــــمْ الأَرْضُ وَ تَبْتَلِعـهُمْ حَتَى لاَ يَعِيشُوا هَذِهِ الدَّقَائِقَ الْعَصِيبَةَ وَ هُمْ فِي قَفَصِ الاِتّهَامِ ».
وَجَّهَ خَالِدٌ إِلَيْهِمْ تُهْمَةَ الْقَدْحِ فِي كَرَامَتِهِ وَ الشَّرَرُ يَتَطَايَرُ مِنْ عَيْنَيْهِ :
- « أَنْتُمْ بالْأَمْسِ رَكَضْتُمْ حَلْفَ دَرَّاجَتِي الْعَادِيَّةِ دُونَ أَدَبٍ مُرَدِّدِينَ يَا بُوهَالِي ، يَا بُوهَالِي . حَانَ أَوَانُ مُحَاسَبَتِكُمْ عَلَى مَا اقْتَرَفْتُمْ مِنْ ذَنْبٍ فِي مُنْتَهَى الْعَدْلِ وَ الْإِنْصَافِ»
قَالَ شَعْبَانُ بِصَوْتٍ مَبْحُوحٍ عَلى غَايَةٍ مِنَ الْخُفُوتِ:
- « أَنَا أَبْغَضُكَ أَشَدَّ الْبغْضِ لِأَنَّكَ ضَرَبْتَنِي بقسوة عَلَى قَدَمَيَّ بِعَصَاكَ مُسْعُودَةَ دُونَ أَنْ تَسْتَفْسِرَ مِنِّي لِمَ قَصَّرْتُ فِي إِنْجَازِ تَمَارِينِ اللُّغَةِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ وَلُوعِي بِهَا ؟ »
- « مَا سَبَبُ تَقْصِيركَ فِي أَدَاءِ فُرْوضِكَ الْمَدْرَسِيَّةِ ؟ »
- « كَيْفَ سَأَسْمَحُ لِنَفْسِي بِإِنْجَازِ تمَارِينِ اللُغَةِ وَ أُمِّي مَرِيضَةٌ ؟ . لَقَدْ بِتُّ بِجِوَارِهَا طَوَال اللّيلِ دُونَ أَنْ يُغْمَض لِي جَفْنٌ فَكُنْتُ تَارَةً أُجَرِّعُهَا أَدْوِيَةً مُسَكِّنَةً لِلْأَوْجَاعِ وَ طَوْرًا أُضَمِّخُ رَأْسَهَا بِزَيْتِ الزَّيْتُونِ وَ مَاءِ الزَّهْرِ لِتَلْطِيفِ دَرَجَةِ حَرَارَتِهَا »
- « اِعْذِرْنِي عَلَى التَّسَرُّعِ فِي عِقَابِكِ دُونَ تخْمِينٍ وَ إِعْمَالِ رَأْيٍ »
- « بِكُلِّ تَأْكِيدٍ سَأُصْفَحُ عَنْكَ يَا سَيِّدِي رَغْمَ أَوْجَاعِي فَأَنْتِ فِي مَقَامِ وَالِدِي عَلَيْهِ رَحَمَةُ اللهِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَهْتَمُّ بِتَأْدِيبِي وَ تَعْلِيمِي فِي المَدْرَسَةِ غَيْرُ الْمُرَبِّينَ الْأَفَاضِلُ ؟ »
قَالَ بِلاَلٌ بِصَوْتٍ أَجَشٍّ تَخْنُقُهُ الْعَبَرَاتُ :
- « يَا سَيِّدِي أَنْتَ حَطَّمْتَ حَيَاتي وَ أَضْرَمْتَ فَتِيلَ الْهَلَعِ فِي نفسِي السَّجِيَّةِ فَكَرِهْتُكَ وَ نَفَرتُ مِنَ الدِّرَاسَةَ وَ جَنَحْتُ إِلَى التَّكَاسُلِ وَ الْخُمُولِ »
- « كَيْفَ كُنْتُ أُرْعِبُكُمْ ؟ »
- « بِتَوخِّيكَ أَسَالِيبَ تَأْدِيبٍ وَاهِيَةٍ لاَ تَمُتُّ لِلتَّرْبِيَة بِأَيَّةِ صِلَـةٍ . مَــنْ مِنَا سَلِـــمَ مِنَ تجْرِيـحِكَ وَ تَقْرِيـعِكَ وَ تَعْنِيفِكَ وَ لِسَانِكَ الْبَذِيءِ ؟ : يَا حِمَارُ ... يَا جَحْشُ ...يَا أَجْرَبُ ... يَا أَبْرَصُ ... يَا بُوهَالي ... يَا رَأْسَ الْبُومَةِ....».- « يَا لِلْأَسَفِ فَعِنْدَمَا يَتَمَلَّكُنِي غَضَبٌ شَدِيدٌ أَنْسَى أَنَّ خَيْرَ الْخِصَالِ حِفْظُ اللِّسَانِ وَ أَغْفِلُ عَنْ قَولِ اللهِ تَعَالَى فِي سُورَةِإِبْرَاهِيم : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ »
- « يَا سَيِّدِي إِيَّاكَ أَنْ لاَ تَمْلِكَ نَفْسَكَ عِنْدَ الْغَضَبِ و عِ جَيِّدًا أَنَّ الكَلِمَةَ الْخَبِيثَةً كَالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ أَصْلُهَا غَيْرُ ثَابِتٍ وَ فَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . وَ هَلْ تَسْتَطِيعُ الشَّجَرَةُ الْخَبِيثَةُ الصُّمُودَ فِي وَجْهِ الْعَوَاصِفِ وَ الْأَعَاصِيرِ؟ . إِنَّهَا شَجَرَةٌ عَدِيمَةُ التَّحَدِّي وَ المُقَاوَمَةِ ، لاَ خَيْرَ يُرْتَجَى مِنْهَا فَطُعْمُهَا مُرٌّ وَ رَائِحَتُهَا كَرِيهَةٌ وَ شَكْلُهَا ذَمِيمٌ لاَ يَسُرُّ النَّاظِرِينَ »- « سَأَسْعَى قَدْرَ الْإِمْكَانِ أَنْ أَكُونَ عَطِرَ اللِّسَانِ ، رَحِيمَ الْجِنَانِ ، غَزِيرَ الْعِرْفَانِ ، مَتِينَ الْبُرْهَانِ أُحَفِّزُكُمْ عَلَى تَحْقِيِـــــقِ أَحْلاَمِكُمْ فِي عَالَمٍ سَاحِـــرٍ زَاخِرٍ بِالْبَهْجَةِ وَ الْحُبِّ و الأَمَانِ »
- « يَا سَيِّدِي الْعَزِيزُ هَذَا الْكَلَامُ الرَّطْبُ اجْتَثَّ مِنْ نُفُوسِنَا الاضْطِرَابَ وَ الْحِقْدَ وَ غَرَسَ فِي قُلُوبِنَا الْأَمَلَ وَالْوِدَّ وَ ثَبَّتَ فِي مُهَجِنَا الْجِدَّ وَ الْكَدَّ »
قَالَ مُصْطَفَى وَ قَدْ افْتَرَّ ثَغْرُهُ عَنْ ابْتِسَامَةٍ طَافِحَةٍ بِالْبِشْرِ وَ الارتياح :- « أَنَا سَأَكْتَفِي بِالْاِعْتِذَاَرِ لأنَني انْضَمَمْتُ إلَّا هَذِهِ الْمَجْمُوعَةِ الضَّالَّةِ مِنْ بَابِ الْفُضُولِ دُونَ أَنْ تَكُونَ لِي خِلاَفَاتٌ مَعَكَ. مَا يُخْجِلُني هُوَ انْسِيَاقِي الْجُنُونِيُّ لأِهْوَاءِ هَذِهِ الْفِئَةِ الضَّالَّةِ دُونَ رَوِيَّةٍ وَ تَفْكِيرٍ فِي العَواقِب »
- « رَبِّي يَهْدِيكَ وَ يُصْلِحُ رأيكَ فَأَنْتَ أَنْبَغُ تِلْمِيذٍ فِي الْفَصْلِ. وَ خِتَامُهَا مِسْكٌ فَالْآنَ جَاءَ دَوْرُكِ يَا رَشِيدةُ لِلْإدْلَاءِ بِرَأْيِكِ فِي كَنَفِ الْحُرِّيَةِ فَحُرِّيَةُ التَّعْبِيرِ أَنْفَسُ مِنَ جَوْهَرَةٍ بَرَّاقَةٍ بِتَاجِ سُلْطَانٍ عَادِلٍ »- « يَسَرُّنِي فِي هَذَا الْمَقَامِ الاِسْتِدْلاَلُ بِقَوْلِ عُمُرٍ بْنِ الْخَطَّابِ مَتَى اِسْتَعْبَدْتُمْ النَّاسَ وَ قَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارًا »
- « اِعْلَمِي جَيِّدًا أَنَّ الحُرِّيَةَ لَيْسَتْ اِسْتِهْتَارًا وَ فَوْضَى فَمَا قُمْتُمْ بِهِ بِالْأَمْسِ هُوَ تَطَاوُلٌ عَلَى كَرَامَتِي وَ تَسْمِيمٌ لِأَجْوَاءِ الثِّقَةِ الَّتِي تُؤَلِّفُ بَيْنَ قُلُوبِنَا »- « أَنَا سَأَخُوضُ فِي الْحَدِيثِ بِإِسْهَابٍ عَنْ جَانِبٍ آخَرَ لَمْ يَتَطَرِّقْ إِلَيْهِ رِفَاقِي »
- « تَفَضَّلِي وَ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ تَامٍّ »
- « هَلْ تَتَذَكَّرُ يَا سَيِّدِي هَيْأَتَكَ مُنْذُ يَوْمَيْنِ ؟»
- « لاَ أَبَدًا فَأَنَا قَدْ نَسِيتُ عَشَاءَ الْبَارِحَةِ »
ضَجَّتِ الْقَاعَةُ بِالضَّحِكِ وَ الْهُتَافِ لِوَقْتِ وَجِيزٍ لاَ يَكَادُ يُذْكَرُ بَيْنَمَا تَمَادَتْ رَشِيدَةُ فِي ضَحَكَاتِهَا الرَّنَّانَةِ وَ حَدِيثِهَا الْمُمْتِعِ :- « لَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ تَسْمَحُ لِنَفْسِكَ بِارْتِدَاءِ مَلاَبِسِ رَجُلٍ بَدِينٍ ، وَسِيطِ الْقَامَة وَ أَنْتَ نَحِيــفٌ وَ طَوِيلٌ. كَانَ هِنْدَامُكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ غَيْرَ لاَئِقٍ وَ شَعْرُكَ مَنْفُوشًا كَمِسَلاَّتِ قُنْفُدٍ وَ حِذَاؤُكَ مُلَطَّخًا بِالطِّين»
نَكَّسَ خَالِدٌ رَأْسَهُ خَفَرًا مُظَلّلاً اِبْتِسَامَةً عَفْوِيَّةً سَطَعَتْ عَلى شَفَتَيْهِ وَ بَرَقَتْ بَرَقَ السَّيْفِ فِي عَيْنَيْهِ الدَّعْجَاوَيْنِ ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ رَصِينٍ :
- «هَطَلَتِ الْأَمْطَارُ بِغَزَارَةٍ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ وَ أَنَا فِي طَرِيقِي إِلَى الْمَدْرَسَـــةِ عَلَى مَتْنِ دَرَّاجَتِي فَبَلَّلَــــتْ شَعْرِي وَ مَلاَبِسِــــي وَ أَغْرَقَتْ حِذَائِي الأَسْوَدَ فِي الْأَوْحَالِ »
- « كَيْفَ جَابَهْتَ هَذِهِ الظُّرُوفَ الْقَاسِيَةَ ؟»- « اِضْطَرَرْتُ لِلِاِسْتِغَاثَةِ بِالمُدِيرِ فَرَقَّ قَلْبُهُ لِحَالِي وَ عَجَّلَ بِتَسْلِيمِي تِلْكَ الْبُذْلَة الْأَنِيقَةً الَّتِي أَثَارتْ ضَحِكَكُمْ وَ سُخْرِيَتَكُـــــمْ مِنِّي .»
- « لَمْ تُحْسِنْ الاِخْتِيَارَ لِأَنَّكَ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ الْغَرِيبَةِ انْتَحَلْتَ دَوْرَ مُهَرِّجٍ بِأَشْهَرِ سِرْكٍ عَالَمِيٍّ »
- « أُفٍّ مِنْ تَفْكِيرِكِمْ الصِّبْيَانِيِّ التَّافِهِ »
- « لاَ تَتَذَمَّرْ وَ لاَ تتأَفَّفْ مِنْ تَفْكِيرِنَا فَهْوَ حَصِيفٌ مُنْبَثِقٌ عَنْ خَيَالِ وَاسِعٍ يُجَنِّحُ بِنَا فِي أُفُقٍ رَحْبٍ لَيْسَ لَهُ آخِـــر »
- « أَنْ يَكُونَ لَكُمْ خَيَالٌ خِصْبٌ فَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ لَكِنْ أَنْصَحَكُمْ أَنْ تُوظِّفُوهُ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْكُمْ بِالنَّفْعِ »- « تَمَهَّلْ فَأَوَّلُ الْغَيثِ قَطْرٌ ثُمَّ يَنْهَمِرُ»
- « كَيْفَ سَأَتَمَهَّلُ حِينَمَا أَسْتَشِفُّ أَنَّ خَيَالَكُمْ عَبَثِيٌّ قَائِمٌ عَلَى الْمُكْرِ وَ الْاِسْتِهْتَارِ »
- « حَتَّى تَرْضَى عَنَّا فَنَحْنُ فَنَحْنُ نُعَاهِدُكَ أَنْ نُصْلِحَ مَا بِأَنْفُسِنَا مِنْ خَوَرٍ نَسَجَتْهُ الْوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِيَّةُ الْبَغِيضَةُ »
- « نَمُّوا أَخْيِلَتَكُمْ فِي الْعُلُومِ وَ التَّعْبِيرِ الْكِتَابِيِّ كَيْ تَكُونُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عُلَمَاءَ وَ رُوَّادَ فَضَـاءٍ وَ طَيَّارِينَ وَ فَلاَسِفَةً
وَ مُفَكِّرِينوَشُعَرَاءَ وَ قَصَّاصينَ بَارِعِينَ »
- « نِعْمَ الرَّأْيُ فَلَوْ تَعَلَّقَتْ هِمَّةُ الْمَرْءِ بِمَا وَرَاءَ الْعَرْشِ لَنَالَهُ وَ بِمَا أَنَّ الدِّينَ يُبَوِّئُ النُّصْحَ مَكَانَةً مَرْمُوقَةً أَنْصَحُكَ أَنْ تَهْتَمَّ بِأَنَاقَتِكَ وَ لَبَاقَتِكَ »
- » هَذَا أَمْرٌ لاَ جِدَالَ فِيهِ فَالْمُؤْمِنُ لاَ يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ. هَيَّا عُودُوا إِلَى مَقَاعِدِكِمْ آمِنِينَ فَإِنَّ عَفْوِي قَدْ شَمِلَكُمْ »
- « شُكْرًا جَزِيلاً فَنَحْنُ سَنَكُونُ عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّكَ يَا سَيِّدِي »
وَ مَا هِيَ إِلاَّ سَاعَةٌ أَوْ بِضْعُ سَاعَةٍ حَتَّى بَلَغَ هَذَا الْحِوَارُ الْعَفْوِيُّ ، الْقَيِّمُ شَاطِئَ الْأمَانِ . هَا هُوَ خَالِدٌ يُخَصِّصُ مَا تَبَقّى مِنَالْحِصَّةِ الصَّبَاحِيَّةِ لِدَرْسٍ فِي الْقِرَاءَةِ وَهْوَ مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ، هَادِئُ النَّفْسِ سَطَعَتْ عَلَى وَجْهِهِ الْأَسْمَرِ ابْتِسَامَاتٌمُشِعَّةٌكَأَنَّهَا نُجُومُ لَيْلٍ دَاجِنٍ .
وَ قَبْلَ رَنِينِ الْجَرَسِ بِخَمْسِ دَقَائِقَ وزَّعَ خَالِد عَلَى تَلاَمِيذِهِ دَقْلَةَ النُّورِ وَ لِسَانُ حَالِهِ يُفْصِحُ عَنَ حُبِّهِ لهؤلاء الصِّبْيَةِ :
- « كُلُوا هَنِيئًا مَرِيئًا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ هَذَا التَّمْرِ اللَّذِيذِ وَ لاَ تُلْقُوا بِالنَّوى فِي أَرْجَاءِ الْقِسْمِ بَلْ احْفِظُوهُ فِي مِقْلَمَاتِكِمْ وَ لاَ تتَقَاعَسُوا عَنْ غَرْسِهِ فِي بَسَاتِينِكُمْ وَ كُلُكُمْ أَمَلٌ أَنْ يَنْبُتَ وَ يَصِيرَ نَخْلٍاَ نَضِيدًا يُبْهِجُ النَّاظِرِينَ »
أَجَابَ الْأَطْفَالُ فِي صَوْتٍ وَاحِدِ وَ قَدْ الْتَمَعَتْ عُيُونُهُمْ غِبْطَةً :
- « نِعْمَ مَا اقْتَرَحْتَ يَا سَيِّدِي »
وَ عَلَى السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ صَبَاحًا وَلَّى هؤلاءِ التَّلاَمِيذُ أَدْرَاجَهُمْ مُنْشَرِحِي الصُّدُورِ فَطَمَرُوا النَّوَى
فِي الثَّرَى فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ حَدَائِقِهِمْ رَاجِينَ الله أَنْ يُحَقِّقَ أَمَانِيَهُمْ وَ يُبَارِكَ سَعْيَهُمْ . و مَا إِنْ فَرَغَ الشَّيْخُ خَالِدٌ مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ حَتِّى أَجْهَشَ بِالبُكَاءِ وَ فَاضَتْ مُقْلَتَاهُ بالدُّمُوعِ كَفَيَضَانِ وَادِي مَجْرَدَةَ فِي السَّنَوَاتِ
الْغَزِيرَةِ الأَمْطَارِ. و فِي لَمْحِ الْبَصَرِ هَبَّ إِلَيْهِ أَحْفَادُهِ يُكَفْكِفُونَ دَمْعَهُ وَ يُوَاسُونَهُ و يُفَرِّجُونَ كَرِبَهُ. طَوَّقَتْ ضُحَىرَقَبَتَهُ الْمُتَغَضِّنَةَ بِذِرَاعَيْهَا الْبَضَّيْنِ النَّاعِمَيْنِ وَ هَمَسَتْ إِلَيْهِ بِكَلامٍ نَاعِمٍ وَ هْيَ تَغْمُرُ جَبِينَهُ الْمُقَطَّبَ بِقُبُلاَتِ عَذْبَةٍ أَرَقَّ مِنَالنَّسِيمِ وأَعْطَرَ مِنَ الْوُرُودِ :
- « يَا جَدِّي الْعَزِيزُ إِيَّاك أَنْ تَبْتَئِسَ فَأَنْتَ بَيْنَنَا مُعَزَّزٌ مُكَرَّمٌ »
- « كُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ أَنّنِي أَشْعُرُ بِحَنِينٍ جَارِفٍ إِلَى جَزِيرَةِ الأحلام وَ شَوْقٍ فَيَّاضٍ إِلَى كُلِّ مَنْ عَرِفْتُهُمْ فِيهَا »
- « مَا رَأْيُكَ أَنْ أُرَافِقَكَ فِي زِيَارَةٍ اسْتَطْلاَعِيَّةٍ إِلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ السَّاحِرَةِ »
- « فِي فَصْلِ الصَّيْفِ بِحَوْلِ اللهِ . أَخْبِرِينِي بِصَرَاحَةٍ أَيْنَ كُنْتُمْ مُخْتَفِينَ فَاَنَا لمْ أَهْتَدِ إِلَيْكُمْ ؟»
- « كُنَا نُصْغِي إِلَى حِكَايَتِكَ الطَّرِيفَةِ بِإِمْعَانٍ خَلْفَ شَجَرَةِ التُّوتِ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنْكَ »
- « يَا لَكُمْ مِنْ أَحْفَادٍ أَذْكِيَاءَ !»
- « جَدِّي فِيرُوسُ كُورُونَا يُلَاحِقِنَا فِي كُلِّ مَكَانٍ بَاثًّا فِينَا الْخَوْفَ و الْقَلَقَ فَمَتَى سيَنْدَثِر ؟»
- « اِطْمَئِنِّي فَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ عَلَى أَقْصَى تَقْدِيرٍ سَتُشْرِقُ شَمْسُ الْحُرِّيَةِ مِنْ جَدِيدٍ وَ سَتُدَوِّي زَغَارِيدُ النِّسْـــوَةِ وَ طَلَقَاتُ الْمَدَافِعِ فِي عِنَانِ السَمَاءِ اسْتِبْشَارًا بِالظَّفَرِ عَلَى وَبَاءِ كُورُونَا »
- « جَدِّي عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَزِمَ جَمِيعًا بِالْحَجَرِ الصِّحِّيِّ الشَّامِلِ مُتَحَلِّينَ بِالصَّبْرِ الْجَمِيـــلِ وَ الْيَقَظَةِ الصَّارِمَةِ حَتَّى تَنْفَرِجَ هَذِهِ الْأَزْمَةُ وَيَنْبَلِجَ صُبْحُهَا بِأَقَلِّ عَدَدِ مِنَ الضَّحَايَا و الْخَسَائِرِ.هَلْ مِنْ حَدِيثٍ نَبَوِيِّ شَرِيفٍ عَنِ الْجَوَائِحِ و كَيْفِيَّةِ صَدِّهَا ؟»
- « عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ فِي الطَّاعُونِ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ »
- « أُفٍّ مِنْ فِيرُوسِ كُورُونَا و أُفِّ مِنَ الْقَلَقِ الَّذِي يُنَغِّصُ حَيَاتِي بِقَدْرٍ لاَ يُحْتَمَلُ فَمَا أَحْوَجَنِي إِلَى الْحُرِّيَةِ وَ الْاِسْتِقْرَارِ. أَيْنَ أَنْتُمْ يَا رِفَاقِي الْأَخْيَارُ ؟ أَيْنَ أَنْتُمْ أَيُّهَا المُرَبُّونَ الْأَفَاضِلُ ؟ مَتَى سَنَلْتَقِي فِي مَدْرَسَتِنَا الْحَبِيبَةِ .أَنَا مُشْتَاقَةٌ إِلَيْكُمْ اشْتِيَاقَ أَهْلِ غَزَّةَ لِلصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الأَقْصَى رَغْمَ أَنْفِ الصَّهَايِنَةِ »
و عَلَى حِينِ غِرَّة ، رَفَعَ الْآذَانَ إِمَامُ أَقرَبِ مَسْجِدٍ مُعْلِنًا عَنْ حُلُولِ وَقْتِ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ فَوَلَّى الْأَحْفَادُ وُجُوهَهُمْ شَطْرَ الْمَنْزِلِ لِتَنَاوُلِ الْعَشَاءِ أَمَّا جَدُّهُمْ خَالِدٌ فَبَعْدَ أَنْ توضَّأَ بِمَاءٍ طَهُورٍ وَلَّى وَجْهَهُ شَطْرَ الْقِبْلَةِ لِأَدَاءِ صَلَاتِهِ فِي وَرَعٍ وَ اطمئنانٍ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى