المقامات علياء الداية - الجدار

"قبل قليل كنت تنعم بصحبة صديقك الفنان التشكيلي في منزله حيث تتجاور اللوحات والنافذة ذات الإطار الأخضر، فتنسى أن ثمة جدراناً، ويغدو المكان مفتوحاً متسعاً على ضيقه، وتنسى أيضاً ما تموج به المدينة من القلاقل. أحمر، أصفر، أزرق... دوائر، مستطيلات ومربعات، أحجام وأبعاد ألوان وطيوف تجعل من هذا المكان إشعاعاً يجذبك في هذا الحي القديم بمسحته الأثرية، بعيداً عن الحي الحديث حيث تقيم. أما الآن، فأنت وحيد تتأبّط اللوحة "هواجس" التي أهداك إياها صديقك، يحتويك هذا الظلام والحواري الضيقة".

"ماذا دهاك يا سعيد؟ "

قدماي مشدودتان إلى نابض يحركهما كالآلة! أهو الخوف؟ خطوة فخطوة وأنا منحبس الأنفاس. في هذه الحواري المتجاورة لا بد من استخدام المصباح نهاراً، والآن لا مفرّ من عبورها فهي طريق مختصر بعيد عن العيون ترصد مخترقي حظر التجول. فالدوريات الموزعة في شوارع المدينة لن تشمل هذه الأزقة الموحشة.

"تشعر كأنك مطارد... تقف! إنه المنعطف الشهير، فهو يبدو للوهلة الأولى وكأنه جدار، ثم ما يلبث القرب منه أن يتيح زاوية يميل معها الطريق ليفضي إلى انعطاف يدخل في الحارة التالية. لكنك تقف، تكاد اللوحة تسقط لكنك تشد قبضتك، ويخفق قلبك كالطبل:"هنا جن الحاج مناور!" وتحاول عبثاً طرد العبارة، تستقر في قلبك، وكأنها انطلقت من الجدار حيث تتسمّر نظراتك... ومع ضبابية الظلام تشعر أن ضربات قلبك تأخذك إلى عالم من الخفة، فقدماك ليستا الآن على الأرض، وإنما أنت في عالم آخر وقد عادتك ذكرى ذلك اليوم: كنت في المكان ذاته طفلاً مع الأخ الأكبر وأصحابه حيث وقفتم فجأة ودوت العبارة :"هنا جنّ الحاج مناور!"

ما تزال الآن واقفاً والمخيلة تستعيد الرواية الشهيرة: [ لم يكن حينها قد صار حاجاً بعد، مناور كان مثلنا ليلاً يمشي في هذه الدرب الحالكة، وصل إلى حيث المنعطف المعهود، كالمعتاد، إنه يبدو جداراً، اقترب... ما يزال الجدار ماثلاً، اقترب أكثر حتى لم يبق سوى شبر واحد... جدار! مدّ يده، لمسه، فإذا به شيء طري، يشبه الوسادة. يا للعجب! خطر له خاطر، فأخرج سكينه، غرزها، خطّ بها من أعلى لأسفل. يا للدهشة! إنه الدم! ثم كأن شيئاً لم يكن اختفى كل شيء، والجدار. أكمل مناور طريقه عجلاً إلى البيت وقد توجّس مما جرى، ولكنه ما كاد يستقر في غرفته على سطح الدار ويهدأ للرقاد حتى برز له رجلان اثنان ضخما الجثة، عظيما المهابة... وقبل أن يتمالك نفسه من الرهبة بادراه بالقول:"أيها الإنسي، لقد قتلت أخانا في ليلتك هذه، وإنا قوم من الجنّ لا بدّ لنا من الثأر، وما يمنعنا إلاّ أن أخانا هذا متزوّج، وله ولدان، فإما أن نقتلك، وإما أن تصحبنا فتتزوج الأرملة وتكون للولدين الراعي المقيم." فما كان إلا أن قبل الخيار الثاني، ثم إنه اختفى لا ندري من أمره شيئاً، إلى أن عاد فجأة بعد سنوات أربع، وقد علمنا أنه مكث في ديارهم إلى أن حلّ الله عقدة من أمره فتيسّر له سبيل العودة...].

والآن يا سعيد، أماضٍ أنت أم واقف؟ ما تزال متأبطاً اللوحة، وما يزال الجدار أمامك، ولكن، ما أكثر الجدران!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى