حامد فاضل - للشاي طعم آخر

الصباح برعم يتفتح ليعوض شجرة العمر عن ورقة أسقطتها رياح الأمس . وأنا أحب الصباح ، الهواء بارد منعش ، والدنيا نقية . غادرت الفندق ، فاستقبلني الشارع المغسول بالندى ــ الوزارة لا تستقبل مراجعيها إلا في الساعة العاشرة ــ ملأت رئتي بعطر فتاة مرت بجانبي ، وطمأنت نفسي : ( سيتذكرني ) المسافة ليست طويلة ، ولا قصيرة ، لم أستقل تاكسي ولم أفكر بسيارة الأنفار ، سرت على قدمي .. مرت سيارة عسكرية ، نفثت من مؤخرتها دخاناً أبيض واختفت ، أنا تسرحت من الجيش وذاهب الآن لإشغال وظيفة . سأقابل الشخص المسؤول عن رفضي أو قبولي . . في الزمن الممتد بين الفندق والوزارة نشطت الذاكرة .. في الصباح يطيب النوم في سطح الدار ، بعد ليلة نكون فيها وليمة ( للبق ) أكور جسمي دافعاً ركبتي في بطني وحاشراً رأسي في صدري . يصعد لي صوت أبي من جوف الحوش : (( تنزل لو أصعد أرميك من فوق )) . قبل أن ينفذ تهديده أكون قد نزلت ، تمرحضت ، وغسلت وجهي وجلست أمامه . أغمس كعكتين أو ثلاثاُ في الشاي . أفطر وأتوكل على الله . عند باب مركز الشرطة ، أفكر بالرجوع ، أتذكر أن العطلة ستنتهي ـــ أنا نجحت الى الصف الأول المتوسط ـــ والمدرسة حين تجىء تريد دفاتراً وأقلاماً وكتباً وملابس . فأسلم على الشرطي الحرس وأدخل .. أنا أخاف الشرطة ، مرة ضربت شرطياً بالكرة ، كنا نحن فريق الفتوة ، نلعب في شارعنا ، أمسك بالكرة وركض وراءنا فطرنا كالعصافير .. ويعيد (( الأسطة )) صاحب حكمته كما يفعل كل يوم : (( أنت لا ترى لا تسمع لا تتكلم )) . ويسألني : (( أنت ماذا ؟ )) فأجيب : (( أنا أعمى أصم أبكم )) ، ( والأسطة ) صاحب هو مستأجر مقهى المركز وأنا أعمل عنده . أحمل صينية الشاي ، يفتح لي شرطي باب السجن فأدخل . يستقبلني السجناء بالترحاب ، أسكب لهم الشاي ، وأجلس في الركن حتى ينتهوا . تهاجمني أسئلتهم : (( كيف هي الأحوال في الخارج ـــ أي فلم يعرض الآن في السينما ؟ هل السماوة حلوة ؟ هل هي كبيرة ؟ )) أتدرع بحكمة ( الأسطة ) صاحب ، أجمع الاستكانات الفارغة ، وأنصرف .. ذلك الصباح بعت الكثير من الشاي ، كان السجن مزدحماً بوجبة سجناء جدد جئ بهم من بغداد .. تقدم أحدهم نحوي ، كان وجهه جميلاً معافى ، وضع في كفي ربع دينار ، بحثت في جيبي عن باقٍ ٍ ، قال : (( خذه كله )) . بعد الغداء أدخلت صناديق الببسي . فتحت القناني وجلست في ركني كالعادة ، جلس ذلك السجين بجانبي ، سألني عن أسمي ، جلست حكمة ( الأسطة ) صاحب بيننا . هممت بألانصراف ، ناداني ( غافروش * ) خنقت حكمة ( الأسطة ) صاحب ، صحت : (( اسمي أحمد )) صفق : (( الحمد لله ، نطق )) ، انصرفت تلاحقني قهقهات السجناء .. على مر الأيام صار ذلك السجين صديقي ، كسر قيودي ، تحررت من حكمة ( الأسطة ) صاحب ، انطلق لساني ، تحدثت ، وتحدثت ، وتحدثت .. مرة طلب مني شفرات حلاقة قلت : (( ستقطع شريانك )) قال : (( حياتي ملك وطني ، لا يحق لي التصرف بها )) . تحايلت على السجان وجلبت له ما أراد ، فرح بذلك قال : (( لقد نجحت بالامتحان ، أتعرف صاحب مكتبة الوطن ؟ ــ حركت رأسي الى الأسفل ــ أذهب إليه سيعطيك بضع أوراق حاول أن تدخلها ألي )) .. لطمت أمي خديها : (( هؤلاء ضد الحكومة ، ونحن فقراء نريد أن نعيش )) قلت : (( أنا رجل وقد أعطيت وعد رجال )) وضعت أمي الأوراق على بطني وشدتها بالحزام ، لبست دشداشتي وخرجت . استحمت شمس الصباح في ( طاسة ) الماء التي رشتها أمي ورائي .. في باب السجن قال الشرطي الحارس : (( لا أسمح لك بالدخول . سيقوم المعاون بالتفتيش )) سكبت له شاياً (( تفضل أبو إسماعيل ، من رأس القوري )) .. وخزني في بطني مداعباً فاصفر وجهي ، فتح لي باب السجن .. كوَّن السجناء جداراً بيني وبين الشرطي . كنت أرتعش كطير بليل رفع صديقي دشداشتي وسحب الأوراق شعرت بالارتياح سكبت الشاي وجلست في ركني .. في استعلامات الوزارة جلست أنتظر مع المنتظرين ، دقت الساعة العاشرة ، ابتدأت المصاعد الكهربائية تعمل . اتجهت الى القسم الذي أريد ، أعطيت اسمي الى السكرتيرة وانتظرت . دخل قبلي بعض الشباب وخرجوا ثم دخلت .. أضيفت الى الوجه الجميل المعافى نظارة طبية ، وتأطر بفودين فضيين .. نظر في أوراقي : (( اسمك أحمد وأنت من السماوة )) قلت : (( أنا غافروش )) . رفع رأسه ، اتسعت العينان في زجاج النظارة وتبسم الوجه الجميل .. نهض اليَّ صافحني ، رفع النظارة : (( ما شاء الله ، اتفضل استرح )) سحب الستارة فاندلق ضوء الصباح ، جلست في ركن الأريكه .. ابتسم لي ، ضغطت زر الجرس وطلب الشاي .


* هامش
- غافروش : أحد شخوص رواية البؤساء لفكتور هيجو




* عن الناقد العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى