محمد بوتنبات - الأرقام العربية أو أرقام الغبار

يعتقد بعض الناس أن الأرقام المتداولة في المشرق هي الأرقام العربية، في حين أن الأرقام المتداولة في شمال إفريقيا والغرب ، . هي أرقام غربية. وغرضي من هذه المقالة المختصرة والبسيطة، هو إزالة هذا اللبس عند البعض.
يقول مونتيني* Montaigne في الكتاب الثاني من (المحاولات) : " ((ولدتُ وتغذيتُ في الحقول بين الفلاحين ، لدي أدوات وأملك أثاث بيت منذ أن ترك لي مكانهم أولئك الذي سبقوني في امتلاك الخيرات التي أتمتع بها ، والحالة هذه أني لا أعرف الحساب سواء بالخشيبات Jetons أو بريشة الكتابة)) .

نحن هنا في فرنسا حوالي 1580 وفي أوج عصر النهضة، وأمام رجل يعد من بين الرجال المتبحرين في علوم عصره. جال كثيرا بين الأقطار، وملك مكتبة غنية بالذخائر. ومع ذلك ، فهو يعترف دون خجل بأنه لا يعرف القيام بعمليات حسابية . هل كان على علم بما اكتشفه علماء العرب وقبلهم الهنود في مجال الرياضيات؟ إنه يعلم فقط أن هناك نوعين من الحساب: أحدهما يتم بواسطة (الفيتشات ) على طاولة الحساب ، وثانيهما ينجز ( بالريشة ) بواسطة الأرقام . الأول وهو الحساب التقليدي المعقد في عملياته ، وقد ورثوه عن الإغريق والرومان ؛ أما الثاني فهو الحساب بالأرقام ، وينسب إلى الحضارة العربية الإسلامية . ولا أحد فكر في تعليمه هذا الحساب، ومن المحتمل أن يكون حذرا منه مثل باقي معاصريه.
ومع ذلك، لولا " العرب " لما أمكن للأغلبية من الأوروبيين من تعلم الحساب أبدا، ولما أمكن للعلم والتقنية أن يصيرا ما هما عليه اليوم. هذا هو الحكم الذي خرج به جورج إفراح في كتابه (الأعداد أو تاريخ اختراع كبير) .
لكن ،ما هي الأرقام العربية وكيف نشأت ؟
استعمل الشرق العربي وإلى اليوم الأرقام الهندية ( - ۱ - ۲ - ۳ - ٤ - ٥ - ٦ - ٧ - ۸ – ۹-.)، والاسم الذي يطلق عليها : (الرقم الهندي) دال على أصلها ومصدرها . في حين أن المغرب العربي والأندلس اخترع لنفسه أرقاما أخرى، تطور رسمها مع الزمن إلى أن صارت على ما هي عليه اليوم ( 1-2-3-4-5-6-7-8-9-0 )، وأطلقوا عليها اسم : ( أرقام الغبارLes chiffres de poussière) ، حيث كان المحاسبون ينثرون الغبار الدقيق على اللوح ليرسموا عليه الأرقام ، وليقوموا بالعمليات الحسابية المختلفة . هذه الأرقام هي التي انتقلت إلى أوروبا عن طريق الأندلس . وحيث أن العرب قد وصلوا في تلك الحقبة إلى أعلى مستوى من الثقافة والعلم، تجاوز بكثير ثقافة وعلوم الشعوب الغربية، فإن الاسم الذي أعطي إلى تلك الأرقام هو (الأرقام العربية) ولازالت تحمله إلى اليوم.
لكن كيف انتقلت (أرقام الغبار) إلى الغرب الأوروبي؟
لا نخال ان هذه الأرقام قد انتقلت إلى الغرب الأوروبي بين عشية وضحاها ؛ فالمسألة أعقد من ذلك ! لنبدأ بما ينبغي البدء منه . كان التعليم في أوروبا الغربية منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى نهاية القرون الوسطى ، تعليما بدائيا . فالقلة المحظوظة تتعلم قبل كل شيء القراءة والكتابة، ثم بعد ذلك يشرحون لهم قواعد النحو والجدل والخطابة، وأحيانا الموسيقى النظرية؛ ثم تُقدم لهم دروس ومعلومات عامة عن الفلك والهندسة؛ وفي نفس الوقت يتعلمون كيف يعدون بأصابعهم، وكيف يقرؤون ويقيدون الأرقام الرومانية؛ ولا شيء غير هذا؛ أما العمليات الأولية في الحساب فلا تشكل جزءا من المقرر. ينبغي القول إذن ، أن القيام بالعمليات الحسابية الأولية لم تكن في ذاك الزمان في متناول الجميع ، بل كان المجال مقصورا على طائفة محظوظة من المتخصصين الذين تلقوا دروسا طويلة ومملة عن الاستعمال العجيب والمعقد للمِعْدادات الرومانية **. إن الاحترام الكبير الذي حظي به هؤلاء المتخصصون ليدل على الصعوبة القصوى لإجراء العمليات الحسابية . فعملية الضرب التي ينجزها اليوم طفل متوسط في بضع دقائق ، كانت تتطلب منهم عملا دقيقا ومضنيا لعدة ساعات . والتاجر الذي يريد معرفة دخله ومصاريفه الشهرية، عليه أن يستعين بخدمات أحد هؤلاء المتخصصين في الحساب.
يحكى أن تاجرا في العصور الوسطى اغتنى بما يكفيه لمنح ابنه تكوينا تجاريا، وفي أحد الأيام قصد أحد الأخصائيين المرموقين في الحساب لاستشارته عن المعهد الذي يمكن أن يوجه إليه ابنه. فكان جواب الأخصائي هو التالي : " إذا أردت أن تكتفي بتعليمه عمليات الجمع والطرح ، فأي جامعة ألمانية أو فرنسية تفي بالغرض . بالمقابل، إذا رغبت في أن يعمق تكوينه في عمليات الضرب أو القسمة، وإن كان بمقدوره على ذلك، فعليك أن ترسله إلى المدارس الإيطالية “.
ذلك أن إيطاليا في ذلك العصر كانت على اتصال بالعرب، وأن المدارس قد تخصصت في العمليات الحسابية المعقدة، بينما ظلت الجامعات الألمانية والفرنسية تهتم فقط بالعمليات الحسابية العادية، وذلك إلى غاية القرنين الرابع عشر والخامس عشر. بل ظلت الإدارات الأوروبية على هذه الحالة من الجمود إلى غاية القرنين السابع عشر والثامن عشر، كما يشهد على ذلك حكاية صموئيل ببيس*Samuel Pepys
ما هي حكاية صموئيل ببيس ؟
عندما أنهى صموئيل دراسته بجامعة كمبريدج ، عُيّن كاتبا بهيئة أركان البحرية ، ثم تحمل سنة 1662 مسئولية الصفقات التي تتم بين أركان البحرية والممولين . هذا "الكاتب " الذي تلقى تكوينا جامعيا ، وجد نفسه عاجزا عن القيام بالعمليات الحسابية الضرورية ، للتدقيق في مشتريات الخشب لصالح البحرية الانجليزية !
رأى أنه من الضروري أن يعود إلى المدرسة أو بالأحرى أن يجوب القارة الأوروبية طولا وعرضا ليتعلم فن الحساب ويتقنه . وبما أن الإدارة الانجليزية لا تشتغل إلا بالمعدادات ، فكان عليه أن يستيقظ كل يوم على الساعة الرابعة صباحا ليدرس و يتمثل القواعد التي تناسبها .
انتهى صموئيل في الأخير إلى تجاوز عجزه، وأشرك زوجته معه في هذه الدراسة. وهذا ما كتبه في مذكرته في نهاية سنة 1663 : "الآن تستطيع زوجتي أن تنجز دون عناء عمليات الجمع والطرح وحتى عمليات الضرب ، ولم أجرؤ بعد على إرباكها بعمليات القسمة " .
هذا ما يجعلنا نفهم اليوم ، أن الذين مارسوا فن الحساب ، كان ينظر إليهم على أنهم (سحرة) ، ويتمتعون بقوة فوق طبيعية تقريبا . وربما لا زلنا نحتفظ إلى اليوم ببقايا هذه النظرة..
هناك من لا زال إلى اليوم في الغرب، يتأسف على ضياع الفرصة التي أتيحت لهم قبل الحروب الصليبية، في الاستفادة من علوم العرب التي وصلت إلى حدود بلادهم الجنوبية، في القرن التاسع الميلادي. كان من الممكن أن يحدث ذلك منذ سنة ألف الميلادية على يد راهب فرنسي ، وكان من الممكن لو تابعه رجال الدين في نشر العلوم الرياضية ، لقام في المجتمع الأوروبي ، بنفس الدور الذي لعبه الخوارزمي في الحضارة العربية الإسلامية . هذا الراهب هو جيربر دورياك Gerbert d’Aurillac * الذي صار سنة 999 ميلادية بابا الكنيسة الكاثوليكية تحت اسم سيلفيستر الثاني Sylvestre II **
كان شغوفا بالرياضيات وعلم الفلك . وخلال إقامته بالأندلس . تتلمذ في كل من أشبيلية وقرطبة على يد معلمين عرب ، فعلموه كيف يُشَغّل الاسطرلاب ، وكشفوا له عن المنظومة العددية ، ولقنوه كل مناهج الحساب . وعند عودته إلى فرنسا، أدار ما بين 972 و 982 المدرسة الأبرشية بمدينة رانس Reims. وقد أثر تدريسه بصفة عامة على مدارس عصره ، وأثار فيهم تذوق الرياضيات . وهو في الأصل من أدخل الأرقام العربية إلى الثقافة الأوروبية. نعم أدخل الأرقام العربية، لكن، بدون الصفر ولا مناهج الحساب العربية أو ذات الأصل الهندي.
فماذا حصل بالفعل؟
الواقع أنه كلما كان جيربر دورلياك (ق.10) يريد من المناهج الرياضية العربية أن تسود في الثقافة الأوروبية إلا واصطدم بمقاومة عنيفة من طرف رجال الدين. كان هؤلاء يعتقدون اعتقادا راسخا بأنهم الورثة الشرعيون والمخلصون للثقافة الرومانية " العظيمة " التي تعلو في نظرهم على كل الثقافات؛ لذلك كان من الصعب عليهم الاعتراف بتفوق الثقافة العربية الإسلامية. فالوقت لم يكن بعد مناسباا لإحداث مثل هذه الثورة العلمية.
وعلى العموم، لم تستعمل الأرقام العربية التي أدخلها جيربر إلى أوروبا، في المرحلة الأولى، إلا كوسيلة لتسهيل الحساب بالمعدادات العتيقةBoulier التي تعود إلى زمن القياصرة . وعوضا عن أن يوضع عدد من الحصى في كل عمود من المعداد حسب ما يتطلبه العد ، استعملت (أقراص ) من عظم القرن ، نقشت عليها الأرقام العربية من 1 إلى 9، وحملت كل منها اسما خاصا :
1 Igin - 2 Andras – 3 Ormis – 4 Arbas – 5 Quimas – 6 Caltis -7 Zenis – 8 Teminias – 9 Celetis .
وهكذا عوضت مثلا 6 أو 7 أو8 من الحصى التي توضع في أعمدة المعداد بأقراص تحمل أرقام 6 أو 7 أو 8 . وبطبيعة الحال ، لا أحد في هذا الزمان ، احتاج إلى استعمال الصفر ، فأعمدة المعداد تسمح بتجاوزه . لتمثيل العدد 9078 مثلا ، يكفي وضع قرص 8 في عمود الآحاد ، وقرص 7 في عمود العشرات ، وقرص 9 في عمود الآلاف ، ولا شيء في عمود المئات .
لم يكن انتشار الأرقام العربية في الغرب بواسطة الكتابة ، بل كان عن طريق استعمال الأقراص ، كما كانت تنتقل عن طريق المبادرات الفردية ؛ لذلك اقتصرت على طائفة محدودة من الأخصائيين المحاسبين .
يمكن لمؤرخ أن يتصور أنه باستيراد الأرقام العربية من العالم الإسلامي ، انفتح عهد جديد في أوروبا مع البابا سيلفيستر الثاني ، وكان من الممكن للأوروبيين أن يحققوا تقدما هائلا في المجال العلمي ؛ إلا أن هذا الحلم سرعان ما تبدد بواسطة الجهل والنزعة المحافظة التي كان عليها الأوروبيون في ذلك العصر . هذا وقد انضاف إلى جبهة الرفض والمقاومة ، بعض المحاسبين الذين اعترضوا على الأرقام العربية ، وطالبوا بنقش الأرقام الرومانية على الأقراص : ماذا نفعل بهذه "العلامات الشيطانية الآتية من عند العرب ، أنصار الشيطان " ؛ بل هناك من أسرَّ بأن البابا سيلفيستر الثاني كان خيميائيا وساحرا ، نهل من علوم العرب الكفرة ، ومن الأكيد أنه باع روحه للشيطان **. إنها تهمة خطيرة وجهت إلى رجل العلم ، ولاحقته منذ قرون ، إلى درجة أنه في سنة 1648 رأى بابا الفاتيكان أنه من الضروري فتح قبر سيلفيستر للتحقق إن كان لا يزال يسكنه عفاريت جهنم .
تلك هي قصة هجرة الأرقام العربية إلى أوروبا .. عسى أن نستفيد منها في الاتجاه المعاكس، وألا نسقط في نفس التعصب الذي سقط فيه الغرب قديما..

** Luciferاسم شخصي ، ويعني باللاتينية : حامل النور، إلا أنه يقرن في الثقافة المسيحية بالشيطان.
محمد بوتنبات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى