مخلوف عامر - ما قيمة الأدب إنْ لم يكنْ مثيراً مستفزّاً؟.. “الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العُشَّاق” للروائي الجزائري أمين الزاوي

لا شك أنّ قارئ الأدب العربي أو التاريخ العربي الإسلامي بشكل عام، وهو يقرأ هذا العنوان سيستحضر عنوان كتاب (أحمد فارس الشدياق) الموْسوم بـ: ((الساق على الساق فيما هو الفارياق)). والمعروف أنَ “الفارياق” كلمة منحوتة من اسم المؤلِّف.
لكن (أمين الزاوي)، لا ينحت العنوان من اسمه، ولا يكتفي باستبدال”فوق” بـ”على”، بل يضيف عنواناً فرْعياً يخرق المألوف. (( في ثبوت رؤية هلال العُشَّاق)).
فقد اعتدنا أن ثبوت الرؤية يتعلَّق بهلال رمضان والعيد، موْعد الصوم أو الإفطار. وبدءاً من هذا الخرْق تنشأ اللغة الأدبية. فهو عنوان يثير ويُغْري أيْضاً بالنسبة لبعض القُرَّاء.
لكنَّه قد يثبر ويستفز حساسية، قد تكون مُنفِّرة لدى المتديِّنين وأنصاف المتعلِّمين من الذين اعتادوا أنْ ينطلقوا من أحكام مسبَّقة لا علاقة لها بقراءة النص الأدبي. وما قيمة الأدب إنْ لم يكنْ مثيراً مستفزّاً؟ !
ذلك ما حصل منذ نشأة الرواية في البلدان العربية حين واجهها بعضهم بنزعة أخلاقية رافضة فقيل: (( إن الروايات الخيالية هي ثمرة الفساد، وعلَّتُه فإنها تصدر عن معين متسمِّم وتوصل أذى السم إلى شاربها والمتعلق بها)) – جابر عصفور، الرواية والاستنارة، كتاب “دبي الثقافية”، الطبعة الأولى نوفمبر 2011، ص: 391..
كما قد يستحضر القارئ الآيتيْن 29و30 من سورة القيامة ((وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)). ولأن الأمر يتعلَّق بالقيامة والموت فقد ذهب المفسِّرون إلى تفسيرها بأنها تعني التفاف شدّة أمر الدنيا بشدّة أمر الآخرة، والتفاف ساقيْ الميت عند الموت أو التفافهما في الكفن.
لكنَّ للكاتب مذهباً آخر لا علاقة له بيوم القيامة والموْت وعذاب القبْر.
وإنه، وإنْ كانت صورة الغلاف وفيها امرأة رشيقة قد وضعت ساقاً فوق ساق، قد توحي لذوي النزعة الأخلاقية السيِّئة، أنها داعِرة تقف أمام ماخور تنتظر زبوناً، إلا أنه لا يمكن أنْ نتبيَّن حقيقتها إلا إذا أنهيْنا الرواية.
ولعلَّه من المفيد أنْ أورد افتتاحية الرواية بما قاله الكاتب تحت عنوان: ((بشغف)).
((كتبتُ هذه الروية بشهيَّة على دفعة واحدة، وكأنني كنت أخشى أنْ أنْسى تفصيلاً من تفاصيلها التي أحملها جمراً في داخلي منذ سنوات.
كتبتُها وأنا أردِّد: تصبحين على خير أيتها الطفولة، لكن هذه الأخيرة تأبى أنْ تنام، الطفولة لا تنام أبداً يا صاحبي)) ص 5.
من هنا كنتُ –بدوْري أتساءل: هل كتبت الرواية- فعلاً- دفعة واحدة؟ وهل استمرَّت الطفولة يقظى تأبى النوم؟ وهل غابت عن الكاتب تفاصيل أو اكتفى بالتلميح في مواضع لتستكشفها فطنة القارئ؟
إن أوَّل ما يمكنني أنْ أجزم به، هو أِّنِّي أصدِّق أنها كُتبت دفعة واحدة، لأني قرأتها دفعة واحدة، علْماً بأن القراءة أسهل، وتأخذ-حتْماً- زمناً أقصر.
لكن الشرط الحاسم في الإقبال على القراءة والجلوس إليها ساعات متوالية، أنْ يتوفَّر في المكتوب عنصر التشويق، وهذا –حقَّاً-ما شدَّني إلى هذا النص الجميل، في زمن تعدَّدت فيه القنوات التلفزيونية وشبكات التواصل الاجتماعي، وزَهِد الناس في الإقبال على الكتاب.
يؤثِّث (أمين الزاوي)للبناء الروائي، بأنْ يقدِّم لنا قرية يعود تاريخ أهلها إلى أسرة موريسكية طُردت يوماً من الأندلس وحرص الجدُّ الأوَّل على أنْ يبني ما يشبه قصره الأندلسي المهجور قسْراً. إلى أنْ توسَّعت من حوله البنايات فصارت قرية.
ثم يضطرُّ سكَّانُها إلى الهجرة مرَّة أخرى بسبب القهر الاستعماري الفرنسي، إلى الإقامة في الحدود المغربية.ويعودون بعد إعلان الاستقلال إلى قريتهم حيث تُوزَّع عليهم المؤونة بواسطة الصليب الأحمر.
فهو تاريخ يُحْكى على لسان طفل بقيت طفولتُه حاضرة في ذاكرته جمرة متَّقدة لا تنطفئ.
إذا كان الكاتب قد أفرغ ما في جوفه دفعة واحدة، فإن ما عاشه لا ينسكب حبْراً على الورق دفعة واحدة. فحكايتُه تتداخل مع حكايات أخرى، تكسر التسلسل الزمني ولكنها تلتقي في تناغم واتِّساق.يظهر ذلك فيما يلي:
يولَد الطفل “طشل البزَّاق” على الحدود المغربية وكان والدُه قد صعد إلى الجبل مع الثوار.
الأم تخاطب طفلها وهو لا يزال جنيناً في بطنها.
حفل اختتان الأطفال في ظل الاستقلال.
يعشق ابنة عمِّه الزهرة ويقاسمُه هذا العشق أخوه”مجيد”.
وهو طفل مازال مع أقرانه يلعب لعبة الرجال.
يذهب إلى الدراسة في الداخلية بتلمسان.
عندما نسترجع مسار هذا الطفل على هذا النحو، يبدو متسلسلا كما ورد في الواقع، لولا أنَّه بيْن كل فترة أخرى يَسْحَب من ذاكرته ما يوقِف هذا التسلسل إلى حين.
حيث تدخل عمَّتُه “ميمونة”التي يحبها حدَّ العشق.امرأة جريئة متحرِّرة، يكفي أنْ تكشف عن ساقيْها أو يرنَّ خلخالها،ليلزم كل حاضِر حدودَه.
((أحدِّق في خلخال عمَّتي ميمونة الفضِّي الجميل المنقوش عليه بعض الرموز )). ص 82م.
فإذا ما أخذنا كل شخصية على حِدة، فإنها تتقاطع مع حياة الطفل/الرواي/الكاتب.ولذلك لا تُقدَّم إلينا دفعة واحدة. فعلى سبيل التمثيل لا الحصر.
العمَّة”ميمونة”لا تكتمل صورتها الحقيقية إلا مع نهاية الرواية ، فهي كانت في بيْت والديْها ثم انتقلت إلى بيْت الزوجية مع شيخ سُمّي عبد الحميد تيمُّناً بان باديس، ولكنَّه ظهر عميلاً لفرنسا فذُبح، ما اضطرَّها إلى العودة إلى أهلها للاعتناء بأبناء أخيها إدريس المهاجر في فرنسا.
ويضفي على المدعو”عويشة” هالة أسطورية، فهو الذي تنكَّر في لباس نسوي ليذبح الشيخ. وظل منذ ذلك الوقت يحمل اللباس النسوي ويشكِّل لُغْزاً مُحَيِّراً بالنسبة للسكَّان، لأن ما خَفيَ من حياته أنَّه يحمل أيضاً عبْء اغتصابه في السجن ويغادر القرية ليلة تزويجه بـ”ميمونة”زوجة الشيخ الذي سبق أنْ ذَبَحه.
فأمَّا عمُّه “إدريس” الذي هاجر إلى فرنسا واشتغل مع الحركة الوطنية الجزائرية( M.N.A).فقد صارمُطارداً تُنْقذه كوليت/يامنة التي لها قصَّتها الغريبة والمُغرية في آن.فقد هجرت البلد بسبب حَمْل غير شرْعي إلى أن أصبحت في باريس مناضلة في جبهة التحرير.تُنْقذه في باريس وتتزوَّجه في الجزائر لاحقاً.
العمُّ “إدريس” يعيش في فرنسا زمناً، ثم يعود إلى الوطن وقد تُوُفِّيتْ زوجتُه “سكينة” ويأتي بسيارة عُرف بها كل المهاجرين وصارتْ-كما توارثْنا- مثار سخرية “محمد 404″.
لستُ أقصد من هذه الإشارات أن ألخِّص ما يستعصي على التلخيص، إنَّما أودُّ أنْ أثبت كيف أنَّ (أمين الزاوي)،حين يستحضر الطفولة في هذا العمل الروائي، فإنَّه يعبِّر عن كل طفل جزائري، وُلِد في الخمسينيات من القرن الماضي، مارس لعب الأطفال، وعرف نماذج من البشر والحيوانات والأشجار والأعشاب ويستطيع أنْ يُسمِّيها،وقُدِّر له أنْ يُؤْتى موهبة تؤهِّله لأن يعبِّر عنها ببراءة الطفولة، الطفولة التي لا تنام.
لا تخلو الرواية من التاريخ والسياسة أيْضاً، لأنَّك ستصادف صراع الإخوة الأعداء غداة الاستقلال و”مصالي الحاج” والثورة الزراعية، ، ولكنَّك ستجدها مبثوثة في ثنايا النص بوصفها أحداثاً التقطها وهو طفل وبقيت منقوشة في ذهنه، ولا يملك اليوم إلا أنْ يرسمها كما علقت بذاكرته منذئذ.وبقي حريصاً على إفشائها وخائفاً منْ أنْ ينسى بعض تفاصيلها.
(( وكأنني كنت أخشى أنْ أنْسى تفصيلاً من تفاصيلها التي أحملها جمراً في داخلي منذ سنوات)). ص 5.
وفي أية رواية يلعب المخزون الثقافي والوعْي السياسي دوره، سواء في صورة جدّ وقور يجمع في خزانته بيْن صَحِحيْ مسلم والبخاري وألفية ابن مالك والآجرومية والدواوين الشعرية،أو في صورة مناضل صعد إلى الجبل وترك زوجته لأبيه، حيث يصبح الابن شبيهاً بجدِّه أكثر من شبَهِهِ بأبيه. لأنَّ براءة الطفولة قد تنْسى أموراً كثيرة،ولكنَّها تحفظ-أبداُ- ما يوحى به: ((صهيل الجسد)) دار الرتبة ـ دمشق 1985.
لقد قرأتُ هذه الرواية بشغف، ودفعة واحدة، ولم أجد فيها ما يخدش الأخلاق كما يتوهَّم حُرَّاس النوايا والأخلاق المشبوهة، بل وجدتُ أنَّ المرأة التي تقف ثانية ساقيْها على صفحة الغلاف، لم تكنْ عاهرة بقدْر ما كانت من “الرجال الواقفات” أو من “النساء الواقفين”.وتعود بعد حالة من الحزن والمرض لتتكفَّل بالبقالية والمقهى،وترفع فوْقهما لافتة “عيَّاش” بدل “الاستقلال”.ولا يزيد الكاتب فوق هذا التلميح.
واستوْقفتني مشاهد غاية في التصوير الأدبي، إذ يتتبَّع الكاتب القهوة التي يشربها الناس كل يوم، ولا يقدِّرون نشوتها حق قدْرها،يتحدَّث عنها على مدى صفحات منذ شرائها إلى تحميصها والروائح المنبعثة منها والصور التي نيطت بالفناجين حتى شُرْبها وآثار لذَّتها.
((بدءاً تترك حبوب القهوة قرابة الساعتيْن، أو أكثر حسب الفصل والشمس والهواء، لتنفَّس بد أنْ يتمَّ نشرها فوق بساط مصنوع من الحلفاء أو الدوم،بين الفيْنة والأخرى تقوم عمَّت بتحريك حبوب القهوة أمام أشعة الشمس.كانت تعجبها هذه الحركة لأنها تساعدها على إثارة رنين خاص في خلخالها رنين القهوة! ..)). ص 89.
فمن ذا الذي يعرف اليوم الحلفاء والدَّوْم والخلخال وتسقيف البيوت،كيْ لا تتسرَّب إليها السيول تسقيفها بمادَّة تُجلبُ من “غيران الماريكان”، وأنْ تُختتن وتمشي عارياً، فتُبقَّب “البزَّاق”، أنْ تكون أشبه بحلزون بلا صدفة،أنْ تكون مُعرَّضاً للتحقير، حين يفتح رسائلك الحميمة حارس عام.
ثم تجمع شتات ما قرأت لتجلس في “بار” ألبير كامو” وتستأنس بـ(جنكيز إيتماتوف)، لتوديع “غولساري”.
لمستُ في هذه الرواية أنَّ (أمين الزاوي)، يتحدَّث إليَّ ببراءة الطفولة،وما شدَّني إليها أكثر، أنه يجعل من الطفل/الراوي، مُنَسِّقاً يجمع شتات الأحداث والذكريات، فيها التاريخ والسياسة،وينتقل من حكاية إلى أخرى بما يُسمَّى”حسن التخلُّص”، وتبقى الرواية عالقة في الذهن كشريط مُصوَّر، يستطيع القارئ أنْ يُحرِّكها في رحابة ذهنية.
والجميل في كل ما يشدُّ، هذه اللغة الأدبية البسيطة التي كُتبت بها،لا تعترضك عقبة في تركيب العبارة، عبارة لا تصنُّع فيها،سلاسة في السرد لا في فقْه النحو. وأيْضاً تلكم المشاهد التي قد تكون جزءاً من حياتك ، ولكن ليست لديْك القدرة لأن تُعبِّر عنها، فلا يسعك –حينئذ- إلا أنْ تَخْلص إلى أنَّ الأدب الجميل جميل، وأنَّ: ((الحياة جميلة يا صاحبي)).
لهذا أجدني –دائماً- أستصغر أولئكم الذين مازالوا يستخفُّون بما في الأدب الجزائري من متعة وتاريخ من واجبهم أنْ يعرفوه إنْ كانوا آدميين حقّاً.
طبعاً لستُ مولعاً بالجداول والرسومات التي تقترحها المدارس النقدية المعاصرة وإن كانت ضرورية، ولكنْ بعد هذا العمر من ارتباطي بالأدب الجزائري، لا أملك إلا أنْ أعبر عن انطباعاتي التي مازالت فيها جمرة الطفولة متوهِّجة.
فما دلالة العنوان الفرعي الذي اهتدى إليه(أمين الزاوي) (( في ثبوت رؤية هلال العُشََّاق)) فيما فهِمت؟
لعلِّي فهتُ أن الحياة أساسها حب وعشق، إلا أنَّنا-بحكم تخلُّفنا-إلى اليوم لم نمتلك لا القدرة ولا الجرأة لنمارس رغباتنا في النهار، وإن العُشَّاق مازالوا يمارسون عشقهم في الظلام.لأنهم يحبون الحياة.
وليْس لي-في الختام- إلا أنْ أشكر (أمين الزاوي)، وأدعو مُحبِّي الأدب إلى قراءة: ((الساق فوق الساق)).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد جزائري
الرواية نت


الساق على الساق أمين الزاوي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى