دعوة الحق - حول كتاب "تاريخ الأدب الفارسي"، [لإدورد براون]

تاريخ الأدب في فارس، من الفردوسي إلى السعدي، للمستشرق برون، من الكتب القيمة التي ساهم بها المستشرق في ميدان دراساته الفارسية، وقد ترجمه أستاذنا المرحوم الدكتور إبراهيم أمين الشواربي بعنوان "تاريخ الأدب في إيران، من الفردوسي إلى السعدي".
وإذا ما ذكر الدكتور إبراهيم أمين، ذكرت الدراسات الحافلة التي قام بها في الفارسية تعريفا وتعريبا إلى جانب ما قام به من تدريس هذه اللغة وآدابها، في كلية آداب الجامعة المصرية وجامعة عين شمس.
لقد كان الأستاذ رحمه الله كبيرا في علمه عظيما في نفسه، متحمسا في عمله، مثابرا غير متوان ولا هياب معتزا بكل ذلك لا يخضع لأحد ولا يطأطئ رأسه إلا للحق، فذهب رحمة الله عليه، وذكره في عالم الحقائق ثابت، وفي دنيا المراءاة خافت، وتلك السنة في عالمنا الذي قلما ينصف المخلصين العاملين، في كل حقل وفي كل عصر، ولكن الحقيقة وحدها تنتصر، طال الأمد أو قصر "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال".
إن تعريب هذا الكتاب، التي تناهز صفحاته السبع مائة، من جملة ما أسداه إلى المكتبة العربية أستاذنا الفقيد، وكان تعريبه بتلك النزاهة والدقة اللتين امتاز بهما في كل أعماله، واضعا أمامه الخلود المثالي، وفي تواضع العلماء وكبريائهم معا، يخاطبنا بهذه الكلمة التي نظمها في بساطة، وكان يترنم بها وهو يجاهد في عمله جهاد الأبطال :
لقد تعب المؤلف والمترجم
فليتك قدر هذا الجهد تعلم
كلانا دائب يسعى ويشقى
فعل ألفيك عند السهو ترحم
هكذا نجد هذا الالتفات من هذه النفس المطمئنة بأعمالها إلى هؤلاء الذين لا يفتحون أعينهم إلا على عورات غيرهم ولا يسرهم إلا النظر إلى المزلات، طالبة منهم الرحمة والمعذرة عند السهو، لا التقصير، والسهو عنوان هذا الإنسان، مهما عظم في عمله واحتاط لأمره، وهو أيسر من الخطأ وأهون من الغلط، عند الاعتبار، وكذلك كان من فقيدنا ما السهو مسئول عبه في غالبه، وهو جد ضئيل وزهيد، كما سنرى فيما بعد...
جعل المؤلف كتابه هذا في مقدمة وتسعة فصول.
فتعرض في الفصل الأول إلى اللغة العربية ومركزها الفريد، وفي هذا الفاصل، ذكر أن الفردوسي لما ألف الشاهنامه كان –كما يظهر- متعمدا أن يصوغها في أقدم العبارات والأساليب، ومع هذا فلا يستطيع أحد أن يدعي أنها خالية من الألفاظ العربية، كما يظن ذلك بعض الناس، ممن لا قدرة لهم على التحقيق والتمحيص.
وهذه ملاحظة قيمة من المؤلف، تدعمها نصوص الشاهنامه، التي قد نجد في البيت الواحد منها ألفاظا عربية متعددة، كما في هذا البيت :
بجز حق دل هيج جيزم نداد
نشد (حاصل) من أزو (غير) باد
وقد عاد المؤلف إلى ذكر هذه الحقيقة في مواضع أخرى من الكتاب، فقال مثلا في الفصل الثاني الذي خصصه لعصر الدولة العزنوبة معللا ذلك بأن "الألفاظ العربية، كان قد تأصل في اللغة الفارسية في هذا الوقت، بحيث أصبح من المستحيل عليه أن يتحاشاها أو يتجنب استعمالها".
وهذا بالضبط ما حصل في التركية مثلا، مما جعل الأتراك في نهضتهم الكمالية، عاجزين عن تطهير لغتهم –كما قالوا- من العربية، وقد كنا ضربنا لهذا منذ سبع سنوات،م بعنوان "فصل العربية عن التركية".
وفي الفصل الثالث الذي تعرض فيه للأدب في العصر السلجوقي، ذكر أن الشبعة الفرس (يعتقدون في أن والدة الإمام الرابع) "علي زين العابدين" كانت أميرة من أمراء البيت الساساني، ولاشك أن هذا المعتقد كان من أقوى العوامل التي دفعتهم إلى أخذ البيعة لهذا الإمام ولا عقابه من بعده، ومن أجل ذلك فقد كان طبيعيا أن يصبح الفرس عماد الحزب الشعبي".
وفكرة الملاءمة بين الوضع الراهن الذي لا يرضى وبين الحفاظ على النخوة القومية، فكرة عرفت عند الفرس قديما، فقد ادعوا أن الإسكندر الذي دمر مملكتهم وقتل ملكهم دارا، ما هو إلا ابن الملك داراب وأخو الملك دارا نفسه.
وذكر في الفصل الرابع الذي خصصه للحديث عن الأدب في العصر السلجوقي الأول، أنه "من غير الممكن –فيما عدا أمثلة قليلة نادرة- أن نجزم على وجه اليقين بأنه (أي عمر الخيام) كتب رباعية بعينها من هذه الرباعيات الكثيرة التي تنسب إليه".
وهذه ملاحظة لها خطرها، وتجعلنا في منجاة من تلك المواقف المتضاربة التي تذكر لعمر فيما ينسب إليه من رباعيات.
وفي الفصل الخامس الذي جعله للأدب في عصر السلطان سنجر وأخوته، عد "من أهم الشخصيات التي نلاقيها في هذا العصر... الجغرافي المعروف البكري" كما ذكر فيه ضمن " كتاب العربية وعلمائها الذين توفوا في هذا العصر.... ابن عبدون الذي اشتهر بقصيدته التاريخية الطويلة التي شرحها فيما بعد واحد من مواطنيه هو ابن بدرون".
ومع العلم بأن المؤلف لا يجهل أن هذين أندلسيان وقد ذكر بذلك ابن عبدون، فإننا لا ندرك سببا لذكرهما، وهو بصدد الحديث عن عصر سنجر من الناحية العلمية والأدبية وعمن ظهر فيه من مؤلفين فرس أو شعراء كذلك، وإن كتبوا أو شعروا بالعربية، كالزوزني والتبريزي والجواليقي والابيوردي والطغرائي والحريري، إلا أن يكون الأول ذكر في كتابه "المسالك والممالك" ما تعلق بفارس وما والاها من البلاد وكان بعضها من ضمنها، وأن يكون الثاني ذكر في قصيدته ما اتصل بملوكها وقوادها، كما في قوله :
هوت بدارا وفلت غرب قاتله
وكان عضبا على الأملاك ذا أثر
واسترجعت من بني ساسان ما وهبت
ولم تدع لبني يونان من أثر
وأهلكت أبرويزا بابنه ورمت
بيزدجرد إلى مرو فلم يحسر
وبلغت يزدجرد الصين واختزلت
عنه سوى الفرس جمع الترك والخزر
ولم ترد مواضي رستم وقنا
ذي حاجب عنه سعدا في ابنة الغير
ومن الطريف في نهاية هذا الفصل أن يذكر المؤلف أن الشيخ محمد عبده، كان أستاذا له وصديقا.
وفي الفصل السادس الذي اختص به الشعراء الأربعة النابهون في القرن السادس (وهم الأنوري والخاقاني والكنجوي والفاريابي) نلاحظ أنه ذكر نصا فارسيا في موضعين لاختلاف المناسبة، لكنه كرر ترجمته، من غير ما يكون لذلك داع، خصوصا في صفحات متقاربة 464- 471.
وفي الفصل السابع، الذي خصصه لمملكة خوارزم، ذكر في صفحة 577 أن الحسن بن الصباح قتل ولديه لما خالفاه في بعض تعاليم مذهبه، مع أن المؤلف سبق له في صفحة 388 بالفصل الخامس، أن قتلهما كان للزنى وشرب الخمر.
وفي الفصل الثامن الذي جعله لكتاب العصر المغولي الأول، ذكر أن البنداري لخص الشاهنامه تثرا، وفاته أن يذكر أنه إلى جانب التلخيص قد يزيد في الترجمة فيأتي بما لا أصل له في النص، كما نجد ذلك في قصة "الضحاك" أو "سهراب ورستم" مثلا وفي هذا الفصل تعرض أيضا لمؤلفين أندلسيين ومغاربة وغيرهم مثل الرحالة ابن جبير والطبيب موسى بن ميمون والصوفي محيي الدين البوني الجزائري وابن البيطار المالقي وأحمد بن يوسف التيفاشي القفصي وابن العربي الحاتمي وآخرين "أن تأثيره حتى الآن ما زال محسوسا في إيران الشيعية، بل ربما فاق في ذلك كل صوفي آخر".
وفي الفصل التاسع الذي تكلم فيه شعراء العصر المغولي الأول، أتى لابد أن يتنبه لها أولئك الذين يتصدون لنقد الآثار الأدبية في غير لغتهم، فقال "في مثل هذه الموضوعات يجب أن يكون الحكم النهائي لأهل اللغة أنفسهم، لأنه يصعب على الناقد الأجنبي أن ينصف في حكمه كما ينصف الناقد الذي تربطه بالشاعر صلة القرابة واللغة، ولقد أحس أنا شخصيا عند قراءتي لأشعار "عراقي" بكثير من المتعة التي لا أحسها عند قراءة أشعار "ستائي" ولكن ذلك لا يشفع لي في أن أرتفع برأيي الشخصي لأجعله في عدد النظريات العامة المقررة".
هذا قول حق، وكثيرا ما كنت أوجهه نحو الطلبة الذين كانوا يدرسون بكليتنا –وما زالوا- موضوع "الأدب المقارن" فهم يتعرضون لمصاعب جمة وخصوصا إن كانوا يستندون على الترجمة، ولا يحسنون اللغة التي يقارنون بين نصوصها، فكنت لهذا، وقد أسند إلي هذا الموضوع، سنة 64- 65، أجشمهم وأتجشم معهم، الاطلاع على بعض النصوص في أصولها وكان هذا عملا في منتهى البطء وعدم الغناء به، بالنسبة إلى من كان منهم غير ملم بتلك اللغة.
وأخيرا بأتي المؤلف بخاتمة قصيرة جدا، يفتتحها بقوله : "عندما ندرس تاريخ أمة من الأمم، أو نتعرض على الخصوص لحضارتها وحياتها العقلية ليمكننا أن نصل إلى نقطة من النقط نستطيع أن نقف عندها في دقة وإيمان أن هذه النقطة تنتهي بها فترة من فترات تاريخها" ويقول في آخرها "في رأيي أن الأدب شبيه بالحب، وعليهما جميعا ينطبق المثل التركي "بارسز قاليركيمسنه عيب سزرباراستيه بن" أي الصديق الذي يريد له شخصا خاليا من العيوب يبقى بدون صديق.
وبانتهائنا من المؤلف، نتصل بالمعرب، فنرى من حسناته في هذا التعريب، زيادة على ما ذكرنا، أنه بأتي بالنصوص الأصلية، ولا يعتمد غالبا على الترجمة الإنجليزية فيها، وبذلك يربطنا مباشرة بتلك الآثار، ويجعلنا نتذوقها بقدر مكنتنا ونقارن ما بينها وبين تلك الترجمة، وقد جرنا هذا إلى أن نلاحظ بعض الملاحظات الني نجملها فيما يأتي :
في الصفحة 41 ورد شطر بيت هكذا :
زينهار أزدور كيتي وانقلاب روزكار
فترجم "زينهار" بالحرص الحرص، والصواب أن يكون "الحذر".
وفي الصفحة 58 ورد الشطر هكذا :
بادا من ترمنت أز آن دامن نركش
فترجم "دامن" بالحافة"، والصواب ترجمته هناك "بالذيل".
وفي الصفحة 66 وردت الشطرة :
صبح بد خواه زاحتشام تو شام
فترجم "شام" بالليل، والصواب ترجمته "بالمساء"، وخصوصا عند مقابلته بالصبح.
وفي الصفحة 73 ورد الشطر :
دهدت كوه بوفرار فرار
فترجم هكذا : وعزمك الشبيه بالجبل يعطيك القرار والثبات لا الفرار.
والصواب : يعطيك الجبل القرار على الفرار
وفي الصفحة 80 وردت ترجمة الشطر :
يا رب هل هذه سوسنة أم هي زهرة الرمان
والصواب : يا رب هل تلك سوسنة أم جلنار
وفي الصفحة 136 ورد البيت :
تاتواي ماه زير خاك شدى
خاك رابر سيهر فضل آمد
فترجم هكذا :
منذ أن نزلت أيها القمر إلى مرقدك في طيات التراب وقد أصبحت الأرض تعلو رفعة على الأفلاك والقباب.
والصواب :
منذ إن صرت أيها القمر تحت التراب
فقد صار للتراب فضل على الفلك
وفي الصفحة 184 سقطت ترجمة هذا البيت المذكور في الصفحة 181 وهو :
هر مهى بأشد سي روز وبقرآن شب قدر
بهتز آز ماه هزار است زيس فضل وشيم
وترجمته : كل شهر يكون ثلاثين يوما وفي القرآن "ليلة القدر خير من ألف شهر" من أجل فضلها العظيه وشيمها.
وفي الصفحة 192 وقع ما يأتي :
أولا – سقطت ترجمة البيت المذكور في 190 وهو :
خوبشتن سوزيم هر دوبر مراد دوستان
دوستان در راحتتند أزما وما آندر حزن
وترجمته :
كلانا يحرق نفسه لمراد الأصدقاء
فالأصدقاء بنا في راحة ونحن في حزن
ثانيا - في ترجمة بيت آخر مذكور بنفس الصفحة، وهو :
روى توجون شنبليد بر شكفته بإمداد
وآن من جو شنبليد ناشكفته درجمن
فترجم البيت في الصفحة 192 هكذا :
وأن مدامعك لهي الذهب المصهور تذيبينه فوق خدودك الذهبية.
وأما خدودي فهي الأزهار الصفراء الذابلة من بين أزهار الخمائل.
والصواب :
وجهك مثل الأزهار المتفتحة صبحا
وأما وجهي فمثل الأزهار غير المتفتحة في الخميلة
وبهذا نرى أنه لا يصدق شيء من الترجمة على المصراع الأول، فالغالب أن المعرب –رحمه الله- اعتمد على الترجمة الإنجليزية لا على الأصل الفارسي، والمعتاد من ترجمة "برون" للشعر أنه يتصرف فيها تصرفا عظيما، حينما تكون ترجمته شعرا بالخصوص.
ثالثا – أتت في الصفحة المذكورة 192 هذه الترجمة :
ولقد أصبح من عادتي النوم أثناء النهار لأني من أجلك أديم السهر طول الليل ويثقل راسي بالنوم طول النهار.
ولا يوجد ما يقابلها من الأبيات الوارد نصها في الكتاب، فلعل البيت سقط عند الطبع، وإن كنا لم نعثر عليه في القصيدة التي وردت في مصادر أخرى، مثل "تذكرة الشعراء" لدولتشاه.
سوى هذا، هناك ملاحظات أخرى على المترجم مثل إغفاله كتاب "جهار مقاله" حينما ذكر في الصفحة 146 (بالتعليق) المصادر التي توجد بها قصيدة فرخى الرائية.
ومثل إيراده كلمة الإعارة والعارية في صفحة 365 بدل الأسلاف والسلف، فقال : يمتنع عن إعارة النقود "لأنه يعتبر العارية هبة" ومثل إيراده هذه الترجمة في الصفحة 674 : فلن يتردد هذا الخبيث عن إهلاكك.
بدل : فلن يتأخر هذا الخبيث إلخ
وتكرر في الكتاب وصف الرجل "بالعجوز" بدل "الشيخ"، كما ورد "واحد من الرجال" بدل (رجل) و"فرخة" بدل "دجاجة" وعبارة (سوف لا) بدل "لن" وكسر أن بدل فتحها والعكس.
هذه ملاحظات على الكتاب وتعريبه، ولا شك أن الطباعة لها دخل في الموضوع، وأظن أنه من ذلك وضع (الحرص الحرص) بدل "الحذر الحذر" مثلا، أو الواو بدل الفاء في السبك أو سقوط ترجمة أو أصل من المترجم.

دعوة الحق - العدد 95



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى