فِي غِوايةِ الحكْي... يَتَامَى المدينةِ...

يا حُفاةَ الليل و عُراةَ القلوبِ...
يا يتامى الحُزنِ الخالدِ...
هذَا قلبي أهديهِ إلى ليلٍ أبديٍّ اِستبدَّ بِحَكايا نُجومهِ . كمْ كنتُ أرجو أن أرثَ من الصّخور شيئا من صلابتها و تماسكها أمام الأهوال و الأنواءِ . أنا الذي يتفاخرُ كثيرا بهُويتهِ الحجريّةِ ، نعم أحملُ في روحي دائما هاجسًا من خيالات هذا الجبلِ الذي يطوّقُ بيتنا من كلّ زواياه . كمْ كنتُ أستلذُّ الصّعود إلى قممهِ المتوازية و أرى نفسي محلّقا فوق حقول زيتوننا العتيق ... كنتُ دائما أرغبُ أن تراني أمي طائرًا محلّقا في أعالي السّماءِ و الأمنياتِ ، لا أعرفُ كيف اهترأت كلُّ تلك الأماني و الأحلام . لم أفهم لماذا مازلتُ أتعثّرُ في خبايا الطريق ؟
كانتْ طريقًا طويلةً سرتُها و فتى الجبلِ يعصرُ على كتفيّ يُنَبّهني دائما أنّي جئتُ من هُناك ... من نهاية العالم و من حافّةِ الكوكبِ و من أقاصي الحياة ... حتّى أدران المدينة و لوثاتها لم تستطعْ أن تُغيّر في هشاشتي شيئًا .
منْ يُعيدُ إليّ أحلامِي القديمةِ و من يعيدُ إليّ نضارتي و طهارتي التي تركتها خلفي في وادٍ بين سفحين يتيمين ..؟ كنتُ أعتقدُ دائمًا أنهما سيقتربان أكثر و يصيرَان هضبةً و احدةً . هذهِ المدينةُ داعرةٌ أفقدتنا عُذريتنا و تركتنا و علّمتنا عاداتٍ سيئةٍ ، كأنْ نرسم صورًا مشوهّةً لوجوهنا و وجوه أحبّائنا . أسوارها غادرةٌ تضيقُ عن صدورنا و تمنعُ عنّا الهواء و الحُبّ و الخبز و الأملَ. إنّي أغبطُ اللّصوص و المجانين فوحدهم اِنتصروا على مكرِ المدنِ و فِخاخِها ، فنزعوا عنهم قلوبهم و عقولهم و داسوا على كِبرياءِ الإسمنتِ و الخراسانهْ . أمّا نحنُ البدويون كنّا حمقى بما يكفي لنتعتقد أنّها تُرحّبُ بِقادميها الجُدد و تفتح لنا أبوابها و أحضانها و أكفّها ، و يا للخيبةِ لقد استقبلتنا استقبال الغُزاةِ و المحتلّين و الوندال على شواطئ حضرموت زاحفين إلى قلبها . نُهدّدُ كالوحوش الدّامية أبواب أهلها و نصرعُ أرضا عروش حضارتها و نخدش حياء جليزها و مرمرها... كُنتُ أرى هذهِ المدينةِ تخبّئُ لِي كلّ مسرّات الدّنيا ... أتخيّلُ نفسي و أنا أمشي في مجرى الوادي أنّي أسيرُ في شوارعها البلورية و واجهات المحلّات تحفلُ و تتزاحمُ بصورٍ لا أذكرُ أصحابها ثم أستفيق من شرودي على عواء الذّئابِ يملأُ أرجاء القرية الخاويةِ...
كمْ كُنّا معتوهينَ حين استوثقنا الخيالَ و أودعناهُ كلّ أمنياتنا فزيّن لنا زيْفًا الأفق كما تُزيّنُ الشّياطينُ الخطايا لراهبِ الدّيرِ...إنّ الخيال هو الشّيطانُ ، فزيّن عليّ المدينةَ إمرأة جميلة " غايا" الرّومانية التي تمنحُ لي الحياة بعد بواري ، إمرأةً جميلة حسناء قمريّةً خالية من شوائب الأسى و المكر و الدّهاءِ و التجاسر و الغرور و النّكران و الجحودِ أرسلُ لها في مفكّرتي لونَ دمِي و عددَ نجوم سمائنا و اسماء أمكنتي و عناويني المفضّلة ...
هِضابٌ و أوديةٌ و قِممٌ و حِجارةٌ و أمطارٌ و بروقٌ و أشجارٌ و أغنامٌ و طيورٌ كلّها لم تكن كافيةً لأكون بشرًا سويّا .
كمْ هو مؤلمٌ و قاتلٌ أنْ تكونَ مهاجرًا في موطنك ، نازحًا في مدنكَ ، كلّ ألسنةِ العالم و كُتبهِ لمِ تُرحْ قلبي من لغتهِ المجوّفة ... لمْ يبْقَ غير أن نرحلَ عن أنفسنا و أن نغادرَ قلوبنا مثلما غادرها هؤلاء الذين آويناهم فراديسهُ ...
يا حُفاةَ الليل ، و عُراة القلوبِ ...
يا غُرباء المدينةِ ...
إنّ الحُزنَ خيالٌ مُخاتلٌ و دينٌ لا يوصلُ مُؤمنيهِ إلى جِنانهِ ...
إنّ الحزن مرّغ كلّ أشواقنا فلم يبق لنا إلّا التّلاشي و الفناءُ و الموتُ و الإحتراقُ...
و التّين و الزيتون و هذا البلد الآمين ... بلدٌ يأمنُ فيهُ سارقو النّور و المزيّفون ... بلدُ الحبّ المزيّف و قلوب البلاستيك البارد....
بلدُ الزّيف و الخداع ...
و ڨداشْ المجروح يدسْ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى