فنون بصرية علا شيب الدين - الصورة والنَّص..

ذات نقاش، قال لي أحد المحرِّرين في أحد المنابر الثقافية: “إن اختيار صورة للنص، لَهُو أصعب بكثير من تحرير النص نفسه”. الصورة التي قد تخضع إلى حد كبير، لمزاج المحرِّر أو قراءته الخاصة للنص وتأويله الذاتيّ. هكذا، يمكن أن يدور النص في قوقعة صورةٍ هي أصلًا لا شأن لها بموضوع النص، وأحيانًا قد تفوق شهرة الصورة وقدرتها على التأثير العام النصَّ نفسه، فتصبح كمثل عملاق يمسك النص بقبضته، أو يحيله إلى محض ظلٍّ.

تعمل الصورة أحيانًا، على إحالة النص إلى واقعية فوتوغرافية تأسر النص في حواس سطحية. واقعية الصورة الفجّة هذه، ربما تُفقد النص روحه، أي معناه ومغزاه وقيمته، أو ربما تبدو روحه معها مثقلة. الصورة المرفقة هنا، تجيِّر النص إلى ما يظهر في الصورة. وفي حين أن النص ربما يكون إنتاجيًا وخصبًا، تكون الصورة المرفقة واقعية. تحيل الصورة، في هذا المعنى، النصّ إلى مجرد حسّ، في حين أن قيمة النص ربما تكمن في التجريد. تبدو الصورة بمثابة سطح، بينما النص عمق، من شأنه البحث في كنهه وسبر أغواره.

وكون الصورة في هذا المعنى، لها ما لها من سلطة على النص، فقد تجعله يبدو طويلًا أو قصيرًا مختصَرًا، مملًا أو شيقًا جاذبًا. وقد يكون النص مما يحتمل دائمًا غير قراءة، لكن الصورة تجعله مقروءًا على جهة واحدة، فيصمت النص، بينما تتكلم الصورة، بل تثرثر أحيانًا، خصوصًا أن العقل القارئ هنا قد يكتفي بمجرد تلقي الصورة كشكل ولون وضوء. تمتلك الصورة حينئذ القارئ فتهيمن عليه، وتمارس فعلًا استبداديًا؛ عندئذ تخرج الفكرة المتشكِّلة عن النص، بوصفه روحًا نضرة، فتغدو الصورة كأنها في حِلٍّ من ممارسة السحر في طويّة النص.

كم يكون النص أكثر صفاء حين نستطيع التحرر من أسْر الصورة وطرْد أشباحها بالتعزيم! يقول ديكارت: “إن الأعمى يرى بيديه”، حيث إن النموذج الديكارتي للرؤية هو اللمس، أما هنا فإن القارئ يقرأ النص بعينيه المجردتين، أي بالصورة المرفقة معه. النص يكون بمثابة جريان لا يتوقف، كزمان، بيد أن الصورة تغدو هنا مجرد لحظة ثابتة جامدة تخنق النص. الصورة، في هذا المعنى، تحطّم التخطّي، المجاوَزة، التأمل، الحلم، الخيال، وتقضي على عين العقل بعين الحسّ.

إن الصورة، قبل إرفاقها بالنص، تكون خالصة من كل سيطرة على النص الذي سوف يكون “ضحيتها” ربما. إذ أحيانًا تكون الصورة المنتقاة من قبل المحرِّر هي نتيجة فهمه الشخصي الخاص للنص، ويريد من خلال الصورة أن يكرس فهمه هو للقارئ، وقد ينجح في قنص فرادة النص المجنَّحة. يمكن هنا أن أقدّم مثلًا حيًا، فقد نُشِر لي مرّة في أحد المنابر نصٌ، فحواه الحرية والمرأة والذكاء السياسيّ، فأُرفقَ بصورة واقعية تظهر فيها نساء يتظاهرن حاملات اللافتات وأعلام الثورة السورية التي اندلعت في العام 2011، لكن المفارَقة أن كلهنّ كنَّ في الصورة محجَّبات! وهكذا جرى تكريس “صورة نمطية” عن الثورة. صورة من شأنها “القول” إن جلَّ النساء اللواتي ثرن في سورية كنَّ محجبات، على الرغم من مشاركة واسعة كبيرة ومهمة لغير المحجبات في هذه الثورة. هذا فضلًا عن أن موضوع النص أو فكرته كانت مغايرة تمامًا لما جاء في الصورة المرفقة معه.

على سيرة الصورة النمطية؛ لأن الصورة النمطية تحمل ما تحمل من مغالطات تاريخية ومنطقية، ولأنها تنطوي على قدر كبير من الللامعقولية من حيث هي “إيقاف” أو “تجميد” للزمن، وتكريس لحالة، وتثبيت لها عبر الإرغام والقسر، مع أن “الحالة” متغيرة متقلبة، لأنها كذلك، كان من أهم ما فعلته ثورات “الربيع العربي” تحطيمُها. فـ “الصور النمطية” التي اعتادت شعوب هذه المنطقة من العالم أن تفكر من خلالها، ولأجلها، هي صور كرستها السلطة على الأغلب، والسلطة المقصودة ها هنا، كل سلطة، فكرية، ثقافية، دينية، سياسية، عسكرية…إلخ، وكل ما من شأنه الإخضاع والاستعباد.

****

من جهة أخرى، إذا ما اعتبرنا أن الرسم فن المكان؛ فإنه في كثير من الأحيان قد ينقلب النص المرفق مع لوحة فنية ما، عدوًّا حقيقيًا لها، خصوصًا إذا ما كان بمثابة شروح للوحة، إذ يحدث أحيانًا أن يكون الرفيق سيئًا للغاية ويشوِّه. إن الشروح قد تبدِّد الروح الحقيقية للوحة الفنية.

تتمرَّغ اللوحة ذات الطراز الفني الرفيع في حمْأة الجهالة، إذ تُرفَق بكتابةٍ تُجلي تواريها. كذلك فن الكاريكاتير الذي هو فن ساخر ومميز من فنون الرسم، قد يصبح ركيكًا إذا ما أرفِق بشروحٍ نصيّة من شأنها المحاولة في نزع “اللغز” عن الكاريكاتير، أو المحاولة الساذجة في مساعدة المتلقي على “الفهم” وحلّ المشكلة، في حين أن المشكلة هنا قد تكون بمثابة ارتجاج يُخرج الأمور عن مساراتها الهادئة والمرسومة، وربما هنا تكمن أهميتها. إن لفن الكاريكاتير قدرة نقدية قد تفوق مقالًا نقديًا مطوَّلًا، لذا فإن قوته الحقيقية تكمن في إيصال ما يُراد إيصاله للمتلقي، من دون شروح نصيّة مرفقة، وبالتالي في كسر جمود النظرة، فيغدو بهذا -أي فن الكاريكاتير- كمِثل وجهٍ يحتفظ بجماله حتى في عزّ أيام القحط، ويروح تيار الأفكار الجديدة ينساب من خلاله، بسهولة أكبر. إن الكاريكاتير الحر هو ذاك الذي يعقد “صداقة” مع مَن يريد أن يعرف ويظلّ دائمًا يريد أن يعرف. الكاريكاتير الحر يفعل ذلك انسجامًا وماهيّته من دون “مساندة” الكلام أو النص المكتوب أو الشرح. هو بذلك كله لا يكون إلا نفسه.

حين يكون الفن موسيقى نابعة من قلوب الناس، أو حياة تفيض بالمغامرة والمخاطرة، وحين يكون كمثل امرئ لا ينسى أبدًا أن يعطي مما معه؛ يغدو في معنى ما، ليس على يقين من شيء، غير أن النص الشارح يأتي غالبًا ليسجنه في يقين! لا تشمل هذه المناقشة السريعة نصًا مستقلًا في حد ذاته، ذا طابع نقدي، يضيء سلبًا أو إيجابًا على لوحة فنية ما مثلًا. لا تشمل –أيضًا- تفكيرًا نقديًا فلسفيًا يتناول الفن بشكل عام والجمال والذوق والطبيعة، تحليلًا، نقدًا، تأملًا إمعانًا واستشرافًا. ولا تشمل كل تعبير نصّي، جديٍّ عميق وآسر يترك في النفس أثرًا يانعًا عن الفن.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى