إيتجار كيريت - الكاذب الأعظم في العالم.. قصة قصيرة - ترجمة عن الانجليزية: شادي عبد العزيز

أنظر إليه واقفًا في منتصف الشارع تحت مطرٍ منهمر، ينفي برودة الجو أمام الجميع. درجة الحرارة تفوق حد التجمُّد بقليل، دون حتى أن يعطس. تتقاطر قطرات المطر عن جبينه كما لو كانت قطرات عرق، وفمه -ذلك الذي يجب أن تراه لتصدق حاله- ظاهرة كونية لا مثيل لها، ثقبٌ أسود يبتلع الواقع ويبصقه إلى الطرف الآخر وقد انقلب حاله تمامًا. والآن ها هو يتكلم بثقة عن المستقبل الرائع في انتظار أطفالنا، وفي أي دقيقة الآن سيشرح لمن يرغب في الإنصات كيف أن هناك إلهًا، وكيف أن هذا الإله يؤمن أننا في خير حال. وبعدها سيتخذ مقعدًا في مقهى صغير، ليشرب شايًا ساخنًا بالليمون ويقسم إنه قهوة.

لم يكن دومًا كذلك. كان طفلًا يعجز عن الكذب إطلاقًا، وفي مرة انكسرت نافذة فصله ورفع يده ليعترف أنه من ألقى الحجر. لكن صراحته لم تجلب له سوى سجل لجرائم الأحداث بتهمة تخريب للممتلكات، وفي مرحلةٍ ما على هذه الطريق الطويلة والمرهقة، بلغ مفترق طرق، وانعطف بحدة، ولم ينظر خلفه قط.

في البداية، لم يكن يكذب سوى على الأغراب، ثم اتسع ليشمل من أحبهم بحق، ليكذب على نفسه في النهاية. والكذب على النفس هو الأفضل. فلا حاجة إلا إلى دقيقة واحدة لتتحول بركة الواقع الصغيرة العكرة التي تبلل جُورَبيْك إلى شيء دافئ ومخملي. عبارة واحدة فقط، وسيتحول الفشل إلى خضوع طوعي، وتتحول الوحدة إلى اختيار، بل وحتى الموت الذي يكاد يُطبق عليك طيلة الوقت يمكن أن يتغير إلى مجرد تذكرة ذهاب إلى الجنة.

وهو ليس مغفلًا. فهو يعرف أنه لا يحوز تقدير الجميع. وأن هناك دومًا متطرفون يصرون على امتداح الحقيقة المفتقرة إلى الخيار كما لو كانت عجيبة تدعو إلى الدهشة، لا مجرد عيب محرج. هل سبق وأن رأيت كومة نفايات تكذب، أو شرغوفًا،[1] أو حشرة؟ ليس سوى الإنسان، ذلك المتربع على قمة المخلوقات، مَن يستطيع تبديل عالمه بجملة يصوغها. تخلق الجملة واقعًا. ربما لا يكون ذلك واقعًا في الحقيقة، لكنه شيء ما. شيء ما إن نتمسك به فقط بشدة كافية حتى نستطيع النجاة، ونظل طافين على السطح.

والآن، هيا نشاهده منخرطًا فيما يفعل. إلى يمينه زوجة وطفلان يستميت في حبهم. وإلى يساره نادلة شابة ونحيلة تَأمل في تحصيل درجة علمية في العلاقات الدولية. وها هو ذا، يُقبِّل النادلة ويخبر نفسه أن ذلك الصواب بعينه. يصطحب بعدها الطفلين التوأم من روضة الأطفال ويحكي لهما كيف جاء بهما بابا وماما إلى العالم. وبعدها بدقيقة سيحين وقت سيجارة ما بعد الجِماع، وسيحكي للنادلة النحيلة كما سيحكي لنفسه إنه لم يمر من قبل مطلقًا بمثل هذا الحب الهائل. ذلك الحب الذي يشبه إحدى قوى الطبيعة، بركانًا، حبًا يطيح بك في الأرجاء جيئة وذهابًا دون طائل من مقاومته.

وها هو بعد شهرين من الآن، متعب ومُقصَى في شقة مؤجَّرة في «بتاح تِكفا»، ينتظر بنفاد صبر عطلة نهاية الأسبوع كل أسبوعين، ليستطيع الاستغراق في النوم في نفس السرير إلى جوار التوأم، ويحلم أحلامًا مُثقَلة بإحساسه بالذنب، وسيظل مصرًا إن كل ما حدث ليس إلا لأنه كان منفتحًا على ذاته. ولأنه اختار أن يحيا الحياة إلى أقصاها، ولم يكتفِ بمجرد مشاهدتها ضجِرًا من خارج الملعب كما لو كانت مجرد فيلم أجنبي آخر، سحبته النادلة النحيلة خلفها لمشاهدتها في دار عرض للأفلام المستقلة.

في سبتمبر المقبل سيكون ممثلًا لنا في البطولة العالمية للكذب، والمعلِّقون متأكدون أنه سيجلب للوطن ميدالية. إنه بارع جدًا، كما يقولون، حتى إنه لو حدث المستحيل وخسر، فليس هناك أدنى شك إنه سيتمكن من إقناع نفسه -وإقناعنا كذلك- بفوزه. تلك حقيقته: بطلٌ بحق. فهو لا يرفع عينه عن الجائزة المأمولة. ولا يخاف أبدًا من لَكم الحقيقة نفسها، ليُقسم بعدها إن عين الحقيقة -السوداء من لكمته- ليست إلا وردية. إنه رجل لم ينتابه الندم على أي شيء قط، وحتى لو حدث ذلك، فلن يعترف به إطلاقًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عن ترجمة جيسيكا كوهين للإنجليزية

** بإذن من المترجم شادي عبدالعزيز




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى