محمد نجار الفارسي - الصوفية في الميزان..

( 1 )

عند طرح أمر ما للمناقشة، لا بد من إيجاد بعض الهدوء والسكينة للعقل والنفس، لبلوغ الهدف المنشود من المناقشة، وإلا نكون كباسط كفيه للماء وما هو ببالغه، وليكن في حسبان كل المتحاورين أن رأيه صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب، كما قال الإمام الشافعي . هذه مقدمة موجزة قبل البدء في موضوع التصوف .
والتصوف فكر ليس وحيًا من الله، بل فكر إنساني وجد البعض فيه الخلاص من هموم الحياة وكدرها وغلوائها، وراحة للنفس المضطربة . مارسه الكثير عبر الأزمنة والأمكنة، فكانت تطلق عند اليونانيين قبل ميلاد المسيح على محبي الحكمة و الفلسفة، وعند البوذيين تسمى النيرفانا وتعرف بأنها حالة انفصال عن كل الدنيا وما حوت لأجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والقناعة وقتل الشهوات، وتبعده عن كل مشاعر السلبية والاكتئاب والحزن والقلق وغيرها، حتى في أمريكا وأوروبا المسيحية وفي بلادنا الشرق المسيحي، نجدهم يلجأون للتصوف، والتصوف عندهم أقدم من فكرة التصوف الإسلامي .

( 2 )

إذن لفظة صوفي أطلقت على الذين يتركون ملذات الحياة ونعيمها، ويخصصون أنفسهم للعمل الصالح، والزهد والتأمل، وهى صفات لا ترتبط حتمًا بالتصوف الإسلامي فقط . فالمذهب الصوفي، على الرغم من اختلاف طرقه بين الديانات المختلفة سواء كانت سماوية أو وضعية، ارتبطت عند الجميع بمبادئ واحدة، وهى الحب، والتوق للمحبوب والزهد في متاع الدنيا والتأمل كطريقٍ للوصول للذات الإلهية، وعبر المتصوفة كافة عن تلك الرغبة في لقاء المحبوب عن طريق الشعر والأدب، والكتابات الخاصة بالمتصوفة ومذكراتهم وحيواتهم، سواء كان هذا التصوف إسلاميًا أم مسيحيًا .ولكنها كما يقول ولتر ستيس في كتابه (التصوف والفلسفة) تختلف فى تأويل كل متصوف لتجاربه تأويلًا عقليًا مستمدًا من خصائص ثقافية .
قبل الخوض في موضوع التصوف لا بد من الرجوع للتاريخ الإسلامي، لا سيما بعد مقتل سيدنا عثمان، لأن ذلك مرتبط بموضوع التصوف، لنرى بداية نشأة التصوف الإسلامي .
بداية كلمة التصوف لم تكن موجودة كإصطلاح أو جماعة في عصر النبوة، اللهم أهل الصفة الذين لجأوا للمسجد النبوي من الفاقة والحاجة، وفيما بعد في العصور التالية أضافوهم لتعاريف كلمة التصوف؛ من الصفة ولبس الصوف، لن أخوض في تأصيل التعريف، ما يهمني إبانة بدايات التصوف في الإسلام.

( 3 )

كان مقتل سيدنا عثمان جائحة زلزلت أركان الدولة الإسلامية الفتية، وبداية الفتن الكبرى التي لم تخمد نيرانها حتى هذه اللحظة، تفرق المسلمون وقاتل الصحابة بعضهم بعضا، فالمبشرون بالجنة؛ أكابر الصحابة؛ سيدنا علي يواجه طلحة والزبير وأمنا عائشة في موقعة الجمل، فكاد ينتهي أمرهم بالصلح لولا وقيعة الأشتر وعبد الله بن سبأ بين الفريقين ـــ وكانا هما ضمن قتلة عثمان ــــ قال بن سبأ حينها لقتلة عثمان كما جاء في كتاب البداية والنهاية : فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون، فإن اجتمعوا اقتصوا منا لعثمان .
ثم في صفين يلاقي سيدنا علي بني أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، ثم الخوارج الذين خرجوا من جيش علي بن أبي طالب وقاتلوه، بسبب قبوله الصلح مع معاوية، انضم لعلي رضي الله عنه مسلمون كثر، سموهم شيعة علي ــــ لم يكن التشيع آنذاك بنفس المفهوم المذهبي الآني ـــــــ وكان منهم الصحابة عمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن عمرو وغيرهم . قتل بتلك المعارك عشرات الألوف، كل منهم يرى نفسه رافعًا لواء الحق؛ حتى قيل أن الخارجي كان يقاتل في المعركة وعند موته والسيف مغروس في خاصرته يقول: عجلت إليك ربي لترضى .
قتل الخوارج عليًا رضي الله عنه، وخلّف شيعته من محبيه وآل بيته، ابنه الحسن سيد شباب أهل الجنة خليفة، فكان خير خلف لخير سلف، مكث شهورا فرأى بعين عاقلة أن القوم ليسوا بقوم نجدة وعزيمة، فكما خذلوا أباه سيترك عند أول قارعة، فتنازل لمعاوية عن الخلافة، لوأد الفتنة، وحقن دماء المسلمين، وصدق فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين .

( 4 )

الفتنة أيام علي ومعاوية رضي الله عنهما ألجأت الكثير إلى اعتزال الفريقين، فعافت نفوسهم الدنيا وما فيها؛ فكيف بمن كانوا لا يرضون القشة تسوء صاحبه يتقاتلون فيسقط منهم الألاف قتلى تحت سنابك الخيول دهسًا؟! كيف جعلوا للشيطان بينهم سبيلا ؟! في ذاك الوقت غرست بذرة الزهد والانعزال لتجنب الخوض في دماء المسلمين بلا حق، ورجح هذه الفكرة الحسن بن علي عندما تنازل لمعاوية وآثر السلامة .
قرابة الثلاثين عامًا من حكم معاوية، كان ثمة شعور سائد بين المسلمين بالذنب والخذلان، خاصة العراقيين، لنكوصهم وعدم نصرة علي رضي الله عنه في مواجهة معاوية حتى قُتل، فكان بين الحين والآخر يخرج أناس ضد معاوية، وزاد من كراهيتهم لبني أمية عندما حرص معاوية على أخذ البيعة لابنه يزيد للخلافة من بعده، وهو ما استنكروه ووجدوه تعدي على مبدأ الشورى في الإسلام؛ النبي بذاته لم يفعلها .
كان الحسين آنذاك رفض المبايعة ليزيد وفر من المدينة إلى مكة، وهناك وصلت إليه رسائل كثيرة من العراقيين لحثه للمسير إليهم كي يُبايَع خليفة للمسلمين .
بعث الأمام الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل ليرى خبر العراقيين ومدى صدقهم من نصرته و الوقوف بجانبه ضد يزيد، توافد العراقيون على مسلم ليبايعوا الحسين أميرًا لهم، ولكنهم نكثوا بيعتهم للحسين في اللحظات الأخيرة بينما هو في الطريق إليهم، وقتل ابن زياد مسلم بن عقيل ومثل بجثته .
عند كربلاء حدثت الفجيعة الكبرى، استشهد الحسين وستة إخوة، وخمسة من حفدة فاطمة الزهراء وغيرهم، وأسر الأمويون بنات آل النبي، وأرسلن ليزيد كأسارى حرب، عندئذ ندم من قاموا باستدعاء الحسين، وقرروا التكفير عن ذنوبهم بالخروج على الدولة الأموية، وحدث هذا الخروج بالفعل وقُتل منهم عددٌ كبير في الكوفة و أيضًا في المدينة المنورة.
( 5 )
ومن هنا بدأ التشيع يميل إلى المذهبية، وراحت فئة غريبة على الإسلام تتدخل وتكيد له بالباطن، فغدت تلهب المشاعر وتغذي الأحداث بسمومها، فنادوا بالرجعة والوصية والتبعة، واتخذت من ظلم آل البيت تُكأة لأهدافها، منتهــــزة حالة شعور المتزايد بالأسف والتقصير في نصرة سيدنا علي وآل بيته، والتسبب في مقتل الحسين .
كان لابن سبأ النصيب الأكبر من استبدال التشيع الحق الذي يعني الأنصار إلى تشيع لئيم ينخر في ثوابت الدين، ويرمي لأهداف خبيثة بعيدة مؤجلة، فخرج من عباءة فكره، المختار بن عبيد الثقفي بالكوفة، الذي بايع محمد بن الحنفية، وزعم أن ابن الحنفية المهدي المنتظر، وعلى الناس اتباعه. وقرب المختار إليه الفرس والموالي وربطهم بالتشيع، ورفع من شأنهم . غير أن ابن الحنفية لم ينساق خلف المختار. وعند موت ابن الحنفية انقسم الاتباع من خلفه، منهم لم يسلم بموته، ومنهم آمن بوفاته وبايعوا ابنًا له .
وبمرور الزمان تزحزحت الأفكار والعقائد هنيهة هنيهة، فانبثق من شيعة آل البيت الروافض، وذلك في عهد زيد بن على زين العابدين بن الحسين، حينما رفضوا رأيه بأن أبا بكر وعمر من خيار الناس، لذا تركوه وحيدًا أمام جيش الأمويين بلا سند، فقتل كما قتل أجداده علي والحسين .
هؤلاء الروافض حتى لا ينبذون من المجتمع الإسلامي، تقربوا ( تقية) من المتصوفين والمحبين لآل البيت، رغم خروجهم من الصف الإسلامي وذلك بتكفيرهم كبار الصحابة، وطفقوا لم يتركوا سانحة وإلا عبروا فيها قدر محبتهم لآل البيت . لدرجة أن كثير من المعاصرين يرون تقاربهم من التصوف لحد التوافق بينهما . وهذا غير صحيح .
في القرن الثاني الهجري إبان الخلافة العباسية، أقبل الناس على الدنيا بترفها ونعيمها، فكثر اللهو والمجون، ومن ثم كان الإعراض عن الآخرة ابن شرعي لهذه الحقبة، وطبيعي أن يكون لذلك الخروج عن هدي الصحابة ردة فعل، فكان لبذرة التصوف التي ألقيت في القلوب أيام الفتنة الأولى أن تنبت وتينع، فراحوا يلوذون بهدي سلفهم، فقهًا أصيلاً، وعملاً يوازي منهج النبوة قولاً وعملاً .​
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى