د. أحمد حدادي - ألحان الطيور وصداها في نفوس الشعراء الأندلسيين

لما كان الحديث عن وصف الطبيعة في مثل هذه المناسبة من النوافل، فإنه يكفي أن أحيل القارئ على كتب كثيرة في التراث الأدبي الأندلسي من مصادره القديمة ومراجعه الحديثة ليجد الجواب المقنع والحجة البالغة إذا ما سأل سائل عن ذلك.
وإن اختياري لموضوع الطيور في هذا الأدب ليرجع إلى علاقة ذلك بالجانب البديع من وصف الطبيعة ولما له من الآثار النفسية والعقلية والروحية في حياة الشاعر الأندلسي بخاصة، ثم لما لهذه المخلوقات من الأثر الكبير في نفس الإنسان بعامة، فقد كان يستلهم من مناظر الطيور وأصواتها وألحانها وحركاتها كثيراً من جوانب الفرح والألم والسعادة والشقاء والتفاؤل والتشاؤم، تلك هي الحياة وذلك هو الإنسان في السراء والضراء.
ألا إنما الدنيا نضارة أيكة *** متى اخضر منها جانب جف جانب
هذه هي نظرة الأندلسي إلى الدنيا وإلى الحياة، وهو يصارع غمراتها ويكابد أمواجها العاتية، وبما أن الإنسان ترتبط حياته بآماله وآلامه فإنه بمجرد ما يطرقه حادث من الحوادث يحاول بالخير أو الشر أو ما يصدر منه بالرجوع إليهما، وقد يكون لذلك علاقة بيقظته ونومه، ولهذا تجده يؤول الأحلام وفق تلك الآراء المعروفة في كتب التراث الإسلامي، أو وفق النظريات الحديثة المشتهرة، وذلك تبعاً للوقائع التي يمكن أن تؤثر في حياته تأثيراً ساراً أو مقلقاً، وهكذا نجد هذا الإنسان الأندلسي يرى الخير والشر بمنظار خاص، وما هذه الطيور بألوانها وأصواتها وألحانها وحركاتها سوى صدى يردد لنا ما لهؤلاء الشعراء الأندلسيين من مكنونات أنفسهم وعقولهم في حالتي اليقظة والمنام. ولاشك في أن دارس كتب الحيوان وكتب النبات والأزهار والأشجار وكتب الصيد وغيرها، تنكشف له أسرار كثيرة وقضايا وظواهر معجبة تتصل بهذا الميدان. وعند الرجوع إلى دواوين شعراء الأندلس يتبين لنا أن أغلب الأوصاف والتشبيهات والمعاني تدور حول أنواع معينة من الطيور، فلو أخذنا مثلاً ديوان ابن خفاجة لوجدنا أن عدد أسماء الطيور الواردة فيه سبعة وهي الحمام والمكاء والعصفور والقطاة والبازي والنسر ثم الطائر على عموم لفظه. وإذا شئنا تبين نسبة ورود هذه الطيور في بعض الدواوين فإننا نجد أنها وردت في نفس هذا الديوان على النسب الآتية:
الحمام: 34 مرة ـ عامة الطير 15 مرة ـ المكاء 3 مرات ـ البازي 2 (مرتين) ـ العصفور 1 (مرة واحدة) ـ القطاة 1 (مرة واحدة) ـ النسر 1 (مرة واحدة) (1) .
وقد تختلف هذه النسب من ديوان إلى ديوان، لأن لكل شاعر طبيعة خاصة قد تميل إلى طائر معين ولأنه يمثل آماله وآلامه وتشير كذلك إلى قوته وضعفه من حيث النفس والعقل والهمة والطموح ومع ذلك يبقى ذكر الحمام وما يصنف في نوعه كاليمام والرابعي والقمري والورداني أوفر نصيباً وأكثر ذكراً، يقول الدكتور حازم عبد الله خضر:
"تجدر الإشارة إلى أن فكرة الربط بين شجو الحمام وإثارة الذكريات والآلام والأحزان فكرة مشرقية طرقها عدد قليل من الشعراء في العصور والفترات المختلفة، غير أن الأندلسيين قد يختلفون عنهم في طريقة معالجتهم لهذا الربط والنتائج التي يرتبونها عليه بالإضافة إلى نفننهم في تأليف الصور والجزئيات المستحسنة وطرق المرج بين الأندلسية في مظاهرها وأشكالها وأحوالها المختلفة المعاني التي تصور البيئة الأندلسية في مظاهرها وأشكالها وأحوالها المختلفة والنفسية الأندلسية في نزعاتها العديدة وأحوالها الكثيرة وفي ظل العديد من الظروف والملابسات..." (2).
وبعد أن رجعت إلى بعض الدواوين والمجموعات الشعرية وغيرها تبين لي أن أغلب الأوصاف والتشبيهات والمعاني كانت تدور حول أصناف معينة من الطيور، قد جمعت حوالي ستين (60) نموذجاً من النماذج الشعرية فوجدت أنها ذكرت حوالي 17 (سبعة عشر نوعاً من أنواع الطيور وهي مرتبة حسب تواتر ذكرها في مجموعة من المصادر والمراجع وذلك كما يأتي: الحمام 20 مرة ـ الطير بعامة 14 مرة ـ العقاب 4 مرات ـ البلبل 3 مرات ـ القمري 3 مرات ـ البازي 2 مرتين ـ وورد مذكوراً مرة واحدة: الدجاجَ العنقاء ـ الفرخ ـ الجراد ـ ابن ورقاء ـ الغراب ـ الطاووس ـ البط ـ أبو حديج ـ الصقر).
ولكي نتعرف حقيقة هذا الشعر ومعانيه ينبغي أن ندرسه حسب الظروف التي قيلت فيه وكذلك المعاني التي تشير إليه وحسب أنواع هذه الطيور في قوتها كالنسر والصقر والعقاب والفرخ والبازي، أو حسب جمالها كالطاووس والحمام والقمري أو حسب ضعفها كتصوير أندلسي في ظروف الانهزام العسكري والنفسي أمام العدو كالجراد والدجاج وغير ذلك من المعاني كالتشاؤم من الغراب والاختيال للديك الخ. الخ.
وإليك هذه النماذج التي نستشف منها طبائع الأندلسيين ومكامن نفوسهم ومن ذلك قول أبي إسحاق الإلبيري الغرناطي:
أحمامة البيدا أطلت بكـــــــــاك *** فبـــحسن صوتك ما الذي أبكــــاك
إن كان حقاً ما ظننت فإن بـــي *** فــــــوق الذي بك من شديد جواك
إني أظنك قد دهيت بفـــرقـــــة *** مــــــن مؤنس لك فارتمضت لذلك
لكن ما أشكوه من فرط الجـوى *** بخـــــلاف ما تــجدين من شكواك
أنا إنما أبكي الذنوب وأسرهـــا *** ومناي في الشكوى منال فــــكاكي
وإذا بكيت سألـت ربي رحـمـة *** وتـــجاوزاً فبـكاي غــير بــكاك(3)
فهذا الشاعر أبو إسحاق الإلبيري الذي كان يحفظ شعره العامة والخاصة والصغار والكبار والرجال والنساء يصور لنا نفسه عند سماعه الحمامة المطربة بذلك الشعور الديني الذي يندب فيه نفسه ويذكر ذنوبه مستغفراً تائباً ولهذا نجد أن الأندلسيين في زمانه كانوا يتطلبون شعره لحفظه وتفهمه واتخاذه سبيلاً إلى تهييج العواطف والنفوس من أجل الرشد والتقوى وكفاح عناصر اليهود والأعداء. ولهذا كان شعره كصحيفة إعلامية تطالع قراءها الذين يترقبونها بشغف كل صباح. ثم إن تصويره أبدع مما صور به نفسه الشاعر المشرقي أبو فراس الحمداني الذي سمع حمامة وهو في أسره، وكانت تنوح على شجرة فقال يخاطبها:
أقول وقد ناحت بقربي حمامــة *** أيا جارتنا هل تشعرين بحـــالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة الـــنوى *** ولا خطــرت منك الهموم ببال
أتحمل محزون الفــــــــؤاد قـــــوادم *** علــى غصن نائي المسافة عال
أيا جارتاً ما أنصف الدهر بـــيـنـنـــا *** تــعالي أقاسمــك الهموم تعـــالي
تعالي تري روحاً لدي ضعيفـــــــــة *** تردد في جسم يعذب بـــالــــــي
أيضحــك مأسور وتبكي طليقــــــــة *** ويســــكت محزون ويندب سال
لقد كنت أولى منك بالدمـــع مقـــلة *** ولكن دمع في الحوادث غال(4)
هكذا صور أبو فراس الحمداني نفسه الضعيفة في الأسر المقهورة بين يدي الأغلال في وسط لا يلائمه ولا يواسيه ولا يناسبه. وشتان بين شعور أبي فراس وبين أبي إسحاق الإلبيري. فهذا يذكر ذنوبه وأسرها وذلك يبكي فقدان الحرية وأسر الدنيا.
ثم أن إسحاق الغرناطي الإلبيري لم ينس ذكر ما يتصل بالدين والعقيدة.
وحططت رحلي تحت ألوية الهدى *** ولــمــا رآني الله تـــحت لــــواك
هجــر الــغواني واصــلاً لعـــقابــل *** يضحــكن حـــباً للــوالي الباكــي
إنــي أرفــت لـهـن لا لحـمائـــــــــم *** تبكي الهديل على خصـون أراك
لا عـــيش يصفو للمـــلوك وإنــــما *** تصفو وتحـــمد عيشـــة النســاك
ومــن الإله على النبي صـــــــلاته *** عــدد النجوم وعدد الأملاك(5)
نعم ما أحلى عيشة النساك وأصفاها وقد أجملها الذكر الحكيم في الآية الكرية: "إن الأبرار لفي نعيم" وقد شرحها بعض المفسرين بأنهم أهل القناعة والرضا بالقليل.
ومن أجود ما قيل في هذا الميدان أي ذكر الحمام قول ابن عبد ربه:
وإن ارتياحي من بـــكاء حــــمامة *** كــذي شجن دويته بشجـــــــــون
كأن حمام الأيـك حين تـــجـاوبــت *** حزين بكى من رحمة لحزين(6)
وقال ابن عبد ربه كذلك وقد سمع حمامة تشجو:
ولــــرب نائحــــــة على فــنـن *** تشجــي الخلي وما به شـــجــــــو
وتغــــــردت في غصن أيكتها *** فكأنمــــا تغريــــدها شــــجو(7)
ففي الأبيات الأولى يذكر الشاعر حمامة صادحة على الأفنان في شجو وحنين ويبدو أن حمامة كانت ذات شجا حزين مما هيجت عواطفه حتى بلغ إحساسه الشعري ذروته عندما تصور تناغم شجا الحمامة الحزين وكأنه انبعث بكاء لحزنه. وأما في البيتين الأخيرين فإنه يكرر نفس الصورة بأسلوب رقيق يكشف عن ترجمة ذات الشاعر إزاء عجائب مخلوقات الله ـ جل شأنه ـ وبإيمانه وقدرته وتأمله.
"يبدو أن الشعراء الأندلسيين عندما يسمعون تغريد الطيور كانوا يجدون في ذلك صورة تحرك مكامنهم ونغمة تهز قلوبهم وتشدهم إلى التناغم مع الطيور فيأتي شعرهم صورة صوتية للأغاريد العذبة"(9).
ومن ذلك أيضاً قول أبي إسحاق الإلبيري:
قد بلغت الستين ويحك فاعــــلم *** أن مـــــا بعدها عليك تلـــــوم
أنت مثل السـجل ينشـر حيــــناً *** ثم يطوى من بــعد ذلك ويختم
شــفـيعـي إليه حســـــن ظنوني *** ورجائــــي وأنـــــي مـسـلــــم
ولــه الحـمـد أن هـــــداني لهذا *** عدد القطر ما الحمام ترنم(10)
وهكذا نجد هيمنة الروح الدينية على فكر الإلبيري.
وما أكثر ما كان يدور من الأبيات حول هذه المعاني اللطيفة ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
قال عبد الكريم القيسي البسطي:
لـبـلـيـلـتي يبكي الحمام هديـــلاً *** ولمحنتي يرثي العدو طويلاً(11)
وقال ابن خاتمة الأنصاري في موشحة:
لغناء الحــمام في قلبي *** رقـــة ونـحـــــول
ذكرتني معاهد القرب *** والزمان الوصـول
إن تحل يا مناي عــن *** حبي إنني لا أحول(12)
وقول ابن خاتمة أيضاً في موشحة:
يا حماماً شدا على الرنــــد *** بالنــبـــي يا حــــمام
إن خطرت على ديار حبي *** خصها بالسلام(13)
ومن ذلك قول يوسف الثالث في التأبين:
على جــــدث ثــاو برية نـــــــازح *** تسح جفوني أو تقـــر جـوانحي
كأن لم يمت ميت سواك ولو يـــكن *** بكائي لترجيع الحمام الصوادح(14)
ويقول ابن الحياب الغرناطي في موكب الحجيج:
تمادى دعا داعي الرشـــــاد مردداً *** لـبّـوْه كـالـحـمـام صوادحاً(15)
ويقول إبراهيم ابن سهل الإسرائيلي وهو على ضفاف الوادي الكبير:
غيــري يميل إلى كــلام الاحي *** ويــمـد راحــتــه لغير الــراح
لاسـيـما والغصـن يزهر زهره *** ويميل عطف الشارب المرتاح
وقـد اسـتطار القلب ساجع أيكة *** من كـل مـا أشكوه ليس بصاح
قـد بـان عـنـد جـنـاحه عجباً لـه *** من جانح للعجز خلف جناح(16)
ويقول أبو الحسن محمد بن سفر وهو على وادي المرية:
واشـرب على شـدو الحمام فإنه *** أشهى إلي من الغربض ومعبد
أتـراه أطـربـه الـخـلـيــج ورأى *** تصفيقـه تحت الغصون الميّد(17)
ومن أوصافه البديعة وهو بالقرب من الوادي الكبير:
فتضاحكت ورق الحمام بدوحه *** هـزءاً مـن الحياء إزاره(18)
ومن ذلك قول عمر بن عمر القاضي:
هــم نظروا لواحـظـها فـهـامـوا *** وتـشـرب لـب صاحبها المـدام
وأذكـر قـدها فـأنـوح وجـــــــداً *** عـلى الأغصان ينتدب الحمــام
وأعـقـب بـيـنها في الصدر غما *** إذا غربت ذكاء أتى الظلام(19)
ومن ذلك قول محمد بن غالب الرصافي في مجلس شراب:
وعــشــــــي راق مـنـظـــــــره *** قد قطعناه على صرف الشمـول
حــبــــذا مــــنـزلـنا مـعـتـيـقـــاً *** حيث لا يطربنا الهـــديل(20)
أي هديل الحمام.
ومنه قول على بن سعد الخير في وصف ساقية ودولاب:
لله دولاب يفيــــــض بـسـلـســــــــل *** فـي جـنـة قـد أيـعـنــت أفـنــانـــاً
أضحـت تـصارحه الحمائم بشجـوها *** فيـجيبــها ويـرجـع ألحانــاً(21)
ومن خلال هذه النماذج الشعرية في ذكر الحمام يتبين لنا أنها تتصف بالرقة والعاطفة القوية وتصور مكامن النفس، ومع ذلك نجد الأستاذ عبد الله خضر يقول:
"وقد نستطيع أن نذكر أمراً آخر في بكاء الحمام كما يصوره بعض الشعراء وهو لفت النظر إلى أنه ليس كل من يبكي أو يظهر الحزن يعبر عن مصاب جلل في نفسه أو ذويه وإنما قد يكون لمجرد الترنم والنغم لا ظل له في أعماق القلب وأغوار النفس..." (22).
وبعد ذكر بعض ما يتصل بالحمام آتي ببعض النماذج من مختلف الطيور التي ذكرت أسماؤها قبل ومن ذلك قول أبي الحجاج المنصفي:
وسـابـح بـأن لا تـثـنـي قـوائمـه *** كـالـصقـر ينحط مذعوراً لعقبان
كأنـه مـقـلـة للـجـو شـاخـصـــة *** ومن مجاذيفه أهـداب أجفان(23)
وغالباً ما نؤول تصوير الصقور والنسور خاصة بكون الأعداء يتخطفونهم ويترصدونهم ليفعلوا بهم فعلها. لأن نفس الأندلسي في عهد الطوائف كانت ممزقة ضعيفة لا تأمن غوائل هذا العدو القوي الذي لا يرعى إلا ولا عهداً.
ومما يتصل بهذا أيضاً قول أبي إسحاق الإلبيري في وصف عقاب:
ولقـد رأيـت من الزمان عجائباً *** جـربتها بمـواردي ومصـادري
فوجدت إخوان الصفاء بعزمهم *** يلقاك أمحضهم بعرص سابري
ولـربمـا شــذ مـنهــم نــــــــادر *** وأصولنـا أن لا قيـاس بـنــــادر
وإذا نـبـابــي مـنـزل أو رابـنـي *** صفـقـت عـنـه كالعقـاب الكاسر
ولقـد عجبـت لمؤمـن في شـدقة *** جــرس كـنـاقــــوس بيعة كافـر
لـمـا رأيت الأرض أصبح ماؤها *** رنقاً كفتني منه حسوة طائر(24)
ومن أبدع الأوصاف قول أبي محمد بن صارة الشنتريني في وصف البادنجان:
ومستحسن عند الطعام مدحرج *** غذاء نمير الماء في كل بستــان
أطــافت به أقمـــاعــــه فكـــأنه *** قلوب نعاج في مخاليب عقـان(25)
ومن أوصاف ما قاله عبد العزيز بن القبطورنة في استجداء باز:
يــا أيهـا المـــلك الذي آبــــــاؤه *** شــم الأنوف مــن الطراز الأول
حليـت بالنعـم الجســام جسيمــة *** عنقي فحل يدي كذاك بأجـدل(26)
والأجدل هو البازي.
ومن ذلك قول علي بن لبال يصف زوارق نهر:
بنفسي هاتيـك الزوارق أجريـــت *** كحـلـبـة خـيـل أولاً ثـم ثانـيـــــاً
وقد كان جيد النهر من قبل عاطلاً *** فأمسى بـه في ظلمـة الليل حالياً
ورب مـثـار بالـجـنــاح وآخـــــــر *** برجل يحاكي أرنباً خاف بازياً(27)
ولا شك في أن الشاعر كان يصور نفسه وقهر العدو له سواء بسواء أي كما يصيد البازي الأرنب.
ومن الأوصاف ما قاله أبو زيد عبد الرحمان بن مقانا في مديح العالي إدريس بن يحيى بن حمود صاحب مالقة، وقد ورد في ذلك لفظ الغراب:
قد بـدا لي وضح الصبح المبيـــن *** فاسقينهـا قبل تبكير الأذيـــن
وانبرى صبح الدجى عن صبحه *** كغراب طارعن بيض كنين(28)
ومن الأوصاف التي جمعت بين وصف الديك والطاووس والبط قول الأسعد بن ابراهيم بن بليطة (واصفاً ديكاً):
وقـام لها ينعي الدجى ذو شقيقـة *** يدير لنا من عين أجفانه سقطـاً
إذا صـاح أضحى سمعه لأذانـــه *** وبادر ضرباً من قوادمه الإبطا
كـأن أبـو شروان أعلاه تاجــــــه *** وناطت عليه كف مارية القرطا
سبى حلة الطاووس حسن لباسها *** ولم يكفه حتى سبا المشية البطا(29)
ومما يصور الوضع الأليم والحالة المزرية التي كان يعيشها الأندلسي أمام العدو من الأحوال النفسية الممزقة قول شاعر مجهول في التائية المشهورة:
فجاءت علينا الروم من كل جانب *** بسيل عظيم جملــة بعد جملــة
ومالـوا علينـا كالجراد بجمعـــهـم *** بجـد وعزم من خيــول وعــدة
فكنا بطول الدهر نلقى جموعــهـم *** وفرساننا في حال نقص وقلة(30)
ومما يصور ذلك الشعور أيضاً قول يوسف الثالث بعد أن كتب إليه أبو عثمان الإليري وقد قرب ركابهم بمرج غرناطة من بلدة إليرة ونبه على شيء من الدجاج وجهها منفردة عن فروجها:
أفــلا نظـــــــرت إلى الدجــــــا *** ج بمنظـر الفطن الأريـــــــب
أو مـــا أصَـخْــتَ لديــكهــــــــا *** إذا صــاح يا أنس الغريـــــب
وصــراخــاً فـــي لـيـلـــــــــــه *** إذا قــال مــن فـوق الكثيــــب
بــعــث الـعـيـال هــديــــــــــــة *** للـبـث صــرت وللوجيـــــــب
أسـتـــــــاذكـم لـم يــــــــرع لي *** قـلـبـاً تـردي فـي الـقـلـيــــــب
جــــــــاذبت من لا يـنـثـنــــــي *** ودعوت من لا يستجيــب(31)
إننا نفهم من ألفاظ القصيدة كثيراً من معاني الانكسار والخيبة والانهزام، فالديك هو الحامي للدمار، ثم انظر لفظ أنس الغريب ثم الصراخ. وهذا يحل على الاستنجاد، ثم ذكر الليل وما فيه من معاني الحزن والغم. هذا بالإضافة إلى الوجيب والبث أي الحزن الشديد. ونبلغ بهذا النص إلى قمة الحزن في السطر الأخير من البيت الأخير "ودعوت من لا يستجيب". وهو يشبه قول الشاعر:
لقـد أسمعــت لو نــادـيت حـــياً *** ولكـــن لا حـــياة لـمن تنـادي
تلك بعض المعاني التي يمكن أن تعرض للقارئ للوهلو الأولى.
ومما يصور كذلك فقدانه الخل الوفي والصديق المخلص والإنسان النقي عقلاً وخلقاً قول أبي إسحاق الإلبيري:
فمـن الــرأي أن تـكـون جبـانــاً *** سامريـاً يديـــن بالانـــزواء
والتــقي المـوفق الـبــر مـنـــهم *** عدم كالسـماع بالعنقاء(32)
والعنقاء طائر خرافي لا حقيقة له، كما لا حقيقة لمن نثق به في مثل هذا الزمان الذي يسوده الغش والكذب والنفاق والمَيْن والذي يروغ كما يروغ الثعلب.
وخلاصة القول إننا عندما نذكر الطيور في هذه القصائد الأندلسية لا نغفل الحياة النفسية والأوضاع الاجتماعية والسياسية للمجتمع الأندلسي، ولا ننسى أن الأندلس بخاصة والغرب بعامة كانا يعرفان بعض الطيور وصفاتها وطبائعها أكثر من غيرهما من البلدان فقد ذكر عبد الرحمان البلدي أن أفضل الشواهين فيما قاله أهل التجربة مأواها أقصى المغرب وبلاد مصر وما يلي من جانب بحر الشام(33).
ويقول أيضاً عن الصقر والعقاب الصيدي:
"ليس أنواع العقبان شيء نافع في الاصطياد وغيره ومعدنه الجبال العالية في ناحية أرمينية وبلاد الأكراد وغيرها لكنه قليل الوجود وقد توجد أيضاً في بلاد المغرب وهي أجود معادنها"(34).
وأما عن العقبان فقد قال الغطريف: "إن أول من لعب بالعقبان أهل المغرب وأن حكماء الروم رأوا العقبان وشدتها وقوة سلاحها وعظم خلقها قالوا هذه التي يقوم خيرها بشرها(35).
وهذا يدل على أن الشعراء الأندلسيين والمغاربة عندما يصفون الطيور كانوا على خبرة تامة بطبائعها وأسرارها ويكفي على ذلك دلالة هذه النصوص لعبد الرحمان البلدي المصري.


الهوامش

1- أنظر ديوان ابن خفاجة. تحقيق الدكتور سيد غازي. طبعة 2. 1979. ص 408.
2- وصف الحيوان في الشعر الأندلسي، عصر الطوائف والمرابطين للدكتور حازم عبد الله خضر. دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1987. ص 103-110.
3- ديوان إبي إسحاق الألبيري ص 33.
4- ديوان أبي فراس الحمداني 232. دار بيروت للطباعة والنشر. ط. 1979.
5- ديوان إبي إسحاق الألبيري 34-35.
6- اتجاهات الشعر الأندلسي إلى نهاية القرن الثالث الهجري ص 193. تأليف د. نافع محمود دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد. 1990م.
7- نفسه.
8- نفسه.
9- نفسه.
10- ديوان أبي إسحاق الألبيري 50-51.
11- المختار من الشعر الأندلسي وفصول في شعر المغرب وصقلية وفي الموشحات والأزجال، مدخل إلى تاريخ الأدب العربي في الأندلس والمغرب وصقلية لمحمد رضوان الداية ص 223. دار الفكر المعاصر - بيروت – لبنان- دار الفكر – دمشق بسورية، ط. 3، 1992.
12- نفسه.
13- نفسه 317.
14- ديوان يوسف الثالث ملك غرناطة تحقيق المرحوم عبد الله كانون ص 20.
15- ابن الجياب الغرناطي حياته وشعره للدكتور علي محمد النقراط ص 269. الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان.
16- في الشعر الأندلسي لكارسيا غومس ص 142.
17- نفسه 161.
18- في الشعر الأندلسي لكارسيا غومس ص 161.
19- نفسه 163.
20- نفسه 176.
21- نفسه 177.
22- وصف الحيوان في الشعر الأندلسي 117.
23- في الشعر الأندلسي 179.
24- ديوان الألبيري.
25- في الشعر الأندلسي 137.
26- نفسه 134.
27- ديوان الألبيري 143.
28- نفسه 120.
29- نفسه 155.
30- أنظر كتاب سقوط غرناطة لجيمس مونرو وترجمة محمد الشرقاوي – دار الهداية 1984.
31- ديوان ملك غرناطة – يوسف الثالث ت13 – 14.
32- الديوان 85.
33- الكافي في البيزرة تأليف عبد الرحمن بن محمد البلدي – تحقيق وتقديم وتعليق إحسان عباس وعبد الحفيظ منصور ص 71 – 72. طبعة 1- 1983.
34- الكافي في البيزرة تأليف عبد الرحمن بن محمد البلدي – تحقيق وتقديم وتعليق إحسان عباس وعبد الحفيظ منصور ص 73.
35- نفسه 101.


نقلاً عن أعمال ندوة البحث في التراث الغرناطي حصيلة وآفاق، تنسيق
مصطفى الغديري، تنظيم: كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ وجدة، 2001.


د. أحمد حدادي
كلية الآداب ـ وجدة
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى