أمين الباشا - شمس الليل

يستيقظ صباحًا, ويغادر فراشه بعد تردد, ثم ينتصب على أرض غرفته الملساء ذات المربّعات الملوّنة أشكالها الهندسية بألوان حمراء وزرقاء وخطوط سوداء وبيضاء.

استيقظ?.. لا.. فهو لم ينم ليستيقظ من نومه. لم ينم لأنه كان مسكونا بالأرق.. جرّب أن ينام.. ولكن.. لا.. النوم لم يزره ولو لدقيقة واحدة, عيناه كالنافذتين الزجاجيتين, مفتوحتان ولكن بلا حياة.. كالأبواب التي رأت كثيرين من المارّة, والداخلين والخارجين, وأصبحت مع مرور السنين لا تبالي بمن يدخل وبمن يخرج, هكذا عيناه, فهما مفتوحتان ولا تريان سوى الأرق المجسّد بحيطان غرفته, وبلون شراشفه, وكرسيه وطاولته والنافذة المغلقة.. واللوحة المعلّقة وكأنها النائمة الوحيدة في هذه الغرفة والكل في أرق مميت.. هو.. كرسيه.. طاولته.. شراشفه المبلّلة بالعرق.. وكأن العرق يأتي مع الأرق ويشتركان في تعذيب هذا الإنسان الذي غادر فراشه منتصبا ببعض الانحناء في ظهره, وكأن ليلته كانت رحلة في بلاء الظلمة, في مسافات, مساحتها لا أول لها ولا آخر, كالدّائرة التي إذا وضعت أصبعك على أي نقطة فيها تبقى تدور معها ولا تصل إلى الخروج منها.. وكل الدوائر تتشابه ودائرة الساعة التي لا تعرف النوم,فهي تدور على ذاتها, وتردّد الأغنية نفسها, أغنية الأرقام.. الرقم الواحد في الرقم الثاني عشر, وفيها وبينها يدور النهار والليل وما بينهما من مواعيد.. موعد للعمل, وموعد للأكل, موعد للذهاب وموعد للإياب, وموعد للحب.

هذا الموعد الثمين الذي يحمل كل الأحلام والآمال.. تأخذ دائرة الساعة في موعد الحب دورًا مهمًا, استثنائيًا, ملونًا, راقصًا, كما يأخذ من حامل الساعة التفاتًا, فهو ينظر إليها ويصبح للثواني والدقائق معناها الشائق.. وانتظار لمجيء أو عدم المجيء هو معنى الموعد.. معنى الحب.. الحب قبل أن تشير الساعة إلى ساعة معينة. والترقّب.. والانتظار.. والخوف من توقفها.. من معنى الثواني والدقائق, والخوف من عدم المجيء.

الأرق.. حالة لا سبيل لتفسيرها, وإن أصبحنا نفسّر كل شيء.. سبب الحر وسبب البرد.. الأوزون.. السيارات.. الطيارات.. المعامل.. وسيجار صديقي.. يا الله.. كيف وُلدت أول سيجارة? وكيف بيعت? ومن فتح أول دكان لبيع الدّخان? والدّخان.. والتدخين.. أسماء لفعل واحد, عندما نقول دخانًا يستطيع السامع أن يتخيّل حريقًا في منزل.. أو في غابة.. أو حريق شعر مستعار من سيجارة أمريكية. نقول: هل تريد أن تدخّن? في العربية والفرنسية والإنجليزية أيضا والإسبانية, أما بالألمانية فأنا لا أعلم ما هي الكلمة بالألمانية, أعرف البعض غير القليل من أسماء الموسيقيين والشعراء والرسامين الألمان.. وأعمالهم.. أمّا كيف يقال (هل تريد أن تدخن) بالألمانية, فهذا لا أعرفه, وهذا أيضًا ليس بذي أهمية, المهم أن الإنسان تعلّق أول ما تعلق بالتدخين, عندما رأى الدخان يخرج من فمه, ثم تطوّر فنه في التدخين فصار يخرجه من أنفه, ويقال إنه في المستقبل, أي بعد أسابيع أو أشهر أو سنين سيتطور المدخّن ليصل إلى إخراج الدخان من كل نافذة من نوافذ جسمه, وهكذا يزداد الأوزون ونعتاد على خطره كما نعتاد أو كما اعتدنا على كل المخاطر. سيتسّع هذا الأوزون الموزون ليدخل إلى كل بيت ومن البيت يدخل إلى الغرف المغلقة على شخصين ويستلقي بينهما.. ويحترقان معًا.

ويتصاعد الدخان من موضع مفتاح الغرفة ومن شقوق الباب, ويعلو ليختلط بالسّحاب, ويأتي الشاعر ويحدّق بهذا المنظر منشدًا قصيدة تحكي عن عناق السحاب, وفي فمه سيجارة يعلو دخانها مع خياله ليصير غيمة بيضاء, تتلقفّها السحب ويعمّ الهدوء.. ويصمت الجميع.. ويقف السائرون في الشارع, وعيونهم مفتوحة كالنوافذ الزجاجية.. تنظر ولا ترى.. ولا تسمع شيئًا.

كيف تريده أن ينام.. هذا الإنسان الأرق, وهو يرى كل ذلك في غرفته المظلمة? كيف ينام من لم يعتد النوم? وهل أن ظلام الليل هو الداعي إلى النوم, أم أنها العادة? عادة أن نرى الشمس في النهار والقمر في الليل.. وكل منهما ينير.. الشمس تنير بقوة فتعمي, والقمر ينير بشاعرية تجعل من السّاهر والمحدق به عاشقًا ولهان لشخص لم يره. ويبقى هكذا ليل نهار إلى أن تمتزج أنوار الشمس بأنوار القمر في رأسه ولا يعود يفرّق ما بين ظل ونور وضوضاء وسكون.

مشى قليلاً.. ودار في غرفته وفتح نوافذها وأغمض عينيه وارتمى على فراشه ونام.. حتى الغروب.. وما أن أتى الليل حتى راح ينتظر مجيء الأرق.

وما لبث أن ظهر.. وبقي حتى الصباح.. حتى صياح الديك.. وعندما صاح الديك فتح النافذة ونام ونور النهار في زوايا الغرفة, والساعات تمضي ويعم الظلام فيها فيفتح عينيه ويستيقظ.

جلس على سريره منتظرا الأرق, لكنه لم يأت, وبقي في انتظاره ساعات طويلة من الليل, حتى أن الليل لم يبق لديه سوى بعض الساعات لينتهي ويذوب.

نظر إلى ساعته.. الساعة الرابعة.. الرابعة والنصف.. الخامسة.

ولما صاح الديك, ابتسم عندما رأى أنه لم ينم.. كالعادة, عندئذ وقف منتصبًا على أرض غرفته, محنيًا ظهره, ناظرًا إلى مربعات الأرض الملوّنة, وكأنه يراها للمرة الأولى.

فتح النافذة, فاحتل نور الصباح كل الغرفة.. نظر إلى السماء.. للحظات وكانت السماء كالبارحة.. عاد إلى فراشه بهدوء وطمأنينة عندما رأى أن كل شيء في حالته العادية المرسومة, تمدَّد على ظهره وأغمض عينيه... ونام.




أمين الباشا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى