رحاب ضاهر - زهرة الشمس

الي المغتسلة بماء النار والزعفران. . .
.

(1)

من مدينة لمدينة تسافرين يتبعك شال الذهب . . .
من جهة لجهة تدورين بحثا عن بحر، تغتسلين فيه من تعب الأيام . . .
فعلى أي موقع من خارطة الأنين تقف قدماك الآن ؟ !!!!!
يا زهرة الشمس ، هل مر بك طيف ذلك الذي احبك بجموح كل القصائد دون أن يكتب يوما بيتا واحدا من الشعر؟!
يا أميرتي السومرية ، هل كان علي أن أكون شاعرا لاحبك؟ !!
هل يجب أن أكون روائيا لاكتبك ، وأنت القصيدة التي لا تنتهي والرواية المستحيلة ؟ !
هل كان الحب معك يحتاج إلى موهبة الشعر لاكون مبدعا وعاشقا نبيلا
يا سبيكة الذهب التي مشت على خط النار ومن يومها لم تعد ؟!!

منذ ذلك الصباح الذي اشرقت فيه شمس عراقية في حينا وتبسم وجه الذهب لي رقصت بيروت عارية واكتسبت لونك و تعمدت بماء العراق :
- أنا عراقية
حينها انسكب ماء الزعفران في أوردتي، وغرست زهرة الشمس في صدري وشما مسماري العشق .
يا ابنة الانتظار وشمعة النذور التي تشعلها والدتك في درب الغائب عله يأتي على نورها ، قدرك أن تكوني ابنة انتظارها، ونصيبها أن تكون امرأة الانتظار . . . انتظار والدتك الجنوبية التي تزوجت فدائيا عراقيا اختطفته منها بيروت و أخفته في دهاليز حربها ليصبح في عداد المفقودين .
أمك جنوبية الصبر، عراقية الهوى لم تكل يوما من البحث والأمل بحصول مفاجأة قدرية تعيد زوجها إليها ، تحضر اجتماعات أهالي المفقودين وتوجه نداءات إلى الصليب الأحمر وتتوسل لكل الأولياء والقديسين ، يلوح طيفه في جهات مختلفة لكنه لا يظهر عليها ، يقال لها انه في ليبيا وتارة في تونس والبعض يقول انه عاد إلى العراق وتوفي هناك . . تظل تنتقل من سفارة لسفارة ومن مقام لآخر تسال رفاق الجبهة وتستفسر من الدرب عن آخر خطواته ، تبحث عنه كل صباح وتتزين له كل مساء عله يطرق الباب فجأة، تشرب قهوتها المرة وتقلب فنجانها لتقراه لها أمي وتعطيها البشارة بعودة الغائب (عندك إشارتين . . بعد يومين . . أسبوعين . . شهرين .. سنتين الله اعلم )
تختفي الإشارتان وتمر الأيام والسنوات وتقلب الفناجين وتعربش زهرة الشمس على شرفات جسدي وتصبح أنامل الذهب رفيقة درب الجامعة امسك بها ، ونسير في شوارع بيروت احلم بأوقات الحب القادمة ، واحجز مقاعد لمستقبل الأيام معك يا زهرة الشمس التي وهبتها لون الحياة ، لكن ألوان الحياة قاتمة وغامقة كالون المرارة .


( 2)
لم تبق زاوية في بيروت أو طريق لم تباركه قدماك يا سبيكة الذهب ، كانت اجمل الأوقات حين يفاجئنا المطر بقبل غير متوقعة ، تركضين نحوي كشلال زعفران وترددين بصوتك العراقي الحزن :
مطر . .
مطر . .
أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟
بلا انتهاء – كالدم المراق ، كالجياع ،
كالحب ، كالأطفال ، كالموتى- هو المطر !
أناديك : يا عراقية !! ستموتين ، ترددين مطر . . مطر . . مطر وتتبادلين مع بيروت العشق والقبل والمطر ، يتثاءب المساء أشدك الي وانشف حرير الذهب بشال الصوف الملفوف حول رقبتي ، كانت ترتجف شفتاك شعرا وارتشفها شايا عراقيا بالهيل ، انزع عنك كنزتك المبللة بمطر العشق البيروتي والفك بدفء عمري . . تتسلل أصابعي تحت قميصك الوردي أتلمس خط الوبر الممتد على طول عمودك الفقري فتشهق عينيك باللذة وتشتعل يدي ، اتذوقك منا وسلوى فتسيلين ماء ذهب على روحي ، احتضن وجهك بين يدي فيبتسم دجلة والفرات ويتساقط رطبا عراقيا على جسدي .
- آه يا عراقية ما الذك !
أيتها المغتسلة بماء الشعر والمكتحلة بمداد الكلمات أنا الذي عشقتك ببلاغة كل الشعراء !!
هل كان ذنبي أنى لم اكن شاعرا ففقدتك للابد أنت التي تتغذين بالشعر وتتزين بالقصائد فتارة أنت سعاد وعفراء وبثينة و بلقيس
كنت كل المعشوقات والعشيقات . . .
كنت كل المحبوبات والحبيبات . . . ولم تكون يوما أنت
تلقين ماء النار في وجهي وتتهمينني بالجمود وتبلد الشعور لاني لا احب الشعر ولا أتعاطاه وتتحدثين عن ذلك الشاعر الذي شغف صبايا بيروت شعرا وغزلا وحبا ووهما ككل القصائد الخادعة والكاذبة ، تخرج الكلمات من فمك عذبة شفافة حين تتحدثي عنه . . . رائع . . . فنان . . مبدع .
تداومين على أمسياته الشعرية وترددين قصائده كصحف مقدسة . تبرق سبائك الذهب في صدرك حين جئت تركضين نحوي كسهم النار لتخبريني انك ستقابلينه في مقهى " المودكا " بمنطقة الحمرا .
ترى بأي بحر أطفأ شمسك ، وعلى أي تفعيلة صلبك وذل نهداك وخبا جرم يداه تحت شال من كلمات حريرية كاذبة؟ !!!!!


(3 )


لم الق بالا لذلك اللقاء الذي حول سبيكة الذهب إلى شظايا نحاسية وحطام زهرة تتقاذفها الأنواء ، لم الق بالا لذلك الموعد الذي حولك عن قبلتك الأولى . انتظرك عند مدخل الجامعة في موعد منقوشة الزعتر التي اعتدنا تناولها في زاوية حبنا- كما أسميتها – خلف شجرة دفلة تظللنا بالأمان وتخفي عن العيون قبل الزيت والزعتر فلا تأتين وتذهبين لتناول "الكرواسون" مع شاعر الوهم والعبث ، انتظرك في شوارع بيروت التي أحببتها وفتحت لها ذراعيك ذات يوم وأنت متكئة على ذراعي تراقبين غروبها وقلت لها : يا بيروتي الجميلة كم أعشقك !!
اقف تحت شباكك لاقول لك : تصبحين على بيروت فيفاجئني غروب شمسك باكرا ، وتنقطع نزهاتنا إلى شارع "بلس" شارعك المفضل لالقاء الأشعار على مسامعي ونحن نسير بجوار سور الجامعة الأميركية . أنت التي لكل حدث . . لكل مناسبة . . لكل كلمة . .بسمة . . رمشة . . دمعة .. في ذاكرتك أشعار تناسبها .
فهل كان علي أن أثق بسبائك الذهب و بالشعر؟!!!!!!!!


حين رأيت دواوين الشعر مهانة أمام بابك والقصائد منهوبة ممزقة الأثواب وذبول والدتك التي ظلت تقاوم السنين والرياح لتحتفظ بنور صباها على أمل عودة غائبها لم أدرك أي كارثة حلت بعراقيتي الذهبية ، ظننت أن خبرا ما وصلها يؤكد وفاة والدك حين قالت بانكسار وبصوت بالكاد يرتفع لي أذني :
- سنذهب إلى الضيعة .
وغابت وغبت معها ، ولم تعودي . . عادت وحدها وقالت انك تزوجت قريبا عراقيا لك وسافرت معه .
حينها هبت ريح صرصر عاتية على مدينتا فأحرقت وجهها وبعثرت جسدها وأضرمت النار في ذكرياتي . .
لم تعد بيروت . . بيروت ، ولا العراقية عراقية . .
لم اعد أنا ذلك العاشق الندي الذي أشعل أوردته عشقا وولها ولهفة على عتبات الذهب ، لملمت شهاداتي وجواز سفري ونثرت رماد الذاكرة على مفارق حينا القديم وهاجرت من تلك المدينة التي تحرق ضفائر الذهب دون أن يرف لها جفن ، استقريت في ألمانيا و أجلستك في ركن قصي وقيدتك بسلاسل من حديد صلب حتى لا تفلتي من النسيان أصبحت أنت وبيروت جزء من ما ض لن يعود .


(4)
لبيروت جبروت كل النساء . . .
لبيروت ضعف كل النساء . . .
لبيروت حنان كل الأمهات . . .
لبيروت ظلم كل الطغاة . . .

حين عدت إلى بيروت لحضور دفن أمي كنت اعتقد أن كل شيء ربطني بك انقطع وغار بعيدا في طبقات النسيان وتجاويف الأقدار . . لكن لبيروت أقدار تختلف عما نتوقع ، لها طريقتها الخاصة في تغليف الفواجع بأجمل الأوراق الملونة . . فاجعتي كان اسمها أنت !

آه يا بيروت كم غيرتك الأيام !!!!!!!!
كم تغيرت تلك المدينة التي كان اسمها بيروت وعشقناها معا وحملت خطوات قلوبنا الي مقاعد الجامعة وخبأت ضحكاتنا وحفظنا تفاصيلها
ولون عينيها حين تبتسم لعشاق الطرقات ، اختفى كل شيء ولم يبقى سوى شواطئ خالية لذكريات المكان حتى مقهى "المودكا" الذي جر الخراب لحقول الذهب تغير – يا عراقية – واصبح محلا لبيع الملابس . .
بيروت صارت مدينة يغطيها الغبار . . . الغبار في كل مكان حتى أمطارها أصبحت غبار ، وبابك القديم الذي اشرقت منه علي ذات صباح بيروتي القسمات ما عادت تقف أمامه نباتاتك الخضراء ، حل بها الخراب واستوطنتها آثار دارسة.
لم يدر في بالي أن اطرق باب الخشب العتيق وأنا استعد للعودة إلى ألمانيا ، كان كل شيء ربطني ببيروت قد انقطع أنت أولا، ثم أمي التي رحلت وهي تغص وتتمنى أن ترى أطفالي الذين لم يولدوا .
كنت احمل حقيبتي للفرار من غبار بيروت حين التقيت بأحمد . . أحمدك ابن الخطيئة. . خطيئة الشعر الذي لم يعترف به شاعرك المبدع فرميته في صقيع الملاجئ ورحلت بعيدا ، تركته عبأ على والدتك وهربت منه ومنها لأنه يذكرك بكل الأشعار التي خانتك وبكل القصائد التي خدعتك و أسالت دم عذريتك ، لم اكن بحاجة لاسأل والدتك التي تمسك بيده لتعيده الي الملجأ بعد أن قضى عطلة العيد عندها أن كان ابنك لأنه كان قطعة مسروقة من سبيكة الذهب ، قمر صغير من شمس عراقية اطل علي فتسربت أشعته الي قلبي. حين رايته افلت من سلاسل النسيان و تجمع الشوق والألم والحنين ولذة النشوة الأولى ورماد الذاكرة في فمي وجفت عروقي. كيف سكبت عليه ماءك ليأخذ منك لون الشعر وحيرة العينين وحتى خط اللهب الممتد من رقبتك حتى اسفل ظهرك.

يا عراقيتي !! هل كان قدر تلك الجنوبية الصابرة أن تكون امرأة الانتظار تقضي عمرها تنظر انتظارين . . . انتظار زوجها الغائب وانتظارك أنت التي سافرت بعيدا هربا من عار الشعر دون أن تترك أثرا أو رشة تبر من ذهبك . والدتك التي مرت بها كل عواصف الشيخوخة وجرفتها سيول اليأس وحفرت التجاعيد قلبها واستوطن المرض كبدها ترمي كلماتها أمامي كحصوة المرارة وهي تخبرني عن احمد الذي لانسب له وعن سفرك للعمل في الخليج وانقطاع أخبارك وما يصلها من أحاديث وأقاويل بعضها يقول انك تزوجت ثريا عربيا وبعضها انك تعملين راقصة في ملهى ليلي وتارة نادلة في أحد مطاعم أوروبا.
كزهرة عباد الشمس تدور بك الأفواه والأقدار فعلى أي جهة تشرق شمسك الآن ؟!!
حين انتهيت من توقيع أوراق تبني طهر خطيئتك ، كان المطر ينشج أنشودة الوداع و الطائرة ترتفع وبيروت ترحل بعيدا . . بعيدا وجذوري تقتلع منها رويدا . . رويدا وقمر ذهبي ينام على صدري .



رحاب ضاهر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى