طارق أبي سمرا - ليلةُ فتىً بورجوازي صغير.. ترجمها عن الفرنسية يوسف زبيب

في مساء يوم حار من تموز، توجه الفتى البورجوازي الصغير مع صديقه إلى كورنيش المنارة في بيروت. شرب الفتى وصديقه البيرة حتى ثملا.
بعد جلوسهما على أحد المقاعد لاحظا شابة متشردة محجبة، لها ساق واحدة، تجلس قبالتهما على الرصيف إلى جانب كرسيها المتحرك. كان بعض المارة يقتربون منها لشراء العلكة، لكن مدفوعين بحشرية شاذة، شبه مرضية، مرحة وحذرة، أكثر منها رغبة في إحسان أو شفقة. بالفعل لم تكن الشابة، للوهلة الأولى، تثير مثل هذه المشاعر. فابتسامتها كانت مصبوغة بقدر لا بأس به من الاستثارة. أما بضع الورود المطروحة أرضاً في موضع ساقها المبتورة، فكانت تنوب تماماً عن تلك القطعة الناقصة من اللحم.
تفوّه الفتى البورجوازي الصغير، ذو الشهوة الجنسية غير المحدودة – كان يجد لكل أنثى، مهما اشتد قبحها، مزايا مكمّلة تجعلها قابلة للنكاح طالما انتمت إلى العرق البشري – ببعض كلمات فاحشة عن المتشردة، مما جعل الصديقين المخمورين ينفجران ضحكاً. ثم قرر البورجوازي الصغير التقرب منها، فأمسك تنكة البيرة وأخذ علبة المارلبورو والولاعة من صديقه، تقدم نحو الفتاة فقدم إليها سيجارة وأشعلها. بعدما أعاد العلبة إلى صديقه، عاد ليجلس إلى جانبها على الأرض.
كان التقرب منها أسهل ما يكون: ما إن طرح عليها بضعة أسئلة من قبيل "كيف حالك؟"، "من أين أنت؟"، حتى أغرقته بسيل من المعلومات أجفلته بدرجة حميميّتها بعض الشيء. بعد 15 دقيقة عرف أنّ المتشرّدة من إحدى قرى الجنوب، وأنها منذ عام تقريباً، تجد لنفسها مكاناً كل مساء على كورنيش المنارة لتبيع العلكة، وأنها تبيت لياليها على الرصيف تحت شجرة، وأن عمرها 25 سنة، وأنّ ساقها بُترت جراء إصابتها بالغرغرينا التي تسببّ بها جرح خطير لم يعالَج على أكمل وجه، وأن خطيبها هجرها بعد ذلك، فتقدّم شاب آخر للزواج منها، لكنها رفضته. ضيق حال أهلها منعهم من إيوائها. على الرغم من هذا كله، لم ينقصها شبّان وسيمون لا يبرحون عن مغازلتها، فتصدّهم دوماً، باستثناء واحد فقط، ربما أخفت اسمه كعاشقة خجولة. أخيراً قالت إن دورتها الشهرية بدأت صباح اليوم.
ارتاع الفتى البورجوازي الصغير، لكن ليس إلى حد فقدانه اهتمامه بها، بنظراتها المشاكسة، بضحكتها المثيرة وشفتيها المكتنزتين. "آه على شفتيها!"، قال وهو يتصورها تمصّ قضيبه. لكن أمراً ما كان يزعجه. ربما كان ذلك شعوراً لا يزال مبهماً. كان على الأقل متأكداً من عدم ارتباطه بالصدمة التي نتجت مما باحت به المتشردة بشكل متسرع. كان احساسه يشبه من وجد نفسه فجأةً في بلاد غريبة، وكان صديقه يلحظ بين الحين والآخر ابتسامة مصطنعة تنطبع على وجهه.
لحظة علمه ببدء دورتها الشهرية، سألتهما فتاة عشرينية – شعرها مصبوغ بالأشقر، مكتنزة البدن، تلبس تنورة وتجر وراءها حقيبة مبَعوجة بدواليب – إن كان في استطاعتها الجلوس قربهما. كانت تلك الفتاة بمثابة يد إلهية خلّصته من انزعاجه ومن الحديث عن طمث الفتاة المتشردة. "طبعاً"، أجابها بارتياح شديد، ولم يُخفَ على صديقه صدق بسمته العريضة. ما إن جلست العشرينية حتى هبّت نسمة خفيفة حملت معها بعض الطراوة إلى تلك الليلة الحارة من تموز. لكن تلك النسمة التي كان يتوق إليها رافقتها رائحة نتنة إلى حد أنها جعلت الفتى البورجوازي الصغير يفكر في رائحة السمك الفاسد.
لم تكن الفتاة الشقراء أقل ثرثرة، بل هي أسهبت تلقائياً في الكلام عن نفسها، لكن من دون نبرة الإلفة الزائدة التي ميّزت حديث المتشردة. هكذا، وبينما كانت رائحة السمك تملأ أنف الفتى البورجوازي الصغير، علم – أو كان من المفترض أن يعلم، فرائحة السمك لم تسمح له بالتركيز جيداً – أن الفتاة الشقراء أجبرها أهلها على الزواج من رجل في سنّ والدها، وأن زوجها طلّقها قبل أقل من شهر، بالكاد بعد نصف سنة على بدء حياتهما معاً. بعد طلاقها رفض والداها الاعتراف بها، لاعتبارهما ما حصل عاراً لحق بالعائلة، فلم يبقَ لها مكان يؤويها، لذا راحت تتسكع في شوارع بيروت وتنام في زواياها المعتمة المريبة. علاوة على ذلك، هناك تحرّيان من الشرطة يتتبعانها في بعض الليالي بسيارتهما، فيهددانها بالاعتقال بتهمة التسول إن لم تقدم لهما خدمات جنسية. من حسن حظها أنها استطاعت التهرب منهما، لكنها كانت تشعر بالخوف هذه الليلة بالذات، إذ ظهرا أكثر إلحاحاً من ذي قبل على ملاحقتها، وقد استطاع الفتى البورجوازي الصغير أن يرى سيارتهما مركونة غير بعيد في الجهة المقابلة، من دون أن يفهم لماذا تقوم الفتاة الشقراء بالإشارة إليها بإصبعها.
إلهام مفاجئ سقط عليه: هذه الرائحة التي تصيبه بالدوار هي رائحة مهبلها. فكّر أن الشابة الشقراء لم تغتسل على الأرجح منذ مدة طويلة، ولا بد أن فرجها ينتن. تذكر بعض الفتيات من مومسات وصديقات، ممّن لم يعتنينَ جيداً بنظافتهنّ؛ فتنبعث من فروجهنّ رائحة كريهة بعض الشيء. كان يضاجعهنّ بقليل من المتعة ممتنعاً مطلقاً عن لعق مهابلهنّ، بالرغم من أن ذلك كان عنده، على خلاف أغلب الرجال، قمة اللذة الجنسية.
إذ ذاك تنبّه صديقه إلى أن وجهه ينقبض قرفاً. بالفعل، كان الفتى البورجوازي الصغير يشعر بالنفور إلى حد التفكير في الانصراف في أسرع ما يمكن، فكلما تذكر أنّ رائحة السمك الفاسد لم تكن سوى رائحة عضو جنسي، ازدادت حدّة شعوره بالغثيان.
جالساً على الأرض بين المرأتين، كاد الفتى البورجوازي الصغير أن ينسى وجود المتشردة، إذ لم يلتفت نحوها سوى مرة أو اثنتين في أكثر من عشر دقائق. هي ظلت ساكتة، فيما بدا أنها تستمع إلى حكاية الفتاة الشقراء، لكن بملل من هذا السيل من الكلام، مستهزئةً بكل هذه المغامرات المتصعلكة.
"ما رأيك بورودي؟"، سألت جارها بطريقة مفاجئة، مقاطِعةً الفتاة الشقراء الغارقة في أحاديثها.
حدّق في تلك الباقة الحمراء المكملة لفخذها المبتورة، كأنها طرف اصطناعي نبت من لحمها، فاضطرب ولم يجد ما يقوله.
"ألا تريد شمّها؟".
لاحظت انزعاجه، فعاودت الكلام بنبرة أمومية حنونة ومشجعة. نبرة كالتي يُخَاطَبُ بها طفل يخاف أكثر من اللزوم:
"هيا، خذ واحدة وشمّها، أنا أقدمها لك. لا تخف، فهي لن تعضك".
مدّ يده بتردد، مقارناً في سرّه بين هذه الورود وتلك التي يضعها الأحياء على قبور الموتى. إلا أنه تناول واحدة منها وقرّبها من أنفه. كانت رائحتها طيّبة فعلاً. فوراً، بعدما أبعدها من وجهه، تنبّه إلى أن رائحة السمك الفاسد لم تعد تزعجه. تلفّت إلى يساره ولم يجد الفتاة الشقراء، فشعر بالارتياح.
* * *
نفد صبر صديق الفتى البورجوازي الصغير، إذ فرغت آخر تنكة بيرة. لو كان يستطيع أن يلتقط أي جزء صغير من الحديث لكان انتظاره أكثر احتمالاً. لكن بقاءه هناك، جالساً على المقعد لا يعلم إلى أي حين ومن دون بيرة، مع ازدياد إلحاح حاجته إلى التبول... جعله بالطبع غير قادرٍ على تقبلّ هذه المهزلة! إلا أنّ الفتى البورجوازي الصغير كان قد نهض. اقترب من صديقه وشرح له بتردد أن المتشردة طلبت منه خدمة: أن يشتري لها فوطاً صحية، وسيتوجه لشرائها من أقرب صيدلية لا تزال مفتوحة في تلك الساعة من الليل، بينما سيذهب صديقه لشراء البيرة. اتفق الاثنان على اللقاء مجدداً في المكان نفسه.
أفرغ صديق الفتى البورجوازي الصغير مبولته واشترى البيرة سريعاً، لكنه لم يشأ أن يعود إلى المقعد لينتظر وحيداً، لا سيما أنه قد كان منزعجاً من وجود المتشردة. تذكّر صيدلية قريبة لا تغلق أبوابها في الليل، وقرر أن يقصدها ليرى إن كان الفتى البورجوازي الصغير هناك.
مترّنحاً ومتجرّعاً بيرته، وصل الصديق إلى الصيدلية. وجد الفتى البورجوازي الصغير خارجاً لتوّه مع علبة من الفوط الصحية، فعاد الاثنان إلى حيث تركا المتشردة.
جلس الصديق على المقعد، والفتى البورجوازي الصغير جلس على الأرض إلى جانب المتشردة وأعطاها الفوط الصحية. شكرته بابتسامة مغرية، من دون أن تتفوّه بكلمة. أرفقت ابتسامتها بنظرة توحي بنوع من التواطؤ السرّي في ما بينهما، ثم طلبت منه أن يساعدها على الجلوس على كرسيّها المتحرك، وأن يقودها إلى مكان أشارت إليه بإصبعها، حيث الحمّامات العامة.
كان يدفع الكرسي أمامه بسرعة بالكاد استطاع صديقه مجاراتها. يدفع ويدفع بسرعة متزايدة لعله يتخلص فوراً من هذا الإحساس المروع بأن هاويةً من دون قاع أو ثقباً أسود يبتلعه. كلما تقلصت المسافة بينه وبين الحمّامات العامة، تعاظم الشعور الذي تملّكه منذ ساعة بأنه في بلاد غريبة. ما الذي يفعله هنا؟ لماذا يجرّ هذه المتشردة في الشوارع؟ لم يخطر في باله أي جواب. فكّر– هو الذي تصور نفسه متضامناً مع المقهورين، متعاطفاً مع مستضعفي الأرض – انه لم يكن سوى فتى بورجوازي صغير مثير للسخرية، يحشر أنفه في أمور لا تعنيه.
كانت الحمّامات مغلقة، لكن شجرة قريبة ستفي بالحاجة. جرّ المتشردة إلى قرب الشجرة، تركها وحدها، ثم وصل صديقه لاهثاً، بالكاد يستطيع أن يلتقط أنفاسه. بحدّةٍ لامست الهلوسة، تخيّل الفتى البورجوازي الصغير مشهد المتشردة تبوّل، ثم تضع فوطة صحية. تذكر بقعة الدم الكبيرة التي تركتها تحتها على الرصيف عندما ساعدها على الجلوس على الكرسي المتحرك. أخيراً، عادت إليه رائحة السمك الكريهة التي من فرج عفن تنبعث بحدّةٍ جعلته يظنّ أنفه محشوراً في مهبل الفتاة الشقراء. في تلك اللحظة بالذات، وبينما كان مخموراً من القرف، تائهاً بين مهبلين، واحد ينزف والآخر ينتن، سأله صديقه إن كان يريد أن يأكل. انقبضت ملامح وجهه، لكن نظرات اللوم التي وجّهها إليه صديقه ذكّرته كيف جعله يجوب نصف أنحاء المدينة ركضاً، فرضخ: نعم، سنأكل.
ظنّ أنّ مجرد رؤية الطعام ستجعله يتقيّأ. لكنه بعدما أعاد المتشردة إلى حيث وجدها، أكل بشهية. كما أن اشمئزازه من فرج المرأة جعله يفكر في العدول تماماً عن المضاجعة؛ قراره هذا لم يصمد طويلاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى