نسرين النقوزي - قسمة ونصيب.. قصة قصيرة

نسرين النقوزي.jpeg

العيون كلّها تتلفَّت نحوها. مَشَت متباهيةً بثوبها الصوفيّ الأخضر القصير الملتصق بجسمها. إنّه لَشُعورٌ رائعٌ وغريب أن تمشي في الشارع والعيونُ محدِّقةٌ اليك. عيونُ الرجال تتفحّصُها بدقّةٍ وبإعجابٍ واضحيْن، والنساءُ تَستَرقُ النظر إليها غيرةً من عينيها السوداويْن المُكحّلتيْن بطريقةٍ تُبرزُ جمالها العربيّ: شعرٌ أسودُ طويل مُتموِّج يَنسدل بدلال على كَتفيها، فمٌ طويل رقيق لونُه الأحمرُ الطبيعيّ يُسيل لعابَ الجميع.

تُربكها هذه الأفكار وهي جالسة في مقعدها، عائدة بـالباص إلى بيتها، وذلك لزهوها بجمالها وبجاذبيتها، فتتصنّعُ العصبيّة وتُحرّكُ حقيبةَ يدِها الصغيرة، التي تتناسب مع نعومةِ تكاوين جسدها الحنطيّ اللون.

أكملَتْ شرب قهوتها وهي تتلذّذ برؤيتها شابتيْن تتهامسان وتنظران إليها. استطاعت سماع كلمة "قهوة" من حديثهما؛ لا بدّ من أنّهما تتساءلان عن سرّ جمال قوامِها، وتنسبان ذلك إلى اكتفائها بشرب القهوة عند الصباح.

وبينما تترك الباصَ بغنج، وأناملُها تمسك حقيبتها بخفّة، إذا بهواءٍ خفيف يُحرِّك فستانَها فيعلو قليلًا عن ركبتيْها لِتَظهرَ جوارِبُها الحريريّةُ السوداء المثيرة بفتحاتها الصغيرة.

***

تعثَّرتُ بعتبةِ باب مدخل البناية فوقعتْ حقيبتي على الأرض. اِنحنَيْتُ لألتقطَها. لم تستطعْ يدي أن تصل بسهولة إلى الأرض. اِنحَنَيْتُ أكثر. اِلتقطتُها ورفعتُ رأسي بسرعة. شعرتُ بدوخةٍ وبضيقٍ في النفَس. يجب أن أخبر طبيبي بهذا الأمر ، أنسى ذلك كلّما ذهبتُ إليه.

منذ صغري وأنا أكرهُ الأطبّاء، ليس زيارتَهم فقط، ولكنْ شخصيّتهم أيضًا؛ فهُم مثالٌ على العنجهيّة الفارغة. تخطر في بالي جارتُنا زهرة عندما أُغمِيَ عليها الأسبوع الفائت، وأولادُها وزوجها يصرخون وينادون كلّ مَن في البناية لنجدتِهم. هرعتُ لأرى سبب الصراخ، فوجدتُها مُمدَّدةً على الكنبة تهذي بكلماتٍ غير مفهومة، حنكُها ملتوٍ إلى اليمين بطريقة مخيفة كأنّها مصابة بفَالج. أسرعتُ إليها وأمسكتُ بيديْها ، وأخذتُ أواسيها:

ــــ يللا tante ، ما بِكِ شي، فيقي، يللا حبيبتي.

أعدتُ الجملةَ مرارًا علّه يصلها بعضُ الحنان الذي حاولتُ منحها إيّاه. فجأةً تنظر ابنتاها إلى جارتنا آمال، وتسألان بلهفة: "أين مهى؟ أين مهى؟" مهى، ابنة آمال، خرّيجة كلّيّة الطبّ حديثًا. وهي تجمَع، على ما يقول الجميع، الجمالَ والذكاءَ والشطارةَ والشخصيّةَ القويّة. تلعثمتْ آمال وهي تقول: "مهى نايمة...كان عندها شغل كلّ الليل يا حرام." كانت خائفةً من ردّة فعل مهى إذا أيقَظَتْها، ولكنّ الموقف لا يسمح بمثل هذا التقاعس، فابتلعتْ خوفَها وهَرعَتْ إلى بيتها.

في هذا الوقت أحضرَ جارَنا إبراهيم الصراخُ. وإبراهيم طبيبُ جلْد، مُتخرّج من روسيا، وفي منتصف الأربعين. هو قليل الكلام عادةً، يكتفي بإلقاء التحيّة عندما نصادفُه في المصعد أو في مدخل البناية، بعكس زوجته هدى.

استفسر عن سرّ هذا الهرج والمرج، فبدأ أبو وائل، زوجُ زهرة، يشرح ما جرى، مشيرًا إلى زهرة الممدّدة على الكنبة على أثر عراك سبَبُه تذمّرُها بأنها تَعبة من شغل البيت، وبأنّها "مش عم تشوف وجه ربها."اقتربَ الدكتور إبراهيم من زهرة في الوقت الذي ظهرتْ فيه مهى عند الباب. وبالرغم من حرَاجة الموقف وخطورته، إلّا أنّني ضبطتُ ضحكتي بصعوبة: فمهى التي نعرفها ونراها كلّ يوم، الفتاة الجميلة الأنيقة، تحوَّلتْ إلى مومياء بأنفِها الهجين بعد عمليّةِ التجميل من العام الفائت. يومها أصرّت آمال على التأكيد للجميع أنّ عمليّة "نزع اللحميّة" من أنف مهى كانت ناجحة، وأنّه لمِن الجيّد أنّها أجرتها لتفادي مشاكل تنَّفُس في المستقبل... لكنّ ذلك القول بدا بائسًا مع تغيّر شكلِ أنف مهى 180˚ بعد العمليّة: فقد كان أنفًا كبيرًا مدبَّبًا فأمسى صغيرًا ناعمًا.؛ ومن دون الماكياج الذي تُكثِرُ منه مهى عادةً، فقد ظهرتْ فتحاتُ أنفها كبيرةً نسبة إلى منخارها. وبدا شعرها منكوشًا إذا ما قارَنتهُ بتسريحاتِ "العرسِ" اليوميّة. أمّا بيجامتها الفضفاضة الزهريّة اللون، فتُظهرها كدُميةٍ خشبيّةٍ دون التقاسيم التي تبالغ في الأيام العاديّة في إبرازها دليلًا على أنوثتها.

قطعَتْ نبرةُ مهى الحادّة والحاسمة حبلَ أفكاري، وكنتُ ما أزال ممسكةً بيد زهرة. قالت : "إنّها تعاني une grande détresse psychologique!"

أطلقتْ عبارتها كسيفٍ حادّ، عبارةً باللغة الفرنسيّة طولُها يتعدّى قدرتي على فهم الفرنسيّة، على الرغم من كوني من الطلّاب المميّزين فيها أيّام المدرسة. أجابها الدكتور إبراهيم بِبرود:

ــــلأ، ما معها شي، نتفة تَعَب وإرهاق.

وإذا بمهى تسحَبُ يد زهرة من يدي بعصبيّة، وتتطلّعُ مباشرةً في عينَي الدكتور إبراهيم، وتصرخُ فيه: "شو ما معها شي؟ عم قِلَّك معها agitation aigue . شو مش دارس طب بحياتك؟!"

تجمّع أولاد زهرة وزوجها حول مهى، يستفسرون بخجلٍ عن علاج هذه الحالة ويشرحون لها بالتفصيل ما حصل. بينما انسحب الدكتور إبراهيم بهدوء الى الخارج، بعد أن كسبت الدكتورة مهى المعركة ورشقتهم بعبارة اِستعصى عليهم فهمها.

***

فتحتُ باب البيت فاستقبلتني أمّي بسؤالها: "ليه تأخرتِ؟"

ــــ هيك عجقة، جوعانة، شو عامله أكِل؟

ــــ بفتاك وبطاطا وسلطة، كِلي بس بفتاك وسلطة.

هَمَمْتُ مسرعةً الى المطبخ، سخّنتُ طعامي المؤلّف من لحم الـستيك والكثير من البطاطا المقليّة دون أن أتناول السلطة. التهمتُ طعامي بسرعة ثمّ توجّهتُ إلى البرّاد لأُسلّي نفسي بثلاثة ألواحٍ من شوكولا أبي الرخيص.

أنهيْتُ غسلَ الصحون بسرعة؛ فَبرنامجي التلفزيونيّ المفضَّل "قسمة ونصيب" سيبدأ بعد عشر دقائق فقط. حملتُ كوب القهوة المحُلّى بحليب مكثّف إلى غرفة الجلوس. مدَدتُ رجلَيّ على الكنبة الكبيرة مستغلّةً هذا الوقتَ القصير الوحيد الذي أكون فيه وحدي في البيت؛ فأبي يذهبُ في مثل هذا الوقت إلى المقهى لِيُدخِّن "أرجيلته على رواق" كما يقول، فيما تَهرع أمّي إلى بيت إحدى الجارات لتشرب قهوتها "على رواق" أيضًا.

مع أوّل رشفةٍ من القهوة دخل أخي. لا أدري ماذا أتى به في مثل هذا الوقت، إذ جرت العادة أن يتعشّى عند بيت عمِّهِ كلّ ليلة خميس.

ــــ شو "بقوّرة" عم تعُرِّي؟ وين بيّك؟

ــــ بالقهوة وين بدّو يكون؟!

ــــ وإمِّك؟

ــــ ما بَعرِف عند مين راحت.

في هذا الوقت فُتِحَ الباب ودخلتْ أمي، فصرختْ عند رؤيتها أخي متفاجئةً:

ــــ شو تقبرني ليه مش عم تتعشّى عند بيت عمّك؟ في شي؟ مِتزاعل مَعُن؟ مِتزاعل مع مرتك؟ بحُطِلَّك عشا حبيبي؟

فصرختُ عليها:

ــــ خلَص طوشتيني، شو جابِك هالقد بكّير؟

قاطعَنا أخي قائلًا لأمّي:

ــــ جايي اِحكي بَيّي بموضوع القرض اللي وَعَدني ياخدو باِسمو، بِدّي اِسألو شو صار معو؟

أجابت أمي:

ــــ هلق بيجي حبيبي، انطُر شوي، بحُطلَكْ عشا؟

ثمّ ااستدارت نحوي ورشَقتني بنظرةٍ حادّة، كما لو أنّي السبب في مأساةٍ ما حلّت في العائلة. وقالت:

ــــ قومي حُطّي عشا لَخَيِّك، عْمِليلو مقلى بطاطا جديد مع البفتاك.

لم أَنْهزّ من مكاني كَعادتي عندما تطلُب أمي منّي شيئًا. وبالرغم من أنّها تعرفُ ذلك جيّدًا فإنّها لا تكفُّ عن الطلب والمحاولة.

عادت أمي من المطبخ، وبدأت بتقشير حبّة بطاطا كبيرة بسرعةٍ فائقة، وصرختْ بي مجدّدًا:

ــــ وطِّي الصوت، خلينا نحكي مع خَيِّك كلمتين على بَعْضن.

اِنسحبتُ الى غرفتي لأكملَ البرنامج "على رواق" أنا أيضًا، مكتفيةً بتلفازي الصغير الذي يَئنُّ وهو شغّال، ولكنه أقلّ إزعاجًا من صوت أمّي.

تمدّدتُ على سريري مسترخيةً وأنا أشاهِدُ سارة وهاني يتبادلان كلمات الغزل والحبّ على مسمع من ألوف المشاهدين في كلّ أرجاء العالم؛ قال هاني لسارة من خلال فوهة صغيرة في السور الذي يفصل بيت الفتيات والحموات عن بيت الشباب:

ــــ يقبرني الجمال أنا والطياب.

قالت سارة بغنج كمن يُغيِّر الموضوع:

ــــ بدي قُصّ شعري بكرا قصير.

قال هاني متصنّعًا الغضب:

ــــ والله؟! ممنوع. عم تحلمي، هودي الشعرات مش إلك أصلًا، هودي إلي، فهمتِ؟ بمنامك بِتقُصيهُن، نقطة عالسطر سرسورتي.

أفقتُ وقلبي يدُقُّ بسرعة على سعال أبي الحادّ ومحاولَتهُ إخراجَ البلغم من صدره.

كم الساعة يا تُرى، وكم نمتُ من الوقت؟ ولماذا التلفاز مازال شغّالًا يبثّ شاشة سوداء؟

ساعة الحائط تشير إلى الحادية عشرة ليلًا. تذكَّرتُ أنّي أغمضْتُ عينيّ على أغنية "طلّي بالأبيض طلّي يا زهرة نيسان" لماجدة الرومي، والّتي يُختَم بها البرنامج.

تذكّرتُ فجأة أنّي حلمتُ أنّ هاني يَشدُّني بين ذراعيه، ويُقَبِّلني بشغف على رقبتي ويَدي وفمي... يُقبّلني على شعري قائلًا إنّه أجمل شعر.

اِنتبَهْتُ إلى أنّي كنت قد غفوتُ دون أن أبدّل ملابسي.

خلعتُ فستاني على عجل، وهَممتُ بارتداء بيجامتي، فإذا بِنَظري يَقَعُ على صورتي في المرآة. اِقترَبتُ أكثر ونظَرتُ الى جسمي، من فوق إلى تحت، وأنا ما زلتُ في جواربي السوداء التي تشدُ على بطني المترهّل والمنقسم الى ثلاثِ طبقات، وكأنّي أنجبتُ على الأقلّ خمسة أولاد!

رفعتُ نظري على عَجَل إلى وجهي الممتلئ المستدير الأسمر اللون، إلى شعري الأسود الخفيف المنكوش الذي يزيدُ من غموض ملامحي.

تلمّستُ فمي الصغير الضائع في امتلاء خدودي، كأنّه فتحةُ بالُون منتفخ سَيَفجرُ في أيِّ لحظة.

نزعتُ جواربي لأكشفَ عن فخذَيْن ممتَلِئتيْن مغطّاتين بوبرٍ يتحوّل إلى شعر كثيف على الساقيْن

والى غابة حالكة السواد عند عانتي التي تشْبِه وجهي من دون مبالغة، ينقصُها فقط العينان؛ فالشعر الأسود الكثيف، والشفاه الرقيقة تتشابه إلى حدٍّ كبير.

هززتُ رأسي بِعصبيّة لأزيلَ هذه الأفكار الغريبة.

بلعتُ بطني أقصى ما يمكن، كذلك بلعتُ خدَّيّ. لبستُ بيجامتي البيضاء وأسرعتُ إلى النوم. فقد أصبحَ الوقتُ متأخّرًا، ويجب أن أنام لأنهض باكرًا للذهاب إلى العمل.

اِستفَقتُ من جديد على سعال أبي،

شربتُ قهوتي على عجل. نزلتُ لشراء منقوشة من عند أبي بلال. أحسستُ بالجوع عندما دخلتُ الفرنَ وشَمَمتُ رائحةَ المناقيش. طلبتُ اثنَتَيْن.

أذكر جيّدًا، عندما كنّا صغارًا، كانت أمّي تنزل كلّ يوم سبت إلى الفرن مع "زعتراتها" لِتخبزَ لنا المناقيش، وتعود بها مع منقوشة واحدة بجبنة "خالصة" من عند أبي بلال، و كانت لأخي بالطبع.

التهمتُ منقوشتي الأولى في دقيقَتيْنِ وكأنّي بَلَعتُها بلعًا. أخذتُ قضمةً صغيرةً من الثانية، وأنا أركب الباص وبدأتُ علكَها على مهل.

***

نزلَت من الباص.

العيونُ كلّها تتلفَّتُ نحوها. مشتْ متباهيةً ببنطالها الأسود الجلديّ الضيِّق الملتصق بجسمها، مظهرًا مفاتنَها الأنثويّة. حذاؤها الجلديّ، الكثير الفتحات والعالي الكعب، يُظهِر لون طلاء أظافرِها الأحمر المثير.

تمشي على عجل، لِتَهربَ من نظرات الإعجاب الكثيرة التي تُلاحقُها. تَتحسّسُ فمَها الرطب بِطرَفِ يدها.

وصلَتْ إلى صالون الحلاقة حيث تَعمَل. استقبلها صاحبُ المحلّ بتَكشيرةٍ قائلًا:

ــــ شِيليلي هالزعتر العالق بين سنانك وبلشي بسرعة تكنيس، عنّا عروستان لليوم، ماكياج وشعر...

كندا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى