رانيا محيو الخليلي - شارع الزهور

رانيا الخليلي.jpeg

”شارع الزهور” أو ”شارع الغرام” كما تسمّيه ”زهية”، هو شارع متفرع من حيّ قديم في بيروت يتوسط بيوتا لا تزال محافظة على تراثها وعراقة تاريخها، حيث الأسوار التي تسيّج المداخل تتدلى منها أغصان الياسمين والغاردينيا الفواحة، وفي بعض الأحيان الزنبق البلدي، مما جعل أهالي الحي يطلقون عليه تسمية “شارع الزهور”. أما “زهية” فانفردت بتسميتها لهذا الشارع وأطلقت عليه إسم “شارع الغرام”. أسمته كذلك لأنها كانت تشهد من شرفة منزلها المقابل له الأحبة يلتقون ويتقابلون على أرصفته وهم يتغازلون أحيانا ويقطفون من حبيبات الزهر التي في متناول أيديهم ليتهادوا بها. كانت زهية تراقبهم ليس بهدف النميمة أو تبيان هويتهم، وإنما في محاولة منها للإحساس بنبض القلب الخافق الذي أسره الحب. فتحول حلم حياتها لاكتشاف حقيقة هذا الشعور واختباره بدورها. أرادت أن ترى عن كثب كيف يحقق الحب السعادة للمحبين، كيف يمكن للإنسان أن يشعر بخفة خطواته، بنشوء ابتسامته، بترنح أفكاره نحو الحلم والخيال وهو في خضم الواقع. أرادت بكل بساطة اكتشاف ما تحققه لحظات الغرام. كانت تتمنى أن تجد هذا المغروم المندفع بعواطفه الذي يمسك بيديها بدفء عاشق ويسير بها في هذا الشارع المحموم بالعواطف، فيتناول حبة غاردينيا ويزرعها في شعرها كما يفعل معظم العشاق. بضع خطوات فقط تفصلها عن هذا الشارع المكتظ بالحب. لكنها لم تمر به مرة واحدة منذ صغرها، لم تأت المناسبة لذلك ولم يتحقق ظرف يقودها لهناك. ومع قربها لتخطي عقدها الرابع كبرت حسرتها على نفسها. المسافة ليست بعيدة كي تصل إلى هناك، لكنها كانت بحاجة ليد توصلها إليه بكل محبة وعطف وحنان . رفضت بشدة أن تطأ قدماها أرض “شارع الغرام” لوحدها، هذا الشارع للأزواج ولا يحق للأفراد أن يمروا به. جلست على شرفتها لسنوات طويلة بانتظار أن يأتي فارسها من بعيد ويلوح لها بأنه قادم إليها لتحقيق حلمها ولو بعد انقضاء وقتٍ طويل. لن تتخلى عن هذا الحلم! لن تتخلى عن أمل قدوم هذا الفارس المجهول! هي مازالت في الانتظار..إنتظاره.

أخواتها تزوجن، وكذلك أخوانها وصديقاتها وبنات الجيران، وبنات الخالات والعمات…ولم تبق إلا “زهية” أسيرة شارع الغرام. “زهية” ليست إنسانة بسيطة أو ناقصة عقل كما اعتقد الكثيرون من أقربائها، صحيح أنها لم تكمل تعليمها واحتضنت بيت العائلة وأهله، إلا أنها كانت ترى الحياة من حيث ينبع الجمال. جمال الطبيعة بعشبها ووردها وزهرها، جمال الأشجار الوارفة وزقزقة الطيور على أغصانها. كانت تبحث عن الزهو المشرق مع كل طلعة شمس وترقب النجوم في أوج عتمة الليل. ولذلك انتظرت، وبقيت تتأمل من شرفتها أن يتحقق حلمها وتحظى بشريك يربت على سنوات انتظارها.

لحسن الحظ لم يدم الانتظار أكثر من ذلك، فأخيرًا أتاها خاطب لابأس به، ناضج، على خلق، ليس وسيمًا وليس دميمًا… لم تعلق كثيرًا على صفاته هذه هي تبحث عن عمق مشاعره الرومانسية الشفافة.

سألها يومًا ماذا تريد، فأخبرته أنها تود أنّ يرافقها إلى شارع الزهور، حدثته عن مدى تعلقها بهذا الشارع وما يعنيه لها، فطمأنها بأنّ كلّ طلباتها مجابة وبأنها لن تكون إلاّ مسرورة في النهاية، كلّ هذا وهو يمسح دموعه من شدة الضحك.

تفاءلت “زهية” خيرًا وراحت تنتظر أن يتفرغ نزيه لأخذها بموعد غرامي إلى “شارع الزهور”. هو يزورهم بشكل يومي ولم يحقق لها أمنيتها بعد. أخذها في رحلات كثيرة إلى الجبال والأنهار والأودية المحيطة بالبلاد، كما أنه وعدها برحلات كثيرة خارج البلاد..لكنها لم تكترث..تريده أن يأخذها إلى “شارع الزهور” تريد أن تطأ هذا الشارع ولو لمرة واحدة في حياتها برفقة شريكها في الحب.. لكنه لم يفعل. عندها وقفت زهية بكل حزم وقالت له:

“اسمع يا نزيه إما أن تأخذني إلى شارع الزهور هذا وإما فلا زواج ولاارتباط!”.

ضحك نزيه ودمعه يتساقط على وجنتيه:”شارع الزهور! شارع الزهور! ما بك يا زهية هذا الشارع مسافة خطوتين منك؟ ..أنا أعدك بالسند والهند وأنت تطلبين هذا الشارع العتيق؟!.. لكن طالما أنت مصرة فلنذهب..”

لم تصدق “زهية” ما قاله عريسها فأمسكت بيده وهرولت به إلى حلمها.. أما هو فقد بقي متفاجئاً، لم يجد في هذا الشارع ما يثير اهتمامه.. راح يتلفت يمنة ويسرة بغية معرفة السر الذي جذب “زهية” إليه.. أما “زهية” فكانت مبهورة، وقلبها يستعد للخفقان، روحها تتلهف للذوبان..لم تكن مصدقة أنها وصلت أخيرًا لمبتغاها..أمسكت يد “نزيه” بكل رقة وحنّية، لكنه بحركة لاإرادية أفلت يدها منزعجا..هو نفسه لم يدر من ماذا، ثم التفت نحوها قائلاً:” ها يا ست “زهية” هاأنا قد لبيت طلبك وأتيت بك إلى هذا المكان الممل. هيابنا لنعود!.”

ردت عليه “زهية” بأسى:”هيا بنا لنعود؟ مكان ممل؟ إلى أين؟ إلى المنزل؟ لكننا لم نتنشق عطر الزهورولم نشعر بدفء الحب، أنت لم تقطف زهرة من الشجرة وتزرعها في شعري.. أنت لم تنظر إليّ بتأمل!! أنت لم تجعلني أعيش الحلم وأحوله حقيقة! ..أنتَ.. أنتَ لم تفعل لي شيئًا لأشعر أنني محبوبة وجميلة ورائعة.”.

نظر إليها نزيه مستغربًا:”عيب عليك يا زهية، نحن لم نعد بسن المراهقة لفعل هكذا أمور.. هيا بنا هيا الوقت تأخر وأنا متعب..”

جنّ جنون “زهية” فخلعت محبسها ورمته في وجهه وهي تصرخ بأعلى صوتها:” لكني لازلت مراهقة.. أريد أن أسمع كلمات حب..أريد أن أعيش لحظات حب..أريدك مغرومًا..أكثر مما أريدك عريسًا..أتفهم أريدك مغرومًا..حتى الآن لم تقل لي أحبك..حتى الآن لم تلمس يدي بحنان”. فرد عليها بصوت خافت:”عيب! عيب!.”

فراحت تصرخ بأعلى صوتها :” أريد أن أقطف الزهور وأتنشقها وأشتم رائحة الغرام مع كل زهرة..أريدك أن تحبني كما يفعل الأحبة هنا..أريدك أن تلتقط قلبي وتمنعه من السقوط حين يرتجف من شدة حبك..أريدك أن تمسك يدي وأن تشعر باختلاجاتي… أريدك أن..أن..تحبني…نعم أريدك أن تحبني..وإلاّ..وإلاّ.. أنا لاأريدك..لا أريدك..”

وهكذا انتهت خطوبة نزيه وزهية فجأة وعندما تساءل الناس عن سبب فكّ الارتباط قالت “زهية”:”لا أريده إلا مغروما محبا للزهور!.” أما “نزيه” فببساطة واستغراب كان يجيب:”لا أريدها…مجنونة!”.

رانيا محيو الخليلي

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى