سعيد الفلاق - اعترافات رجل حزين.. قصة قصيرة

إنني أنزف الليلة ولا شيء يوقف ما بي، هو الليل
يمضي في نكرانه لي، هي الذكريات البعيدة تتربص بي من جديد وتوخزني، هو بعدك ونأيك
عني يجعلني في حيرة من أمري. لقد كنتِ غيمة أمطرت قلبي فجرفت كل ما به، كأسا
علقمية أسكرتني وتركتني في سكري إلى ما لانهائية، شعلة حارقة حولتني إلى رماد
تذروه الرياح ليعميني. كيف سمحت لك بأن تدمريني هكذا؟ كيف انسقت وراء عيونك
العسلية إلى أن غرقت في وحل نفسي بعد أن غبت؟ ليلي مضطرب موحش قد أرخى سدوله عليّ
ليجعلني أكثر وحشة وتشتتا، نهاري بائس يجرني صباحه من هنا ومساؤه من هناك وذكراك
من هنالك، تمضي الأيام ويمضي معها وجعك الراقد في جوفي. أقلب أوراقي وأنظر إلى
رسالتك الأخيرة، أقرأها، ثم أعيد الكرة كلما أحسست بالاختناق. إني في الحقيقة
أقرأها فأختنق ثم أدعها فأختنق، أي لحظة جنون جعلتك تكتبين ما كتبت؟ أكنت تنتقمين
مني وأنت تغادرين؟

حبيبي..

إني أقول لك حبيبي وأعلم أني لن أقولها ثانية، لن
تراني بعد الآن وإن كنت مؤمنة بأني سأظل ماثلة في داخلك ما حييت. سأعذبك دهرا،
ولكن ليس بيدي حيلة، فالحب أعمى وأنا لم يعد بإمكاني أن أسير عمياء أبد الدهر، لقد
قررت أن أستريح قليلا… وداعا



ببرودة حب كتبت هذه الحروف لتغرقيني من جديد،
اضطراب قلمك فوق الورقة يشعرني بأنك كنت تبكين، أحس بدموعك اللحظة إذ أبكي بدوري
وأكتب فوق أديم قلبي:

صرتُ
شيئا لا يصلح لشيء

ومع ذلك أبكي وأبتسم في وجه الريح

ريح حبنا !

إني لا أصدق أنك كنت وهما، وأني عشت هذا الوهم
طيلة مكوثي في هذا الكهف، كنت غادة جميلة تأتين إليّ كل صباح، تحملين ابتسامة في
كفك، حليب وتمر وذاكرة تحن لشيء غريب كان يسكنك ويجعلك تقتربين مني. قلت لك في أول
لقاء: إني لست أنا. إنك تنظرين لجسد ليس جسدي، وصوتي هذا الذي تسمعينه ليس صوتي إطلاقا.
قلت لي بوجه قد انتهبته الدهشة: أأنت شبح؟ قلت لك: أنا إنسان معذّب على البسيطة قد
ساقني قدري إلى هذا الكهف هربا. وها أنا منفيّ هنا ولا أدري كيف وصلت إلى هذا
المكان، ونجوت من الرِّماح التي كانت تتبعني،
ولا أدري أيضا لم اطلعتك على سرِّي. شيء فيك جعلني أكشف لك ذاتي، ولا يهمني
بعدُ إن أفشيتِ سرّي. لحيتي الكثيفة التي تبدو لك ما هي إلا جزء من لحية أخرى تنبت
داخلي، شَعري الأشعث الموحش الفوضوي الذي يغطي رأسي غَابة استيقظت فوجدتها تحميني،
أسمالي التي لا شك أنك تَشُمين رائحتها هي الوحيدة التي تقبل بجسد تائه مبعثر. لم
أعثر إلا على دهشتي وأنا أراقب ابتسامتك تلك، كادت عيناي من شدة فرحي أن تفقدا
نورهما، إني لم أرَ النور منذ وقت طويل جدا، على الأرجح منذ كنت شابا أفيق على
ابتسامة أمي. هذا الكهف الذي تقلبين نظرك فيه هو كل ما أملك، لقد سُلب منّي كل
شيء، كل شيء يا غادتي الجميلة حتى ابتسامة أمي حُرمت منها. إني أعرف أن قلبك يرتجف
إذ تسمعين إليَّ، وأعرف أن قلبي يحترق إذ أقول لك. الظلام يا غادتي قد أذاني
كثيرا. لا أستطيع اللحظة أن أتبين جسدي ولا أن أعرف من أنا، كل شيء أمامي/ فيَّ
غامض، واللغة. نعم اللغة، لولاك ما كنت أستطيع أن أتحدث، كنت سأموت لا محالة. أ
تعرفين أي عذابٍ أشدُّ على المرء في الحياة؟ حاولي أن تُحزري. آه ما لك صامتة هكذا
كالسّحاب؟ كنت أعرف أنك لن تعرفي. هو يا غادتي الفاتنة أن تمنع عن الإنسان الكلام،
أن تجعله يتعذّب باللغة. وهذا لا يعني أن تقطع لسانه. لا.. لا أبدًا، بل أن تجعل
لسانه في مكانه وتحكم عليه بالموت إن نطق، أن تقول له: اصمت إلى الأبد. ستتحول
الحروف في جوفه إلى خناجر تَشُقُّ أعضاءَه صباح مساء، ومن ثَّمَّ سيموت ببطء
مِيتَةً شَنيعَةً. كان هذا قدري لولا طلتك هذه في لباسك الأبيض الملائكي وفي يديك
ما في قلبك من حُبٍ. إنَّ الحُب يا غادتي هو ما ينقصنا لنصير إنسانًا بالفعل، هو
من يُغذّي أرواحنا ويجعلنا نُقبل على الحياة بشهيّة، هو من يجعل الحقل يلد لنا
زهوراً مدهشةً، والسماء تعطينا شمسا ناضجة وقمرا بديعا ساحرا. قُلي لي أرجوك: أ كان
سيكون كل هذا بدون حُبٍ، وبدون تلك اللذَّة المُسكرة؟ أعترف أن نظراتك إليّ
تخترقني، تُغذّيني، تمنحني طاقة للبقاء وأخرى للنسيان وثالثة للبوح. أَتَرَيْن؟
إني لا أمنح لك مجالا للحديث، لأنه بي شوق إلى أن تسمعي إليّ أكثر، نظراتك هي كل
ما أحتاجه، وقفتك، رائحة عينيك، حركات يديك، ولون وجنتيك تُنسيني كلّ عذابي في هذا
الكهف الحالك. أنا لا أريد أن أصمت فينتهي لقاؤنا، ولا أن أحوّل نظري عنك
فتَختفين، عيناي صارتا ضعيفتين مهلهلتين ومع ذلك أبصرك بهما وبقلبي أيضا. في
الأيام الأخيرة كنت ترمقينني بشَرهٍ وتصمتين قليلا. كلامي كان يبدو لك غريبا،
وكنتِ أنتِ تحاولين أن تخرجيني مما أنا فيه، أَكدتِ لي أنَّ الوضع في الخارج لا
يستدعي أي حَذَر، وأن لا أحد يطلب عُنُقي. باحتجاج قلتُ لكِ: هذا غير ممكن، لا
يمكن أن يَكبر شَعري ولِحْيتي سُدىً، والظَّلام. نعم الظَّلام من أينَ جاء؟ والقدر
هل يَنْسَى إهانةً أُلْحِقَت به من فَقير؟ إنك لا شك يا غادتي الجميلة لا تستطيعين
أن تقيِّمي الوضع في الخارج، لا تقدرين أن تَرَيْنَ عزازيل الرابض في كل مكان
كَالوجَع. سَليني أنا…

اعْذِريني لا أستطيع التَّخلي عن كهفي، ولا عن
ماضِي الذي عشتُه هنا، والفكرة التي سكنتني أيمكنُ أن أتركها وتتركني؟ نظرتِ إليَّ
نظرات متتابعة عَجْلَى، ثم أَلْحَقتها بنظرة تأمل وتَخيلتك تقولين لي: يا صَاحب
الكَهْف، إنَّ الأفكار الذي تعتمر في ذهنك تجعلني حَيرَى، إنِّي لا أَقدرُ أن أفهم
ما ترمي إليه، أنت تعرف أن شكلك لا يخيفني، كلماتك تُسْعدني، ونَبرة صوتك تهيّج ما
في داخلي، إنِّي أستطيع أن أرى كل جوانب نفسك رَغم هذا الظَّلام الذي يلفّنا، ولكن
ليس هناك من يَطْلُب عُنقك، قد ولَّى زَمن الحَجَّاج فاطمئن.

إنَّكِ تَكذبين يا غادتي الجميلة، الحَجَّاج لم
يَمُتْ قط، الحَجَّاج في كل مَكان، والدّليل: لحيتي المتجعدةُ الطويلةُ، شَعري
البائس المخيف، روحي العاريةُ إلا منك، جسدي الواهنُ المثخنُ بجروحه. هذا القبر
الذي يحملني. هذا الظلام الذي يحيط بالكون، والدم. آه إنِّي أغرق يا غادتي
الجميلة، أغْرقُ في دَم العالم، روحي تَغرقُ، قلبي يَغرقُ، إنِّي أموت.. يا إلَهي.
كيف تَصْمُتُ والدَّم يُهرق؟ قل لي يا ربّي. أرجوكَ قل لي. إنِّي أسْألك النَّجاة
من هذا العَالم. أسْألك أن تقبضَ روحي وتُقرِّبني منكَ.

غادتي الجميلة لم تعد إليّ منذ يومين، يومَان
وروحي جائعةٌ، أجوع ُوأبكي، بكائي صار مرضاً وكوخي كالح أكثر من أي وقت. لحيتي ما
تزال طويلة، وشعري كذلك، الدَّم الذي في جسدي يعذّبني. قلتُ
لغادتي الفاتنة بأن الحَجَّاج لم يمُت، لم تُصدقني، رسالتها الأخيرة التي وجدتها
في باب كوخي هي كل ما بقي عندي، أشم فيها رائحتها التي تنسيني رائحتي، إني لن
أنساك، وستظلين ماثلة في قلبي كما قلتِ. آه إنّي أتعذّب اللّيلة ولا شيء يوقف ما
بي، هو الليل يمضي في نكرانه لي، وأنا في مكاني أنتظر قدري، زارني اليوم نورٌ
خافتٌ جعلني أُقدرُ هولَ كارثتي. إن لحيتي طويلة أكثر مما كنت أعتقد، أظافري
السميكة تداخلت في ما بينها، والأخطر أنّي لم أعد أعرف المشي، قدماي متورمتان. وأنفاسي تتدفق مُترهلة، آه إني أموت، يا غادتي
الجميلة إنِّي أموت ولا شيء يُحَسِّسُني بالحَياة. كم مرة قلتُ لك: إنَّ الحَجَّاج
لم يمت. لكنك لم تصدقيني. بدوت لك شيخا بئيسا يخيّل له أن الكون من حوله انسدّ في
جوفه، وأن خطوة واحدة إلى الأمام ستكلفه فقدان جثته التي صاحبته سنينا. معك حق
أيتها القديسة. ها هي قامتي تنهد، وقلبي يئن. ها أنا أتنبّه إلى روحي تصل إلى
حلقي قوية. وأتنبه ـ متأخرا ـ إلى ذلك
الماضي الذي التصق بفروة قلبي مدةً، ثم اندسّ إلى عمقه، وطفق يمصه كعلقة، كدودة،
كقدر لا يرحم.

آه إني أموت.. آه إني أموت..


سعيد الفلاق


  • Like
التفاعلات: نبيلة غنيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى