طلحة محمد - الجسر التاسع

حينما فكّر برسم حدود لسوره العظيم يؤمّن به معالم إقليميّة جديرة بالثّقة تَقِيه ترصّد سلط وهميّة تقع عليه كلّما تذكّر عجوزا في الغابرين كانت قد أملتْ عليه الكثير من الوصايا تحذّره من الطّامعين والحاسدين حوله من مرضى النّفوس ، كان ذلك يشبه اتّفاقيات ايفيان التي نسي تاريخها في امتحان البكالوريا فتسبّبت بحصوله على معدّل لن يوقفه على أفق مسرح كان بمثابة حلمه المتجذّر فيه منذ صغره .
عقد اجتماعا بنكهة مفاوضات مع عائلته في اختيار مستقبله خَلُصَ في أقل من يوم الى ملف عسكري كُلّلَ بالقبول الفوري ، لم يلبث الاّ أياما قليلة والتحق بمصيره المحتوم .
لم يستشعر هذا الكابوس الذي قارب أن يمضي في سبيل منامه لولا مراودة سوءٍ من طرف صديقته التي لم يحسن تصوّرها إلا حفظه للأصوات الموسيقيّة من خلال صوتها على بعد مئة كيلومتر أو أكثر من وراء سمّاعة الهاتف تغريه بموعد غرامي مفاجئ ء منذ ما يقارب سنتين .
وككلّ فتاة نذرت نذرا او اعطت عهدا للقاء شبيه بالغواية تتمثّل فيه جميع صفات الشّوق والوفاء المعهود لكثير من الفتيات الصّادقات ، كانت علياء قد نشّطت موعدا سابقا معه ترى فيه ضابطا مهابا أشبه بالأمس القريب يمثّل أحفاد رائحة نوفمبر المجيد وغيرهم من أبطال الواجب الوطني والذي كان بصدد القيام به في أعالي جبال اريس يعاني من برودة الطّقس ويشكو حذاءه العسكري الضّيق الذي آلمه نهارا وحنّ إليه ليلا يقيه من شوك الجبال وأحراش الوديان حين المهام العسكريّة ضدّ الإرهاب لم يستطع تغييره بسبب الخجل في الأيّام الأولى من دخوله الثّكنة إلاّ أنّ الحذاء أشفق عليه للحظة وأصبح يناسب مقاسه ، انتهى الصّراع بينهما وأصبح عدلا عليهما المرافقة لسبع سنوات كاملة من الكفاح في ظلّ الوحدة وآلام الضّمير والإجحاف في حقّ نفسه في اختيار المصير والمستقبل.
لم تكن تؤنسه غير مكالمات أمّه المتتاليّة تتوّج في آخرها دوما بدعوات منها وابتسامات كاذبة منه قصد إيهامها أنّه على ما يرام ولا يسعه إلاّ البقاء على هذه الحال إلى اشعار آخر لبداية مغامرته الدّفينة منذ سنين الصّغر فلا الرّحلة ابتدأت ولا الدّرب انتهى.
لم تطل هذه التّمثيليات بين الأم والولد عبر المكالمات الهاتفيّة في كل آذان مغرب من شهر رمضان وهو يحصي الأطباق التي يأكلها ويتلذّذها غير أنّه في نهاية كل مكالمة ولمدّة ثلاثين يوما من كلّ سنة كان يتحسّر في خندقه في أعالي الجبال يمضغ خبزا يابسا يبلّله بالقليل من الحليب الشبيه بالمنتهي صلاحيته .
هو لم يكن مثاليّا في القيام بواجبه كعسكري بسبب أحلامه المتألّقة وأعذاره الواهيّة التي يردّدها لزملائه كلّ حين بأنّه لا يصلح لهذا العمل بل سوف يكمل دراساته العليا في أحسن الجامعات ، كان ينام كلّ ليلة على وقع أقدام فتاة تنتعل حذاءا عاليّا في جامعة مثاليّة في رواية رومنسيّة يقرؤها ويتوسّدها قصد التبرّك بها ، يحدّق في الكلاشينكوف ،يلعنها تارة ويفشي لها أسراره تارة اخرى ، يحدّثها بمنتهى العفويّة دون جدوى ، يسألها أسئلة جديّة و يتمنى في نفسه أن يجيبه القدر عليها يوما ما .
لا بدّ أنه قد علم أنّ ألم الخيبة قاسٍ وأن الخذلان يقود للجنون ، هو متيقّن أيضا أن الاغتصاب بشتى انواعه صار مُتاحاً وعوامل الانبطاح أصبحت سارية المفعول ، هو في أفقه فيلسوف أو سوسيولوجي والظّروف حالت بينه وبين ذلك .
مرّت السّنين والأيّام حتى شارف عقده العسكري على الانتهاء يرسوا بأحلامه على ميناء الحريّة لا يلبث طويلا يسارع الزّمن ليطير بمخياله اللّامتناهي .
استيقظ صباحا يقصد مدينة الصّخر العتيق قصد ضبط الاجراءات النّهائية لفسخ العقد ، هو لم ينم طيلة تلك اللّيلة يرى فيها سيرتا بمعدنها الأمازيغي النّفيس ، كانت تلك الجسور تغريه حدّ الجنون ليعبر بها إلى فتاة أحلامه كجسر تاسع يمرّ به إلى الحياة المثاليّة فقد كانت كلّ ليلة من تلك السنين تتسلّل إلى قلبه شذرات حنين موجعة ، يجلس وحيدا تعزف تقاسيم حزنه سمفونيّة تذيب أوتار الشّوق ، يحصي الكثير من التّفاصيل في ثناياها و تفاصيل أخرى يعيشها مع طيفها المزروع بين أضلعه ، يتصوّر وجهها ويحلم بها ، يضفي مقارنات غير لائقة مع صوتها في الهاتف.
بكلّ تبذير يفني زجاجة عطره المفضّل من نوع لاكوست و يركب سيّارة السّانتافيا لأوّل مرّة يتقدّم ركّابها من جنود يطري عليهم بكلمات جميلة كعاداته يهيّئ لهم جوّا بهيجا ويعدهم بالكثير من الهدايا التّقليديّة من بلدته الكريمة في حال عودته اليهم ، ودّعهم بكلمات نبيلة و انتقل إلى سيّارة الاجرة ، ركب في المقعد الامامي يرى في نفسه رحّالة كبيرا او سجينا فارّا مفعم بالحياة ومليء بالأمل ليبدأ حياة جديدة تخلو من كل الاغلال الاجتماعيّة .
مرّ الوقت ببطء على امل اللّقاء المرتقب الى حين ورود مكالمة هاتفيّة من صديقته التي كانت تنتظره في السّاحة المقابلة للمحطّة البريّة ، لم يبحث طويلا عنها عرفها منذ الوهلة الاولى هو يبصر بقلبه لا بعينه ، اتّجه نحوها يجر حقائبه الثّقيلة وقف على عتبة أبواب حبّها الموصدة يتسارع نبضه تفيض ذاكرته بالكثير من الكلمات التي حضّرها منذ ليال تكاد دقّات قلبه تتكلّم ويخشى ان تنطق هاته الدقّات بالجنون اندهش حين بدت له بجمال شعرها الطّويل ذو اللّون الدّاكن ينسدل على ظهرها ، انفغر فمها بابتسامة عريضة تزيدها جمالا ، بدأها بكلمات جميلة وعذبة بداخله أحلام عاريّة تراكمت عليها اوجاعُهُ منذ سنين حتى أصبحت شاحبةْ كسنين قحط وأيّام عجاف يجاملها ويقصّ عليها مرافقتها وأنسها له في أيّامه العصيبة يشبّهها بالكلاشينكوف التي تحميه ويضحك تضحك هي الاخرى ، تتكلم بجديّة تامّة تردّ عليه بكلمات مرتّبة ، تساعده في حمل حقائبه وتدعوه لأخذ وجبة الوداع في مطعم شعبي كان في امسّ الحاجة اليه بسبب كرهه للبروتوكولات المعتادة .
طلبا صحنين من البطاطا كان الطّباخ قد أحرق حوافّها وكأسين من العصير يترسّب في أعلاهما حبيبات أشبه بالجبس ، ظلّ يأكل بشهيّة مفتوحة تراقبه بنظرات استغراب ، لم تعجبها البطاطا المحروقة ولا العصير أيضا ، أخرجت رغيفا طازجا من حقيبتها تعتليه بصمات أصابعها النّاعمة و قدّمته له قصد الاستعانة به في طريقه الطّويلة لكنّه التهمها دون اكتراث لنظراتها وضحكها المتواصل ، أخرجت أيضا روايتها المفضّلة ممضيّة من طرفها في صفحته الاخيرة كعربون صداقة وهديّة فراق.
اتّجها بعدها إلى الحافلة ، ركب وترك نصفه هناك يردّد في نفسه ويؤنّب ضميره كم لي من ذنب ساقه لي قدرٌ مشؤوم هذا أشبه بلقاء بين البداية والنّهاية ، ظلّت تلوّح له بيدها ، كما بقي ايضا ملتفتا لها من النّافذة يرى فيها امّه الطاعنة في السّن التي لا تفارق ذهنه ولو للحظة لا بد انّها امرأة عظيمة حتى تذكّرها في هذا الموقف العصيب يشير لها ايضا بعينه سيكون اللّقاء يوما ما ومضى في طريقه.
استغرق في نومه على متن الحافلة لساعات إلى حين وصوله الى أمّه التي انتظرته حتى وقت متأخّر من اللّيل ، بادلها القبلات والأحضان ليعوّض ما فاته من حنان واضعا رأسه على صدر يحتويه ويأويه فيدفن فيه كمّا هائلا من الأذى الذي ذاقه طيلة سنين .
اتّخذ فراشه في تلك اللّيلة رفيقا وغطّ في نوم عميق ليتلاشى من عمقه ذلك الكابوس المخيف الذي فطر قلبه وهدر روحه حتى مساء الغد التالي واستيقظ يعدّ افكاره المبعثرة في البحث عن حياته الجديدة .
لم يُصْغِ لعراقيله التي لاحقته لأزمان وبادر في تحقيق حلمه الذي آلمه كثيرا اثناء سنوات عمله ، يقصّ عليه نومه وينهكه دون مقابل .
بعد بحث طويل وتحدٍّ مرير استطاع أن يحصل على قبول لملفّه في إحدى الجامعات وراح يُبذّر طاقته الرّاكدة .
رافقه حلمه لخمس سنوات حتى نال شهادته الجامعية ليتّخذها رفيقة دربه في قسم من أقسام المتوسّط يتلو دعاباته وسط صفوف التّلاميذ ليمحو من ذاكرته الكثير ممّا مضى .
  • Like
التفاعلات: شنوف نادية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى