كاهنة عباس - لم تذكّر المرأة في الأغاني العاطفيّة ؟

حين يتغنى المحب بمحبوبه غالبا ما يلتجئ لصيغة المذكر لمخاطبته، فترد الصفات الأنثوية في خطابه بالتلميح لا بالتصريح ليستنتج منها المتلقي أن المقصود بها هي امرأة.
إن كان الأمر كذلك،فلا بد من طرح السؤال التالي: لم تخاطب المرأة بصيغة المذكّر من طرف الرجل في النص العاطفي الغنائي أو الشعري أحيانا، إذا ما اتخذت موقع " المحبوب" في العلاقة العاطفية ، أي إذا ما حظيت بمكانة مميزة في نظره على المستوى الوجداني؟
هل تتخطى بذلك موضع " الجسد المشتهى" ، لتصبح الذات المتكاملة الجديرة بأن تكون الوجه الآخر لذات الرجل ، فيخاطبها وجوبا بصيغة المذكّر ؟
هل تتجاوز المرأة موقع الإنسان " الناقص" الخاضع ، لتسترجع ذاتيتها إذا ما أحبها الرجل فتكتسب بذلك بعضا من صفاته، ومن ثمة تتحول أنوثتها صفة ثانويّة ، باعتبار الرجل النموذج الأمثل للإنسان وتفوقه على المرأة من وجهة نظر ثقافية على أساس اختلافهما البيولوجي الطبيعي.
لقد اخترنا قصيدة " الجندول" للشاعر المصري علي محمود طه التي غناها المطرب محمد عبد الوهاب لعدة أسباب ، هي الآتية :
أولها : يعتبر الشاعر علي محمود طه من أعلام مدرسة " أبولو" التي أدخلت أسس الاتجاه الرومانسي في العالم العربي في بداية القرن العشرين.
ثانيا : نجاح الأغنية وانتشارها واستمراريتها لمدة تفوق ثمانين سنة ، فقد غناها المطرب محمد عبد الوهاب سنة 1941 ، مما يؤكد قيمتها الجمالية والفنية واستجابتها للذوق العام، لا من حيث التلحين فحسب بل وكذلك من حيث الكلمات ومعانيها.
ثالثا : أن الإشكالية التي طرحناها في بداية هذا المقال من تذكير المرأة المحبوبة من طرف الرجل تبدو بينة بوضوح في القصيدة التي لحنت وغنيت .
لن نتطرق إذا إلى المستوى الجمالي والأدبي للقصيدة بل سنكتفي بالتعرض إلى الدواعي النفسية التي جعلت الشاعر يصف حبيبته في صيغة المذكر.
يوحي إلينا مطلع القصيدة بأن الشاعر منغمس في عالمه الداخلي ليسترجع ذكريات لقائه بحبيبته فيستهلها بهذه الأبيات:

أين من عيني هاتيك المجالي ۞ يا عروس البحر يا حلم الخيال .

لذلك سنتوقف في هذا البيت عند عبارة " عروس البحر" والتي ترمز إلى المرأة الفاتنة / القاتلة التي تجمع بين الجانب الأنثوي/ الحيواني ( بما أن نصفها العلوي امرأة) ونصفها السفلي ( سمكة أو طير حسب الأساطير) فهي المرأة المغرية دون أن يكون وصلها متاحا للرجل.
في هذا المنحى، ورد بالأوديسة l’odyssé للشاعر اليوناني هوميروس Homère في حكاية عرائس البحر les sirènes أن البطل أوليس Ulysse كان قد طلب من رفاقه البحارة في إحدى سفراته البحرية،أن يسدوا آذانهم لكي لا يسمعوا أغاني عرائس البحر وأن يشدوه إلى عمود المركب، لأنه سيغامر بمفرده بالاستماع إلى أغانيها ، فإن طلبت منه عرائس البحر إتباعها ، عليهم أن يحكموا شده إلى ذاك العمود ويرفضوا فكّ أسره حتى لا يستسلم لإغرائها فيتبعها ويلقى حتفه ، وما إن ظهرت عرائس البحر حتى أخذوا بوصيته فنجا من الموت.
عروس البحر إذا ، هي رمز المرأة الغاوية التي لم تكتمل جنسيا والقادرة على الإيقاع بالرجل ، مع ذلك ستحتل خيال الشاعر لتذكره بلقائه الغرامي مع حبيبته فيقول:

التقت عيني به أول مرة ۞ فعرفت الحب من أول نظرة

ثم يصف حبيبه كالآتي:

ذهبي الشعر ، شرقي السمات ۞ مرح الأعطاف ،حلو اللفتات

وهي أوصاف لا تختص بها المرأة دون الرجل لعموميتها ، فرغم تبادل العاشقين كؤوس الخمر، إلا أن الوصف رغم جرأته لم يشمل صفات الحبيب التي جاءت رغم رقتها و جمالها، مقتضبة، إلا أن الشاعر يضيف :

" وهو يستهدي على المفرق زهره" ۞ ويسوي بيد الفتنة شعره

بما معناه : ينتظر أن يهدى له الزهر بينما كان يسوي شعره، وهو ما يوحي للمتلقي بأن الوصف يتعلق بامرأة وبجوانب من سلوكها مثل الانتظار والميل للإغراء، لكنه اتخذ لغويا صيغة المذكر.
سيكون لهذا التذكير نتائج تتجاوز الجانب الشكلي واللغوي ، لتصبح المرأة رفيقا للرجل تبادله الملذات والإعجاب والانجذاب بل وحتى الغربة دون أن يمثل إغراؤها خطورة بعد أن كاد الشاعر يمحي كل الفروق التي تميز كل منهما ونستنتج ذلك في قوله:

"كلما قلت له : خذ. قال : هات ۞ يا حبيب الروح يا حلم الحياة".

ثم وفي بيت آخر يقول :

قال : " من أين؟ وأصغى ورنا ۞ قلت : من مصر ، غريب ها هنا.
قال : إن كنت غريب فأنا ۞ لم تكن لي فينيسيا لي موطنا.

لا ننسى أن قصيدة " الجندول" نشرت في ديوان الشاعر علي محمود طه الصادر تحت عنوان " ليالي الملاح التائه" سنة 1940 في المجتمع المصري آنذاك الذي لم يكن يسمح لا بالاختلاط بين الرجال والنساء ولا بخروج المرأة إلى الفضاء العام ،مما يقلل فرص اللقاء بين الجنسين وما يفسر الأجواء "الفينيسية" التي تصفها القصيدة.
ويمثل التباعد بين المرأة والرجل بأسسه الإيديولوجية والثقافية حاجزا لنشأة الحب لما يتطلبه هذا الشعور من تضحية وتقارب وثقة بين الطرفين، لذلك يتنكر الرجل ولو بصفة لاشعورية للميزات الأنثوية بنفي الفوارق اللغوية لتصبح حبيبته "ذاته الأخرى".
لقد استحضر الشاعر في قصيدته الملكة الفرعونية " كليوبترا "مع ما تمثله من سلطة وثقافة وجمال وقوة، كما استحضر في أبيات أخرى عبارات دينية هي : الحور والولدان .
وخلاصة القول، أن افتتان الرجل بالمرأة وانخراطه في تجربة عاطفية ،تجعله يواجه نفسيا هواجس متعددة مردها خشية الرضوخ لسلطة المرأة وإغرائها و مواجهة المحرمات والمحظورات الاجتماعية والدينية ، تلك هي بعض الأسباب التي قد تدفعه لتذكيرها لتجاوز مثل تلك الأحاسيس .

كاهنة عباس .

* نشر بجريدة الشارع المغاربي بتونس بتاريخ 2020/04/15
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

تحية للاستاذة كاهنة عباس
وقد امتعتنا بهذه الدراسة الادبية العميقة التي تتناول ثيمة تذكير اسم المرأة في الشعر والاغنية ، وتناولت بالتحليل والشرح قصيدة ( كرنفال فينيسيا) لشاعر الجندول علي محمود طه نموذجا، بحيث ارتبط اسمه بها ، واشتهر حينما لحنها مطرب الاجيال الموسيقار محمد عبدالوهاب
واود هنا بعد الثناء على عمق التحليل ودقة مناقشة فحوى عنوان الدراسة
وقد دأب الشعراء والادباء على تأنيث اسماء المراة في الادب العربي ، بداية من امرئ القيس بن حجر الكندي الذي خاطب معشوقة له اسمها فاطمة بعد ان تمنعت عليه قائلا: ( أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل) ، بينما يقول عبد الله ابن المعتز المسمى ( بخليفة يوم وليلة) فيقول في قصيدة "ياغزالَ الوادي"
( يا غزالَ الوادي بنفسي أنتا = لا كما بتُّ ليلة َ الهجرِ بتا)
وهي من اجمل شعره، اهتم بها دارسو الادب، لثرائها وجمالها، ولروعة وغزارة التشبيهات ووهج الاستعارات التي حشدها لوصف مشاعره الوجدانية، وقد ابدعها عبد الله بن المعتز في جارية يلقبها بــ " مكتومة " و " شرة "، يعرض فيها بنفس شعري باهر لاحوال تولهه وحرقته ووجده وشغفه الشديد بها .. والغزال كما هو معروف هو ذكر الغزالة
وناتي الى الشاعر ابو الفضل العباس بن الاحنف وهو من ارق شعراء الغزل، في قصيدته مخاطبا صاحبته " فوز" ، وجاريتها بخادمكم:
وقد جاء ذكر اسم " فوز " في كل قصائده، ويحكى ان فوز هي " علية " بنت الخليفة المهدي واخت هارون الرشيد، وقد خشي ان يصرح باسمها اتقاء لغضب وبطش الخليفة، وقال فيها شعرا كثيرا يقطر رقة وعذوبة وملامة وعتابا، منه :
( يا فوزُ قدْ حدثتْ أشياءُ بعدَكُمُ
إنّي وإيّاكمُ منها على خَطَرِ
لو أنَّ خادمَكمْ جاءَتْ لقلتُ لها:
قوليْ لِفَوْزٍ أّلا كوني على حذَرِ )
وقال ابن الرومي مخاطبا صاحباه شاكيا لهما لوعته:
( ياخليليّ تيمتني وحيد = ففؤادي بها معنى عميد
غادة زانها من الغصن قد = ومن الظبي مقلتان وجيد)
وقد ترددت كثير من الاسماء الانثوية في شعر المتصوفة، للرمز الى المحبة الالهية والحقيقة السامية ، ولمعنى الوجود في بعده الصوفي العميق.. كأسماء ليلى وسلمى، وريا، كما عند الشهرزوري و عمر ابن الفارض

مزيدا من التألق والعطاء والابداع
 
الى الكاتب والناقد نقوس المهدي

تحية واحتراما ،

سررت بتفاعلك مع هذه المقالة وبما جاء في تعليقك من ملحوظات هامة ودقيقة، تعلقت بإلقاء الضوء على جانب من تراثنا الشعري القديم ، منحتني فرصة توضيح الزاوية التي اخترتها لقراءة قصيدة الجندول.
مما لا شك، أن الشاعر علي محمود طه قد خاطب المرأة بصيغة المؤنث في أكثر من قصيدة أخرى بديوانه ليالي الملاح التائه واختار الشاعر نزار قباني أن يعيد لها الاعتبار حتى أصبحت بالنسبة إليه الوطن والملجأ ومصدر السعادة وسر الحياة ومحورها، ومعنى ذلك أن تذكير ليس هو القاعدة بل هو ظاهرة من الظواهر في انتظار دراستها دراسة مستوفية .
ما أردت الإشارة إليه في هذه المقالة هي إشكالية تتجاوز التأنيث والتذكير في الشعر والغناء العربي ،قد عرفتها ثقافات أخرى.
بالنسبة للغة العربية لا ننسى أن أصل عبارة امرأة هي امرئ أي الرجل ،فإن كن جمعا يقال نساء وهي عبارة لا تنحدر من المفرد أي من امرأة ،بمعنى أن الأصل هو التذكير .أما شمولية الإشكالية فيمكنني الاستناد إلى ما قاله الباحث الفرنسي في علم النفس Jacques Lacan : لا وجود للمرأة بمعنى المفهوم La Femme n’existe pas ،أردت أن أطرح قراءة لقصيدة الجندول بهذا المعنى ،لكنني اختصرت خاتمة المقالة وقد أعود لبيان بعض جوانبها .

تقديري الخالص مع مزيدا من الإبداع والتألق .
 
تحية مجددة استاذة كاهنة عباس
وشكرا على تعقيبك الشائق الذي سعيت من خلاله إلى تبيان الحضور الأنثوي العلني والمضمر في شعر علي محمود طه، وهو موضوع إشكالي فتح عدة كوى لاثراء النقاش حول هذه القضية التي تدخل ايضا ضمن حقل علم الاجتماع لما تكتسيه من أهمية تتصل بعادات وتقاليد مجتمعنا الشرقي المحافظ، وموقفه من المراة، والتي يتناقض حولها حتى المثقفون من دعاة تحررها، ويتحفظون حينما يتطلب الموقف ان يكشف عن زوجاتهم طبيب نساء ذكر ، فيما ذهب بعض المتطرفين الى محاكمة كتاب الليالي العربية والامتاع والمؤانسة بسبب ما جاء بها من حكايات حول النساء ودعوا الى تهذيب تلك المصنفات التراثية
والمرأة وجمعها نساء ونسوة، وقد جاء في سورة يوسف ( وقال نسوة من المدينة)، و شكلت موضوعا أثيرا في الادب، وتناولها كل الكتاب والشعراء وكتب الادب مليئة باشعار الغزل والتشبب التي تراوح بين العذري والاباحي، حتى انه لم يستثن اي شاعر لم يكتب قصيدة او قصائد حول المرأة وقد جمعت في هذا المجال اكثر من 4000 قطعة شعرية من مختلف العصور ومختلف الشعراء..
و نزار قباني شاعر كبير ومؤسس مدرسة في شعر الغزل الحديث جعلت منه شاعر المرأة، على نهح عمر ابن ابي ربيعة الذي كرس معظم شعره في المراة، وفي دواوينه التي تناهز 39 ديوانا تقريبا تعامل معها كمحظية واسبغ عليها العديد من اشكال الوصف الشهوانية والليبيدية الى حد تعريتها ووصف اعضائها الحميمية ، وعرض نزواته ووصف غزواته الجنسية التي هجنت المرأة واحالتها لجارية وغنيمة لقضاء وطره، وجعل منها وسيلة للمتعة والشهوة ، وادعى بأن تحرير المرأة ينطلق من تحريرها اجتماعيا بينما الصحيح ان التحرر الاقتصادي هو الذي يحررها ويضمن استقلاليتها في المجتمع.. تقول المفكرة النسوية سيمون دي بوفوار ، ( لا تولد المرأة امرأة، وإنما تُصبح كذلك)، والتحرر الاجتماعي ليس كفيلا بذلك، قد يحررها عقليا ، لكن يجعل منها مومسا تعرض خدماتها الجنسية للعيش واعالة اسرتها. وهذا مما دفع بالشاعر المغربي محمد عنيبة الحمري إلى الرد عليه بديوان شعري غداة هزيمة 1967 أسماه " الحب مهزلة القرون"


وافر التقدير والاحترام
 
الى الكاتب والناقد نفوس المهدي :

استفدت كثيرا من ردك وتعقيبا على ما جاء فيه في خصوص شعر نزار قباني فقد قرأت بعض دواوينه منذ سنوات عديدة ولم أتبين آنذاك أن الشاعر يرى في المرأة موضوع شهوة ، وبودي لو تنشر الانطولوجيا دراسات نقدية لطرح قراءة أخرى أكثر إلماما بنظرة الشاعر للمرأة بما فيها وما عليها وتكون مخالفة للقراءة السائدة .
في ما يخص تحرير المرأة وسبله ، الحقيقة أنني لا أتبنى أي موقف إيديولوجي رغم استفادتي من الكتابات النسوية فما يهمني هو الإنسان أي المرأة والرجل، والرأي عندي هو الآتي : ليس لشق من الإنسانية أن يقمع أو أن يناهض الشق الآخر لارتباطهما العاطفي والفكري والثقافي بل وحتى الفلسفي والوجودي وهو رأيي في جل ما كتبت ( مثل نص أسرار الكتابة أو رواية غريبان )، أما الهدف من بعض قراءاتي النقدية في هذا المجال فهو رفع الستار عن بعض التصورات الثقافية في صيغها المتعددة والتي من شأنها أن تكون مصدرا للاضطهاد والعنف بين الشقين أي الرجال والنساء ،عسى نكون أكثر دراية بما يجول بأنفسنا و تصالحا معها .
فائق تقديري وتحياتي
 
الاستاذة كاهنة عباس
التحيات الطيبات واتمنى ان يمن المولى عليك بالصحة الجيدة والعافية والسلامة وطول العمر في هذه الظرفية الحرجة والعصيبة التي يجتازها العالم

وشكرا على تعقيبك الجميل الذي يثري الحوار ويغنيه حول موضوع حضور المرأة وتذكير اسمها في الاغنية العاطفية، ويزخر ريبرتوار الأغاني بالعديد من نماذج الغناء الناعم الذي يقف في حدود توصيف جمال المرأة بعبارات لا تخلو من حشمة، باستغلال عدة صيغ جمالية ودلالات بلاغية منها الترخيم والتصغير والتورية والكناية والاستعارات والسيمولاكر ، إلى غير ذلك من مكر اللغة، لتعداد مناقبها، والثناء على أخلاقها، إلى التطرق لحسنها وليونة طبعها، ولدانة جسدها، وملابسها ووشمها ومشيتها ونعومة شعرها وخفرها وحشمتها ، واستغلال مختلف الصيغ الجمالية المحببة والودودة لتدليلها، وآخر اباحي وفاحش يتعدى ذلك الى التغني محاسنها، ووصف اعضائها الاكثر حميمية وإثارة ، ويتجلى هذا في الاغاني الراهنة التي اصبحت تجارية صرفة، وطالها الاسفاف والميوعة والكلام السمج والفارغ والموسيقا الزاعقة والرديئة، التي استغلها بعض عديمي الموهبة من اشباه الفنانين ، فهبطوا بها من شموخها الباذخ الى الحضيض
ويمكن للباحث المهتم تقصي هذا في الكثير من الاغاني التي تمحورت حول تحوير اسم المراة باللجوء الى تذكير اسمها او ترخيمه تحببا، لعدة اسباب منها الخوف من الرقيب أو لمغازلتها وامتداح جمالها ورقتها وعطفها وغنجها الى غير ذلك من كامل الأوصاف، وإن كانت تكتفي بالاوصاف والترميز دون التلميح المباشر بالاسم ، ومن بين هذه الاغاني على سبيل المثال لا الحصر ، أغنية " لحمام اللي والفتو مشا عليا" للحاج محمد لعنقا ولحمامة تشير الى المرأة المتغزل بها ، وأغنية " اللي مشى لو غزالو آش من حبيب بقى لو" للفنان أحمد جبران وهو من رواد الاغنية المغربية صدح صوته لبعض الوقت في عقدي الخمسينات والستينات ، ثم سكت بعد أن هاجر لامريكا حيث توفي هناك، وأغنية “ حبيبي تعالى” للشاعر اللبناني إلياس فرحات، وغنتها بهيحة ادريس، وأغاني " لبركي هواني" و " لشقر" للفنان الكبير محمد فويتح، وعند عبد الهادي بلخياذ نجد عدة أغن تتغنى بالمرأة مثل "هدى لي صورتو البارح"، و" يا محبوبي" "، كما نعثر في الاغنية التونسية على نماذج من هذا النوع منها اغنية صليحة " فراق غزالي" وربما غيرها كثير لانفتاح ونهضة المجتمع التونسي وتطوره مقارنة مع باقي الأقطار المغاربية ، و أغنية "وا لغزيل طاحت مريضة تشكي بالرأس" وهي نص من التراث الشعبي غناها الفنان الشعبي جمال الزرهوني ، ثم قصيدة " المحبوب" من نظم الحاج فضُّول المرنيسي وهي من فرائد قصائد فن الملحون المغربي ، الشقيق الثالث للمالوف التونسي والغرناطي الجزائري
واود ان اعرج على نوع اخر من الاغاني الهجينة المتحاملة على شرف المرأة وكرامتها ، والمليئة بالكراهية والشوفينية والحقد برغم ما تقدمه للاسرة والمجتمع من خدمات عظيمة ، وتصفها بالخيانة كأغنية " سالمونيلا" تميم يونس، والسالمونللا هي البكتيريا المسببة لمرض التيفوئيد، لضراوة هذا المرض
 
الى الكاتب والناقد نقوس المهدي :

أرجو لك ولكل المشرفين على موقع الانطولوجيا والمساهمين في إثرائه بالنشر والإبداع العافية والسلامة في مثل هذه الظروف الصعبة ، في ما يخصني أتمتع بصحة جيدة والحمد لله .

لا شك أن تذكير المرأة في الأغاني العاطفية يتطلب بحثا علميا يجمع عدة اختصاصات مثل علم الاجتماع والانتروبولوجيا واللسانيات ،أما عن مقالتي المنشورة ، فإنها فتحت قوسا لطرح المسألة دون حسمها.

ويبقى السؤال قائما : هل يعود تذكير المرأة في الأغاني العاطفية إلى مقتضيات الهيمنة الذكورية أي إلى القيم السائدة التي تعتبر الرجل هو المرجع لغويا ورمزيا سواء في الثقافة العربية أو في غيرها من الثقافات الأخرى ، أم مرده (كما ذكرت في ردك) تجنب الرقابة الاجتماعية والثقافية بما يبيح وصف المرأة بشتى الأوصاف المحظورة وغير المحظورة دون تأنيثها؟

أغلب الظن ، أننا لا نختلف في الجوهر ، فوصف المرأة بأسلوب مباح يعد انفلاتا من السلطة المنظمة للعلاقة بين الجنسين اجتماعية كانت أم سياسية أم ثقافية، وهو ما يطرح أسئلة عديدة ومنها: إن كان ذاك التذكير طريقة من طرق " تقنين" ذلك الانفلات ، ما هي السبل المتاحة للمرأة للتغني بخصال الرجل ومحاسنه مثلا ، ما الفرق بين الأغاني الشعبية في هذا المنحى وغيرها من الأغاني الأخرى المنتمية إلى الثقافة الرسمية؟

وتجدر الملاحظة في هذا المضمار ( في انتظار دراسات تعنى بهذا الموضوع) ، أن الألم والعذاب هما من الأحاسيس الأكثر حضورا في الأغنية العاطفية العربية خاصة القديمة منها، وقد بدت لي صورة الآخر ( المحبوب رجلا كان أم امرأة) غالبا ما تختص بالطغيان لتستحوذ على كيان المحب جزئيا بل وكليا أحيانا واستحضر في هذا المجال: أغاني كوكب الشرق السيدة أم كلثوم ، ما يطرح علينا أسئلة أخرى تهم علاقتنا "بالآخر " عاطفية كانت أم روحية أم عائلية أم غيرها..

وفي خاتمة هذا الرد، أود أن أعبر لك عن شكري لمنحي فرصة التواصل والنقاش في هذه المواضيع الهامة لتعلقها بالفن وبمختلف أوجه العلاقة بين الرجل والمرأة وبما تحظى به العاطفة من مكانة في نشأتنا الثقافية ، فمنذ فترة لا يمكنني حصرها، لم نعد نشهد نقاشا بين الكتاب والمفكرين والنقاد حول بعض المسائل الشائكة وغابت عن مجلاتنا وصحفنا العربية الخصومات الفكرية والأدبية حول القضايا الأساسية ،إلا ما قل منها أو ندر وهو موضوع آخر يستحق الدرس .

تحياتي الخالصة .
 
الاستاذة كاهنة عباس
تحيات طيبات وتقدير
اتفق معك في كل ما ذهبت اليه بان علاقة المراة بالرجل تخضع لعدة اسباب اهمها الاقتصادية، ويمكن القول بان تقدم اي مجتمع رهين بمركز المرأة ودورها ومشاركتها الفعلية فيه، بينما التغزل بالانثى سواء في الاشعار والاغاني قديم قدم التاريخ، وهناك من اختص فيه كعمر ابن ابي ربيعة الذي لم يمدح في حياته أحدا ، فلما سئل لماذا يحجم عن مدح بني مروان، قال " أنا لا أمدح إلا النساء!" ، ولم يخلص نزار قباني في حياته إلا لزوجته بلقيس من دون أعداد النسوة اللائي تغزل بهن
وفي الوقت الذي تزخر فيه الاغاني والاشعار التي تتغنى بالنساء ، يحفظ التراث اللامادي للشعوب ، المشتق من كلمة إرث " Heritage" التي تشمل الأغاني والاهازيج والعادات والطقوس التقليدية ، العديد من الاشعار التي توثق للعلاقات العشقية العكسية التي تخص تغزل المرأة بالرجل ، نشير الى وجود ألوان شعرية تتميز بجرأة البوح وافشاء الرغبات الحسية، ومن نماذجه الاشهر شعر " اللاندي" و يعني " الموجز" لقصره ، وتتميز به نساء البشتون بافغانستان ، ويتداول سريا بينهن، حيث تتفنن النساء البشتونيات في افشاء عشقهن و بوحهن ومشاعرهن في مجتمع متحجر ومتخلف تكبله المعتقدات الدينية ، والعادات القبلية التي لا تتورع عن قتل المرأة اذا احبت
وقد جمع هذه الاشعار في كتاب موسوم بـــ " اللانداي، الشعر الشعبي للنساء البشتون) مباشرة عن النساء الأفغانيات الشاعر الأفغاني ( سعيد بهاء الدين مجروح) الذي اغتيل بسبب هذا الكتاب
ومن نماذجه:

( أليس هناك مجنون واحد في القرية ؟
لون سروالي الناري يحترق فوق فخذي
***
يريدني حبيبي أن أقبله بين ورق التوت
وأنا أقفز من غصن لغصن لأهبه شفتي
***
خذني بين يديك أولا ثم ضمني
بعدها أدر وجهي وقبل شاماتي واحدة تلو أخرى .
***
اذهب يا حبيبي ، وانتقم لدم الشهداء
قبل أن تستحق اللجوء إلى نهدي .
***
عاد بثقوب رصاص بندقية جهنمية
سأضمد جراحك وأهبك شفتي .)

كما نشير الى شعر " التبراع" الذي يتميز به الادب الحساني بجنوب المغرب وموريطانيا ، ومن خلاله تتغنى المتبرعة بعشقها للرجل ، واستغلال التراث العشقي العربي لأن المجتمع الحساني يشترك عرقيا وسلاليا مع موريتانيا بلد المليون شاعر، ولا غرابة في ان تكتسب النساء ايضا رصيدا ثقافيا والماما بالشعر العربي
ومن هذه النماذج :

( قَيْس المُلَوَّحْ أطَمْ أنا مَنُّو وَاشَحَ)
أطم وأشح: بمعنى أكثر وأشد

( حُبَّكَ يالقَدِّيس حَيَّرْ نِزارْ وَ كْتَلْ بَلْقِيس)

و في النموذج التالي تشهر المتبرعة حبها وكانها تؤذن في عموم الناس

لايْلاهَ إلًّ اللـــــــــــــه = يا خُّوتّي أُ لايْلاهَ إلَّ الله
لايْلاهَ إلَّ اللـــــــــــه = مَغْلَ عْلِِيَّ رسول الله
حُبِّي ذَا اطَّــــــــــارِي* = ثَابَتْ رَواهْ البُخَاري
كَيْفَ أنْســــــــــــاهُ = ذلٍّ * في الجَفْنٍ سُكْناهُ
مَنْ عَزَّتْ كَـــــــمْيَ = بَكْمَ طَرْشَ عَدْتْ أُ عَمْيَ
* اطَّارِي : الذي طرأ علي
* ذلٍّ: الذي

وعند أمازيغ المغرب نوع اخر من الشعر يدعى " إيزران" ، تنظمه النساء الامازيغيات بمنطقة الريف والاطلس للتغزل بالمذكر ،

- دموع كالخمرة أذرفها فتملآ الكؤوسا - أدعوك حبيبي لتشربها تباعا
- سألوني عن مسمى الحب قلت لا أدري - ولما به أبتليت نسيت إسمي
- هي ذي يدي أكويها بسيجارتك المشتعلة - ألا تدري ان الحب داء ورعشة
- من أجلك اذرع المكان جيئة وذهابا - جئت طالعا فوجدتني هابطا
- كالفراشة تدنو من النار - أجهل مصيري وأنا أتقرب اليك
- حبيبي كالعود وأنا أوتاره - حبيبي كالدنيا وأنا فيها الحياة

وفي بلدان ليبيا وتونس والجزائر نذكر شعر ( البوقالة أو البوكالة) ، وتعني أبو القول او القالة ، وهو ايضا من الشعر المجهول المؤلف مثل ما سبق من نماذج شعرية ، وتتميز بجلسات النساء ، في سهراتهن ، وتديره امراة مستهلة السهرة بقولها:

"بسم الله ابديت وعلى النبي صليت يا ربي أعطينا الفال (الفأل) ولاقينا بأولاد الحلال".


وتبدأن في قول اشعارهن على التوالي

( أسمك علي والعلي عالي
ياجوهرة في العقد
يا نقش خلخالي
دير روحك طبيب
وتعال شوف حالي
نصلي أني وياك جماعة
في الجامع العالي

الياسمين حل لي / والورد قال لي ادخل
أني خشيت إللي بيطير يطير / والي بينزل ينزل

_ وحدة خذت كابه / ووحده خذت شال
وأني خديت سيد الرجال / خير من ألف ريال

_ يا شيخ الاسمر اناديك / ضايق بلا راد حالي
شيل المفاتيح في ايديك والمسكره حلها لي

_ خطم من فم حوشنا / يزرع في الدلنجة
الوجه دورة قمر / والفم فيه فلجه
دار روحه عثر / وكعمز علي الدرجه )

وقد جمعت هذه الاشعار الشاعرة الليبية كريمة الشماخي معنون بــــ (البوكالة في الموروث الشعبي الليبي)

في قصيدة لشاعرة مشرقية نقول فيها

هذاك المار قدامي وله نظرات قتاله
له سكسوكة حلوه بأقصى الوجه مرتسمه
حرمني النوم في ليلي .. حرمني النوم عقباله

كما نسجل وجود لون آخر من الشعر في هذا الغرض -نسيت اسمه- بدول المشرق العربي المحافظة

كانت هذه إطلالة مقتضبة جدا على جانب من الاشعار التي تخص النساء
 
الى الكاتب والناقد نقوس المهدي :

كانت جميلة تلك القصائد التي تغنت بحب النساء للرجال جهرا وسرا التي ذكرتها في ردك ، فيها من العفوية والصدق والعمق والاندفاع ما يجعلها جديرة بأن توثق وأن تتحول إلى تراث تتناقله الأجيال ، قد راقت لي قراءتها ، لك مني كل الإعجاب والاحترام لما تتمتع به من ثقافة موسوعية لا تقتصر على الجانب النظري وعلى الاطلاع لما يكتب وينتج شرقا وغربا بل وأيضا لاشتمالها على الثقافة الشعبية الشفاهية و العادات الأكثر خصوصية أي على الثقافة الأكثر التحاما بوجداننا وذاكرتنا الجماعية ،في أكثر من قطر.

ولا شك أن الحب بقدر ما هو موضوع ما انفك يشغل الناس قديما وحديثا بقدر ما هو محظور من حيث الممارسة لقدرته على خرق كل السنن والقوانين .

تحياتي الخالصة
 
الأستاذة العزيزة كاهنة عباس

تحية طيبة وتقدير لشخصك الكريم

ليس بغريب ان يسافر بنا مقالك العميق حول موضوع تذكير المرأة في الأغنية العاطفية. الى شؤون أخرى أكثر شساعة تتعلق بالنظم الشعري و اغراضه وتحولاته عبر الحقب والازمنة. وتناول مكانة المرأة من كل ذلك ، وهذا كله يدخل من باب أهميتها في المجتمع، لأن " ما لا يؤنث لا يعول عليه" كما يقول الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي، حتى الامكنة أو اي شيء في الوجود تأخذ قيمتها ومدلولها من المكانة، فالكاتبة الجزائرية آسيا جبار" قالت في موجز حديثها على تذكير الانثى: " أرفض أن تؤنث كلمة كاتب.. ويجب أن يقال للمرأة كاتب لا كاتبة" ، و يقول الروائي الجزائري الدكتور أمين الزاوي في مقال له بعنوان: " يمــــــــا Yemma" ( تمثل المرأة بجدارة الطاقة المتجددة لكتابة حيوية. طاقة سحرية، شاعرية، شمسية ، فضة، ليس هناك كتابة من دون وجود المرأة الجميلة، القبيحة، الملاك، الشيطان، الشابة، الصغيرة جدا، العجوز ، الحكيمة، المجنونة .. من دون المرأة كل الاداب تولد ميتة). ويقول الرئيس اليمني سالم ربيع علي ( سالمين) في خطاب له امام حشد من النساء عام 1975: " أنا اليوم أقف أمامكن وأتحدث إليكن إنساناً ورئيساً، إن والدتي مارست كل المهن الحرفية طوال خمسة عشر سنة من أجل أن أدرس وأتعلم ، وكانت الداعم لي يوم عرسي ، وكانت الأب والأم والصديق والأنيس .. تعلمت منها الخلق والكفاح والعمل والصدق والحلال في الرزق والقناعة والرضا بالقليل منذ أن كنت طفلاً في الخامسة من عمري بعد وفاة والدي الذي كان يعمل صياداً في زنجبار بأبين..
إنه لولا الملامة من الناس والخوف من الله ، لنسبت أسمي بأسمها ، ليكون أسمي ( سالم بن خزانه ) ، ولأن أقوم بكل فرائض الصلاة والصوم نيابة عنها .. فهي دمي ولحمي وعقلي وكياني ، وأنا اليوم أقف أمامكن وأتحدث إليكن إنساناً ورئيساً الفضل بعد الله لوالدتي (أمي خزانة)"
وصولا الى درجة تفضيل النساء على الرجال كما جاء في قصيدة المتنبي الشهيرة " نُعِدّ المَشرَفيّة والعوالي"
ونتساءل ما الدافع من وراء تغنى المحب بمحبوبته بصيغة المذكر ، وبالصفات المذكرة ذاتها كما جاء في مقالك ، او استعارة اسماء سلمى وليلى وريا اللاتي تعتبرن عروسات الحضرة للكناية عن الحب والعشق الديني عند البوصيري والبرعي و الحصري ومحمد اقبال ، او الإلهي عند الصوفيين بحيث يتجلى في شطحاتهم واشعارهم الى حد الحلولية والانصهار مع الذات الالهية كما نلمس في كتابات واشعار الحلاج ومحمد بن عبد الجبار النفري وابو يزيد البسطامي ومحيي الدين ابن عربي، وعمرو ابن الفارض والشيخ الجزري وعبد القادر الجيلاني ، وعبد الكريم الجيلي وغيرهم و "شهود الحق في النساء أعظم الشهود" على حد قول الكبريت الأحمر محيي الدين بن عربي
كما سنتطرق لحضور المرأة في ملاحم وقصائد العشق في الاسطورة والاشعار والحكايات الشعبية التي تراوح بين الحقيقة والخيال كقصة " مم وزين" وهي قصة حب كردية حزينة لا يستطيع القارئ كتمان تأثره بها ، والقصيدة الرائعة "حيزية" او قصيدة "البوغي" الجزائريتين ، واسطورة " تيسلي وتيسليت" و "حمو أونامير" في الفلكلور الأمازيغي المغربي ، و "حسن ونعيمة" و "بهية وياسين" المصريتين، و " تاجوج والمحلق" في السودان، عدا قصص العشق الشهيرة التي شغلت مشاهير الشعراء في الادب العربي وربطتهم بمعشوقات معينات
بخصوص تطرقك لمسألة الجنس وحظره ، واعتباره كطابو خاصة في العصر الراهن .. ونعتقد ان المجتمعات القديمة كانت اكثر حرية ، على الاقل في تأليف القصائد والمصنفات ، وقد أدرجت منها حوالي 200 مصنف نادر كتبت عبر عصور مختلفة ابتداء من القرن الثاني الهجري، لكن حاليا نجد تراجعا على هذا المستوى واقيمت محاكمات للكتاب بدعوى خرق المحظور ، بداية من محاكمة " غوستاف فلوبير " بسبب مدام بوفاري الى مساءلة الكاتبة " ليلى بعلبكي" في الستينات بسبب مجموعتها " سفينة حنان إلى القمر". والشاعر العراقي " حسين مردان" بسبب ديوانه الشعري " قصائد عارية". واعتقال الروائي والكاتب المصري أحمد ناجي بسبب تاليفه لرواية " استخدام الحياة" بدعوى ان احد المتأسلمين قرأها في جريدة اخبار الادب وتسببت له في هبوط في الضغط، ودوخة وقيء فتقدم ببلاغ للمحكمة التي قضت بحبسه سنتين، ومحاكمة الكتب القديمة من اجل تهذيبها ك " ألف ليلة وليلة و " الامتاع والمؤانسة" لابي حيان التوحيدي

مع كامل شكري وتقديري لك
 
الى الكاتب والناقد نقوس المهدي
تحية احترام وتبليغ سلام .

وبعد ،قد تحظى المرأة بمكانة مميزة أحيانا في الأدب الشعبي أو لدى المتصوفة ،كما جاء في ردك اللطيف بثرائه وغزارة مراجعه،إلا أن مكانتها تلك تبقى مرتبطة بالمجال الذي نفكر من منطلقه ، ففي المجال الحقوقي : لا تتمتع المرأة بالحقوق التي يتمتع بها الرجل، وفي المجال الاجتماعي : يوجد تقسيم للأدوار داخل الأسرة وفي بعض المؤسسات، يقوم أحيانا على التفرقة بين الرجل والمرأة، مع ما ينجر عنه من آثار اقتصادية تتعلق بتوزيع الثروة بين الطرفين، وعلى المستوى السياسي : يكاد الرجل ينفرد بتنظيم السلطة واتخاذ القرار وغالبا ما تكون مشاركة المرأة على ضعفها وقلتها ،إما صورية أو هامشية ،ما عدا بعض الاستثناءات، على المستوى الديني العقائدي : تفسير النصوص المقدسة وتأويلها ونشأة الاتجاهات الفقهية باختلافاتها وتطورها التاريخي ومصادرها المكتوبة و الشفاهية وتأثيرها على المجالين السياسي والاجتماعي ،قد شكلت وعيا يحط من قيمة المرأة كإنسان ويجعل دورها يقتصر على الإنجاب واستمرارية النسل ، أما المستوى الفني باختلاف أنواعه السينما،النحت ،الرسم ،المسرح وخاصة الأدب وما أنتجه من تصورات وقيم جمالية وأخلاقية سواء داخل الثقافة الرسمية التابعة للمؤسسات أو الشعبية المتصلة بالمخيال الشعبي وبالتراث الشفاهي فإنها لم تقطع تماما مع الصورة النمطية للمرأة التي غالبا ما تختزل في ثلاث أدوار : الأم ،الزوجة والمومس التي غالبا ما تقوم على التفرقة بين صنفين من النساء: الأولى طاهرة وطيبة رمز للتضحية والعطاء والمحبة دون قيد أو شرط ،أما الثانية فتعتبر ماكرة رمز الشر والدمار والخيانة والفساد ،وقلما نجد ما يجمع بين الجانبين ( الخير والشر)كما هو شأن الإنسان.
هذه النظرة السائدة لم تتزعزع إلا نسبيا رغم انخراط النساء في النشاط الأدبي وظهور رؤى أخرى تبرز المرأة في أدوار مختلفة خارج الأطر التقليدية المعروفة ( مثل المناضلة ، الباحثة ،الفنانة ، المهاجرة ، المهمشة ،الثائرة ،المفكرة ، الثرية ،السجينة .....إلخ ) ورغم ذلك، نادرا ما نشهد من خلال بعض الآثار الفنية، شخصيات نسائية تتميز بالثراء والتعقيد بأن تسند إليها أدوار درامية محورية أو ريادية لغياب التجربة الفردية وتنوعها والتراكم التاريخي للكتابة النسائية وعدم تمتع النساء أحيانا بالحد الأدنى من الحريات.
وفي الحقيقة لو عدنا إلى الأديان السماوية اليهودية والمسيحية ،لاستنتجنا أن المرأة خلقت من ضلع آدم ثم أوحت له بأكل التفاحة من الشجرة المحظورة شجرة الخير والشر ،فكانت أصل الخطيئة والفساد وسبب خروجه من الجنة ونزوله إلى الأرض ورضوخه لسنة الحياة والموت.
أما في مجتمعاتنا فجسد المرأة ليس ملكا لها خاصة في الفضاء العام، لعدم تمتعها بحرية اللباس والتنقل والتعبير بل وحتى الاختيار أحيانا في بعض الأمور الأساسية مثل السفر و العلاقات الخاصة أو حتى اختيار الزوج لدى بعض الشرائح الاجتماعية وفي بعض المجتمعات العربية ، لذلك وضعت قواعد وضوابط لكل ما يتصل بجسدها من وصف وإيحاء في شتى الفنون للحفاظ على النظام القائم بشتى أبعاده الرمزية منها والجمالية، إذ تعتبر الحرية الشخصية للمرأة وطريقة تعاملها مع جسدها من القضايا المحورية في مجتمعنا لاتصالها بمسألة الهوية الثقافية وارتباطها الشديد بسلم القيم .
ولوعدنا إلى المجال الأدبي تحديدا إلى بعض الروايات التي كان لها إشعاع وانتشار في مراحل معينة من تاريخنا ، مثل موسم الهجرة إلى الشمال للأديب الطيب صالح أو حدث أبوهريرة قال للأديب محمود المسعدي أو ثلاثية نجيب محفوظ ،فإنها كانت تثير حيرتي وتساؤلي في سن مبكرة حول صورة المرأة ومكانتها : فالسبيل التي توخاه بطل موسم الهجرة إلى الشمال لغزو الغرب والانتصار لقضيته الثقافية كانت مغامراته الغرامية مع النساء اللواتي ينتمين إلى تلك الثقافة وهي نظرة تفتح الباب لنقاش مطول على أكثر من صعيد سواء النفسي أو الفكري أو الثقافي ، أما الأديب محمود المسعدي فقد وصف لنا في فصل من فصول روايته الحريق الذي نشب ببيت بطله أبي هريرة ،فأتى على كل ما فيه وأدى إلى وفاة زوجته ،لكن القارئ لن يجد لتلك الحادثة أثرا رغم فظاعتها ،باعتبارها جزئية خالية من كل أهمية في حياة البطل، وما بقي عالقا بذاكرتي من ثلاثية نجيب محفوظ هو الدور الثانوي والهامشي للشخصيات النسائية ، لذلك كنت أتساءل وأنا أقرأ روايات الأديب جبرا إبراهيم جبرا : كيف تجرأ على وصف شخصيات نسائية بذلك الذكاء والعمق والشجاعة ،أيمكن أن يحدث ذلك في عصره وبيئته الثقافية والاجتماعية ؟ وكنت معجبة بما يكنه عميد الأدب العربي طه حسين من احترام وتبجيل ومحبة لزوجته سوزان وكنت أستغرب أيضا من موقفه ذلك في ذلك العصر وذلك المحيط .
ومع ذاك أعتقد أن قصيدة الجندول حتى وإن ذكرت المرأة المحبوبة، فإن ذلك لم يمنع الشاعر من صياغة نظرة للمرأة تتميز بالتعقيد والثراء لارتكازها على ثلاث رموز أساسية : الأولى مستمدة من أسطورة عروس البحر ، والثانية من أسطورة كليوبترا ، والثالثة من دلالات عبارتي الحور والولدان بمعانيها الفقهية الدينية والتي تدور حول ثلاث محاور : ما هو متعة كإغراء واللقاء والتواصل العاطفي والحسي بين العشيقين، ما هو سلطة، سلطة المرأة على الرجل وما هو محظور أي ما هو مباح وما هو ممنوع .

تحياتي الخالصة.
 
أعلى