وئام حمزة - من الداخل.. قصة قصيرة

قدماي تؤلمانني

قدماي تؤلمانك. الضيق في صدري آلام بصدرك. كم أتمنى أن أمحوها عنك، كل آلامي. أتسبب لك في آلام كثيرة، لكن أكثرها وجعا، حين أغادر. أغادرك مرتين، مرة أحيا معك، ومرة دونك،. مرة أؤلمك، تصرخين، تستغيثين، ثم تنسين، حين ترينني. رؤيتي لوقت طويل، كانت وحدها شفاك.

ومرة أغادر، لن تكون لديك القدرة على الصراخ والنواح، تنتظرين رؤيتي لتتذكر كم تحبينني! وأحيا وحدي، لن تضطري إلى حملي. يقطعون الحبل بيننا، وأظل أشد الوثاق نحوك، ينسون أجنحتي وتنكسر قدمي في محاولات البقاء. وأخرج يدفعني الحب إلى الخارج ويبقيني الحنين داخلك.

****

الشعور الذي لا يتذكره الجميع، يبحثون عنه في الاستعارات والخيالات، يمرون به جميعا، وننساه جميعا، أعرفه الآن، سأحاول تذكره دائما، شعوري بالأمان داخلك، شعوري ككائن محمول. سأتذكر هذا الشعور وسأشتاقه ما بقي من عمري، عندما يبدأ عداد العمر. أحتفظ منك بأشياء كثيرة، قامتك طويلة وصلبة كالنخيل، عيناك سوداوان واسعتان أرى نفسي فيهما بوضوح شديد وجمال فريد، ينقصني بعض منك، الشلوخ على وجهك، أوشام قبلية، لم تقبلي أن تعطيني مثلها، شعرت أن عليك حمايتي!

أذكر كيف كان الصبية يتسابقون لزيارة الأهرام المحيطة بنا، لا حراسة عليها. يدخلون ويمرقون، لا أحد يمنعنا، سواك! تخيفيننا بشياطين تسكنها، تحذرين من تربصهم لنا. أصبحنا نعرفهم، نعرف أشكالهم، نخافهم. لم نعد نرغب في زيارة المكان. وعندما كبرنا كان اليقين الذي زرعته فينا أقوى من كل العلوم.

****

لا أرى شيئا بعد، لكني أفهم ما ترينه لي. عيناي مغمضتان. وتغمضينهما لي أكثر، حماية، خوف ألا أقوى على مواجهة الحياة. تغمضينهما بيدك النحيلة، برائحة التبغ والحنة. لك عطرك الخاص، وعطري بعض عطرك. أودّ حمايتك أيضا أن أغمض عينيك، فالقادم ليس أجمل، تتغير البلاد كثيرا تنقسم إلى دويلات، لن تكفينا أموال أبي. أبي ذاته لن يكفي. يخرج للحرب يوما ولا يعود، لن يعود. يموت دفاعا عن شيء ما، شخص ما جعله ثمنا للقضية. وتكونين وحدك عمرا طويلا، تواصيلن حملي دائما. وأظل أنشد لحظة انعتاق عن حضنك، هي لحظة اشتياق لوطني فيك. يكون لي أحباء غيرك، أصدقاء غيرك. تؤكدين أن لا أحد يحملني بقلبه مثلك، أظل أجرب، أنكسر كثيرا. حطامي يؤلمك. أجوب الأرض بحثا عن رزق، تظنينه خطأك، فلو كانت قدماك تحملان لحملتني أكثر. العالم الذي يتكون في داخلي، تخرجينه، تضعين شروطا وقوانين. لك قوانين مخيفة، ربما لك ذاكرة مثل ذاكرتي، تعرف مسبقا كل ما سيحدث، إذ حدث قبلا.

****

فعندما مات الجد حماد، رجعت من المدرسة مع رفقتي، قيل إنك في العزاء، ذهبت فلم أجدك، كنت تنتظرين عودتي إلى المنزل لتذهبي، سبقوني إلى الطعام فأكلت معهم، خالجني شعور غريب أن آكل طعاما شهيا وطيبا خارج بيتنا، طعاما شهيا وطيبا لم تصنعيه.

عدت إلى المنزل ضممتني سألتني، وحين عرفت، رفعت رأسي بيدك وبالأخرى ساعدتني على التقيؤ “تطهر من ذنبك، لا تأكل طعام الميتين” أو أنك قلت لا تأكل سوى ما أصنعه. مرة أخرى سأخوض التجربة، وأجرب أشياء وحدي، دون علمك، أتقيؤها لحظة سؤالك.

تغفرين بعدها وتذكرين محبتك. تغفرين كل شيء وكم تمنيت أن أتقن الغفران مثلك. سامحتني على كل غياب وكل رحيل. ولم أسامح ذاكرتك التي أنكرتني وأبقت ظلال محبة بعينيك ويديك ودفء حضنك. لم أسامح رحيلك في البقاء، ولم أسامح رحيلك نحو عالم لا أنتمي إليه بعد.

****

حين أخطئ تهددين بعقابي، تضعين سبابتك بين أسنانك، فأنزجر خوف العقاب! أنظر يوما لسواد سبابتك وأصاب بالألم. إصبعك يؤلمني. قدماي تؤلمانني. قدماي تؤلمانك.




<iframe width="640" height="469" src="
" frameborder="0" allow="accelerometer; autoplay; encrypted-media; gyroscope; picture-in-picture" allowfullscreen></iframe>




* من نصوص بعنوان : حذاء أسود لامع

تعليقات

الأديبة وئام حمزة .. جميل هذا النوح بين الأم وابنتها .. أو بين الوطن والذي غادره لسببٍ ما إلى حيث لا ملة له ولا لسان .. وأخلاط مِنْ الهموم تتربص بالناس كما تربصت ببطلة الرواية مساخيط الحكايات .. عمل جميل رائع .. دمت بخير
 
ازجي خالص شكري وتقديري وامتناني للقاصة الرائعة وئام حمزة . على نبل اخلاقها واريحيتها وسخائها من اجل نشر المعرفة. والادب الرفيع . واختياراتها المبثوتة عبر قناتها الثقافية التي تقدم من خلالها نصوصا مسموعة لمختلف السراد من مختلف الحساسيات الادبية والبلدان.
تطرح القصة القصيرة من الداخل مشكل الكائن وظله. هذه الازدواجية خلقت تشويقا وتواثرا في الاحداث .. من خلال شخصيتين اثنثين . الأولى قارة وواقعية تسرد الأحداث وتسيطر على المشهد القصصي.. وتتمعن في حال الكون وتطرح عدة رؤى . والثانية مضمرة ترافقها في حركاتها وسكناتها.. تحس بها . تنبهها، تزجرها لدى كل هفوة، تراقبها ، تحس بمعاناتها، بآلامها وكل حاجة من خلجاتها. متقمصة دور الرقيب. وكل ذلك بلغة سردية متينة . وحبكة قوية. وترابط وتسلسل في الأحداث على طريقة المبدعين المحترفين
 
أعلى