محمد بشكار - أخْرِقُ حَظْر التَّخيُّلْ!

لِكُلٍّ مِنَّا رغائبُهُ التي تدعوه بنداءاتها للخروج من الحجْر المنزلي ولو تشابهتْ أحياناً، فما أقسى الغياب وأنت في كامل حضورك تتمتَّع بحيويةٍ قمينة بِهدِّ الجبال، ما أقسى أن تكون منفياً دون حُكْمٍ، ليس فقط في وطنك بل أضيقَ في بيتك حفاظاً على حياة الجميع، أعْترف أننا لا نكتشف تطرُّفَ بعض أحلامنا، إلا حين تصبح واقعاً ملموسا في مُتناول اليد، ألمْ نكُن نحلم بشوارع نظيفة لا تضغط على هوائها الكثافة السكانية، ألم نكنْ نشكو من شدَّة الزحام حتى أننا لا نجد موطئ قدم في الأسواق والحافلات والحمَّام، فما لهذا الشوق اللعين يُطاردني بحنينه لهذا النمط من العيش الذي درج على طبيعته شعبي، على الأقل كنا مختبئين في بعضنا البعض، ورغم أننا نملأ الفراغ بأجسادنا مُكثرين من النسل، لم نكن ندع هذا الفراغ يتسرَّب لأنفسنا، ورغم أنَّ الوقت ليس ملائما للشِّعارات السياسية، إلا أنَّ تجربة الحجر المنزلي قد تُساعد بعض من يشُلُّون إرادة الشعوب، على فهْم أنَّ الوطن الذي دأبوا على تهريب ثرواته، لا يساوي شيئاً دون شعب مُجرَّد مَسْكَنٍ للأشباح !
ليس الوقتُ بالعقرب المُناسب لنكْإ الجراح، كل البلدان تتَّجه اليوم بسياساتها نحو تدبير أزمة الجائحة، ويبدو أن عالماً جديداً قيْد التَّشكُّل سيكون البقاءُ فيه للأقوى، فقط أشاطر الجميع رغبةً صغيرة في تجاوُز الباب بطمأنينة إلى الخارج، لأسمع الفتاة وهي تُحرِّكُ عطراً قديماً في فساتينها المُنْسدلة بالدولاب شنقاً، تهْمس كمنْ تنطق بالدَّمع من عينها، اشتقتُ للأحمر أريده يرفرف كرايةِ البلاد بالأسْطح على جسدي، خبَّأته لموعدٍ مع الحب قد يكون الأول والأخير، اشتقتُ لثوبي البَنفْسَجي، الأبيض، الوردي، إلهي منْ مسخ ألوان أزيائنا حداداً؟
أسمع الشَّاعر في كل ما يكتبه كمنْ يُقطِّع أصابعه دون نشْرٍ، ويُلقيها لعازفٍ في قلب العاصفة، لذلك قرَّر أن يُجَمِّد قريحتَهُ إلى شعرٍ آخر !
دائما حين أشاطر الجميع رغبةً صغيرة في تجاوز الجدران بطمأنينةٍ إلى الخارج، أسمع الشيخ وهو ينظر لعُكَّازته يتركها دائما في اتِّكاءٍ على الباب، مُتأهِّباً للتسكع كلما تاقتِ النَّفْس للخروج أو نُودي للصلاة، أسمعهُ حائراً يتحدَّث دون كلماتٍ، ماذا يريد بنا هؤلاء القوم أخَيْراً أو شرّاً، رمضان على الأبواب وهو لا يحْتمل البقاء خلف الأبواب، وما تعوَّد الخوف من شيء لا يراه يُسمُّونه الوباء، وأسمع شيخاً آخر تسلَّل خفيفاً من بيته ليقف عند عتبة مسجد بالجوار، وشرع يدُقُّ بابه باكياً بعينين تنظُران كطفل صغير إلى السماء، ودون أنْ ينتظر طويلا صاح بصوته الأجشِّ: يا أ الله افتح الأبواب لا تتركنا خلفها لنهش الذئاب !
أسمع الرجل يُخاطب نفسه وهو ينْظرُ للمرآة: كِدتُ لا أعرف وجهي لكثرة ما أضع الكِمَامة، يجبُ أنْ أُمْعِن النظر في ملامحي مليّاً لِتسْتنْسِخَها ذاكرتي، فمنْ يدري قد لا أعرف وجهي حين ألتقيني مرة أخرى بالشارع !
أسمع الزمن وقد بلغ من المقابر عِتِيًّا يُحدِّثُ ساعة يدي: أنا بتاريخي الذي زيفوه في البلاط، أكبر منك عمرا، لذا اسمعي نصيحتي ولا تستمري في عدِّ الأنفاس لتزيديني هرماً، فكل الأوقات تحت نير الحَجْر لا تُحتسبُ ضائعة !
أجلْ حين أُشاطر الجميع رغبةً صغيرة في تجاوُز الجدران بطمأنينةٍ إلى الخارج، أسمع قططَ وجِراء الشوارع تفتح الأفواه من عضَّة الجوع والقَرَمِ دون أن تُصدِر نأمةً، فلا أحد يُطْعِمها في الخارج بعد أنْ انتقل الشعب بكلِّ احتياطه من الزَّاد إلى الداخل، وقد رأيتُ في خطوها المُتعثِّر أنَّ العالم يمضي حثيثاً لأيامٍ عِجاف، لذلك لم أستغرب حين أفتح التلفزيون أن ينْبري نفسُ الخبير الاقتصادي وهو يتحدَّثُ عن الأمْن الغِذائي المُهَدَّدِ بسبب الجائحة، ولا أعرف لماذا أجدهُ دائما مُقنعاً، ربما لأنه يُحذِّر من سياسة بلدان تفْتخر بكونها القُفَّة التي تُطْعم العالم، وتسعى لِمنْع تصدير إنتاجاتها الغذائية من أجل الاستهلاك الوطني، أبداً ليس فقط هذا المُؤشِّر ما يُقْنِعني في الرجل، بل لأنه وهو الخبير الاقتصادي شديد الهزال كما لو كان مُتضامناً مع كل الجائعين، ولا يتحدَّث عن الأمن الغذائي إلا وهو يضع كفَّهُ على بطنه ليس خشية إملاق، إنما كَدليلٍ على أنَّ الحديث من موْضِع البطن نابعٌ منَ الأعماق !

...........................................
حُرِّر يوم الثلاثاء 14 أبريل 2020 في الحجْر المنزلي بمدينة الصخيرات

...........................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 16 أبريل 2020



............................................
رابط الملحق على موقع جريدة العلم:
http://alalam.ma/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%85-16-%d9%85%…/




L’image contient peut-être : 2 personnes, texte


194

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى