محمد العباس - إفتتاحية الرواية جُملة رحمية

عندما يشرع الروائي في كتابة رواية يفكر كثيراً في ابتكار سياق استهلالي لم يسبقه إليه أحد. وعليه، لا يمكن أن تبدأ الرواية كيفما اتفق. إنما تُستأنف بعبارة افتتاحية جذابة هي بمثابة جُملة رحمية يتناسل منها السرد، على اعتبار أنها وحدة سردية ذات منحى توجيهي تحيل إلى جوهر الفعل الحكائي. أي كبِنية نصّية تحدد مسارات واشتغالات النص الروائي. حيث يُفترض أن تبدو كقصة قصيرة جداً، أو كجُملة تنضغط في تلابيبها الرواية بشكل مكثف. وهي عبارة قد تطول لتتجاوز حدود الجملة إلى تخوم الفقرة، أو تنتهي عند أول كسر كلامي على مستوى النص.
من هذا المنطلق يمكن القول أن الجملة الإفتتاحية لها وظيفة درامية، فهي المنصة اللغوية التي يؤسس فيها النص مزاياه المغايرة التي لا تتطابق مع من سبقه. مع مراعاة كون هذه الجملة مجرد وحدة سردية داخل عمل له طابع التماسك والكليانية. ولا يمكن فصلها عن النص إلا من منطلق ومستوجبات تحليلية. فالجملة الإستئنافية تختزن كماً إخبارياً زاخراً بالمعاني والدلالات، ولا تستطيع أن تتمدد وتتوالد في الفراغ، بل داخل نص له آفاقه الفنية ومدياته الموضوعية. وهو ما يعني أن عبارة البدء ليس من وظيفتها الإستحواذ على حركية المعنى، بل تشكل انطلاقته. أي نمذجته على مستوى التشكيل الفني ومحتواه القيمي.
وعند الإحتكام إلى مصطلح (البداية الروائية) يمكن اعتبار الجملة الأولى في الرواية علامة شكلية لتأطير مرادات النص. على اعتبار أن الشكل جزء من المعنى أو يتضمنه. بمعنى أنها الشفرة التي تحدّد معالمه. لأنها جملة منذورة للتعامل مع ما تؤديه الشخصيات داخل السرد وما تتيحه الأمكنة من فضاءات لحركة الشخصيات وتنامي الحدث، بالإضافة إلى ضبط نظام العلاقات القائم بين عناصر السرد. وبالتالي يمكن أن تتكثف في فكرة واحدة تتشكل فيها استراتيجية النص، بالنظر إلى كونها جزءاً جوهرياً من عتبات النص. بل هي هويته المركزية من حيث الدلالة العامة للرواية.
ولا شك أن البدء في كتابة الجملة الأولى في الرواية هو النهاية المنطقية والفعلية لبدايات تمت كتابتها شفهياً والتنازل عنها أو تعديلها. وبالتالي فإن هذه اللحظة هي البداية الأهم لاستخدام القواعد المنطقية للكتابة. فهي بالنسبة للمبدع بمثابة النقطة الفاصلة ما بين مرحلة ما قبل الكتابة ولحظة استئنافها. وهي بالتأكيد لا تعتمد على نقل رسائل معرفية يكون فيها الروائي مجرد وسيط أو ناقل، بل تعتمد على كيفية صياغة الأفكار والمواقف والعواطف بما يحرف مسار النص عن أفق توقع القارئ. شريطة ألاّ تكون مُبهمة وأن تتوفر على مفاتيح موضوعية وجمالية.
صياغة المقدمة المنحوتة ببلاغة تعبيرية من أهم شروط الكتابة الناجحة. وبعيداً عن ضرورات المصطلح النقدي، واتكاءً على الرؤية التحليلية للإفتتاحيات الروائية الجاذبة يمكن القول أن الإفتتاحية اللافتة لا بد أن تُنصّص في مساحة صغيرة، وتشتمل على أغلب عناصر الرواية المراد سردها. من خلال نبرة وازنة لإيقاع الرواية، محقونة بوجهة نظر واضحة تعادل رؤية الكاتب الموضوعية، ومستندة بالضرورة على حبكة بسيطة، مع الماحة خاطفة للشخصية وطبيعة القيمة الصراعية المستحوذة عليها، وتحيين كل ذلك داخل بنية زمانية ومكانية، ولو بإشارة صغيرة ذات مغزى.
اللقطة الأولى إذاً، هي الأرضية التي تنفرش عليها الرواية، وتدوزن إيقاعها، وتستزرعها بالقيم المتصارع بها وعليها، كما تكشف عن التوجه الرؤيوي للروائي. وبالتالي هي التي ترسم ملامح الشخصية وتحبكن العمل. بمعنى أنها تعتمد على طريقة المعالجة وليس على رصّ العناصر في متوالية كلامية خالية من الدلالات ومفتقرة للحيوية. وهو الأمر الذي يستدعي طرح أول عنصر فاعل في هذا الصدد وإعطائه أولوية الحضور. ويتمثل في القيمة الصراعية، التي ينبغي أن تُدفع إلى واجهة البداية الروائية بوضوح تام، لتنبني عليها بؤرة التوتر في النص. وقد يكون ذلك من خلال مفردة واحدة أو أكثر. وهي الكفيلة بالتماس مع جوهر الموضوع المُجَادل.
ولا شك أن الشخصية هي الركيزة التي تتبأر فيها الرواية، ولذلك لا بد من تقديم شخصية لافتة يمكن للقارئ أن يتسلل إلى دواخلها ويتبنى شيئاً من تفكيرها، بمعنى أن تكون الشخصية محل إعجاب القارئ ولو في بُعدٍ واحد من أبعادها. ولتفعيل ذلك الإعجاب وتوطين الشخصية في وجدان القارئ لا بد من موضعتها على مدارج الحركة، ومزجها بالقيمة الصراعية. أي الكشف عن طبيعة الصراع ومنسوبه في مفصل من الجُملة. فالقارئ يميل بطبعه إلى الشخصية المثقلة بالقضايا التي تواجه الصعوبات في سبيل تحقيق أهدافها. ويعتبرها داخل السياق الروائي إمتداداً طبيعياً لوجوده الحياتي وممثلاً له في النص.
ولأن الشخصية هي العنصر الأكثر حيوية وإلحاحاً، يمكن وصف الشخصية وتأسيس ميثاق ضمني مع القراء يعده ويغريه بتقديم الماتع والمشوّق من جوانب الشخصية. وذلك من خلال ربط الشخصية بمحيطها الخارجي. بمعنى تسليم طرف خيط الفضول للقارئ عبر إشارات ودلالات تتناسب مع مستوى الصوغ اللغوي. وذلك بالتركيز على عوامل الحيرة والغموض والقلق وحشد الدوافع في عبارة تجعل من الشخصية المراد تقديمها مختلفة ومتمايزة عن الآخرين.
وهناك تقنية أخرى محورها الشخصية أيضاً، وتعتمد على إفساح المجال للشخصية للتعبير عن عواطفها، وعن رغباتها تحديداً، بصيغة تساؤلية. والتعبير هنا لا يقتصر على فكرة البوح وإعلان الأشواق الجارفة وحسب، بل التعبير عن الرغبة في مواجهة القدر، أو تغيير الماضي، أو ترميم الذات. وهي تقنية تعتمد على جُملة حوارية جوانية، أشبه ما تكون بالمناجاة الذاتية. بمعنى أن يكون التوق إلى التغيُّر أو الشوق إلى ( آخر ) هو مفتاح الرواية ومدخلها السحري.
كذلك يمكن استهلال الرواية بنمط يقوم على الوصف الخارجي، أو ما يُعرف بالإفتتاحية البانورامية. حيث تنبني استراتيجية النص على المشهدية السينمائية والإيحاء. وذلك من خلال فتح فضاء النص لوصف الطبيعة وليس لتشخيصها. أي بتقريب عدسة الرؤية على التفاصيل الصغيرة، ثم الإرتداد بها إلى الوراء لفتح مجال الرؤية على كليانية المشهد. أو يمكن أداء العكس، أي تصوير عمومية المشهد ثم التوغل بالعدسة إلى التفاصيل والغوص في أعماق المشهد وجزئياته.
ومن الإفتتاحيات المألوفة والمؤثرة تلك التي تنهض على تأطير الثيمة. وهي في الغالب ثيمة تغيير. ويعود عنصر القوة فيها إلى مرونتها، واتجاهها بشكل مباشر ناحية الموضوع. الأمر الذي يؤدي إلى إبرام ميثاق واضح مع القارئ، وتأسيس لحظة إتصال تقوم على المعرفة الحسّية. فالعبارة المستخدمة بقدر ما هي بعيدة عن التفكير التجريدي هي في صميم عملية خلق الشكل التعبيري وتوليد المعاني، وهو ما يوحي بقدرة الروائي على الإمساك بمادته الحكائية.
أما الإفتتاحية التي تقوم على الحوار، فهي استراتيجية تضع القارئ مباشرة في دراما النص، من خلال إطلاعه على وجهات نظر الشخصيات المتباينة منذ أول جملة، شريطة ربط الحوار بالحدث، أو تقديم الشخصيات لبعضها البعض من خلال الحوار. وهو توريط يحتاج إلى تقنية عالية في نحت العبارة الحوارية وطريقة إلقائها. بحيث تتجاوز التنميط اللفظي، وتكون مختصرة ومشبّعة بروح الرواية ومزاج الشخصية وطباعها. لأنها في هذه الحالة هي التي تؤسس لقوانين النص وترسي توجهاته، إتكاءً على الحوار. على اعتبار أن الجُمل الحوارية هي الوازن للنص إلى جانب الجُمل الوصفية والسردية.
إن المفردات المستخدمة في الإفتتاحية ليست مجرد ألفاظ، بل هي منظومة من القيم المنذورة للتحوّل إلى تشكيلة من الرموز داخل النص. على اعتبار أن الروائي يفكر من خلال اللغة. وبالتالي فإن الجملة المستدعاة في أول الرواية هي المعادل للثيمة أو لوعي الشخصية أو للقيمة الصراعية. وعليه، فإن الجُملة الإفتتاحية هي بمثابة الشفرة المرجعية التي تلمّح إلى الموضوع وتحيل إلى النماذج المعبّر عنها بالشخصيات. وهي الركيزة لانطلاق النص وتناميه. فهي لا تمهد لموضوع الرواية وحسب، بل تقوم بمهمة الضبط والربط والتحكم حتى في الخاتمة. لأنها كبِنية كبرى من بِنيات النص تختزن المفردات الجوهرية والمفتاحية للرواية.


القدس العربي
April 15, 2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى