أحمد بوزفور - تَــــــــاجْمُوتْ..

مع بداية نشرة الأخبار، وأنا أنتظر سماع آخر أخبار كورونا، سمعتُ الطرقَ على الباب. الطرقُ غريب: مكتومٌ مُصْمَتٌ كأنه طرقُ جدار لا طرقُ باب. فتحتُ، فوجدتُ أمامي شخصين، ينبغي أن أقول ( شخشين )، لأنهما كانا في بسطة من الجسم، طولا وعرضا، كأنهما من أبطال السومو. قالا معا، بصوت واحد مكتوم مُصمت كطرقهما: ( أجب الملكة ). وجرَّاني من يديّ الاثنتين قبل أن أسأل عن هذه الملكة: من تكون؟
قلت: أُغلق الباب
ــ لا داعي
ــ والكِمامة؟
ــ لا داعي
وضعاني بينهما، فسرتُ وأنا أحاول أن أُوازن سيري مع إيقاعهما: إذا أبطأتُ دَعَّني الذي ورائي، وإذا أسرعتُ صدمني الذي أمامي... حتى وصلنا إلى قصر منعزل في ضواحي المدينة: قصر ليس له نوافذ ولا شرفات ولا أبواب. وله قباب مجنحة كأنها قبعاتُ الكوبوي، وحجارةٌ صفراء تعكس ضوء الغروب فيزيدها صفرةً وشحوباً، ويُضفي عليها رهبةً غريبة، كأنها ذَهَبٌ مريض.
دارا، ودرتُ بينهما، حول القصر حتى وقفا بي أمام باب مدفون لا يكاد يُرى، كأنه بابُ قبو. انفتح الباب على دهليز ( أو نفق؟ ) مظلم، سرنا فيه ببطء جنائزي، وأنا أستعين على الخطو:
ــ بتلمس جدارين صلبين باردين عن يميني وعن يساري
ــ وبالتفرُّس في قفا الجدار البشري الذي أمامي، والذي بدا لي ــ حجما وكثافةً ــ كأنه ظلامٌ داخل الظلام
ــ وبالتملص من الكير البشري الذي ورائي، والذي كان ينفث في قفاي أنفاسَ تنِّينٍ نَزَّاعةً للشَّوَى.
وصلنا إلى ما يبدو أنه باب، لأن الجدار البشري أمامي وقف. ثم أشعل مصباحاً يدويا أضاء باباً حديديا ضخما، قرأتُ مكتوباً في أعلاه:
( أيها الداخلون. اطرحوا عنكم كلَّ أمل )
فارتعدت فرائسي ( كانت فرائصَ، فلما قرأتُ هذا السطر الجحيمي أصبحت كلُّها فرائس ). طرق الجدارُ البشري الباب طرقَه القطنيَّ المكتوم، فانفتح البابُ على ضوء غسقي، وعلى روضة ( بكل معاني الروضة في الفصحى والدارجة ): أشجار ومياه وأعشاب... ولكنها جميعا شاحبةٌ صامتة يُشِعُّ منها نور قدسي كنور كُوَى المساجد، ويشيع فيها عبيرٌ مدوّخ، كأنه مزيج من عبق الصندل ورائحة الحنوط.
أوقفني الخازنان السياميان على بحيرة ساكنة كأن ماءها ملح أو كأنها جزء مقتطَع من البحر الميت. وقالا لي: انتظر هنا.
تلفَّتُّ حولي فرأيتُ على ضفة البحيرة، قريبا مني، رجلا أعمى يحتضن عوداً يحنو عليه حُنُوَّ المرضعات على الفطيم، ويكاد يضع أذنه اليمنى على أنامل يده التي تضرب على أوتار العود ضرباتٍ خافتةً متقطِّعةً، كأنه يُدَوْزِنُ ويضبط قبل أن يبدأ.
أحس الأعمى بخطواتي، فرفع رأسه وتفرَّسَ فيّ بأذنه اليسرى.. فلما وقفتُ بجانبه قال لي:
( اجلس. أنت جمهوري. سأُسمعك أغنيةَ اليوم. الشعرُ لي، واللحن كذلك، وهو من خفيف الثقيل الثاني ).
ثم بدأ العزفَ والغناء:
( سَجَا ليلُنا، والعاشقون تزوَّجوا
حبائبَهم، واختارَ ما قَدَروا القَدَرْ
ف ( فَوَّزَ ) عبَّاسٌ، و ( عَزَّ ) كُثَيِّرٌ
و ( بَثْنَنَ ) عينيه جميلٌ مدى العُمُرْ
و ( أَلْيَلَ ) قيسٌ قبلهم، وتناولَتْ
يداه ( الثُّرَيَّا )، قاعداً، عُمَرُ القَمَرْ
ونال أمانيه ب ( عبلةَ ) عنترٌ
وأُعْطِيَ ( أَسْماءَ ) المرقِّشُ فاستقَرّْ )
ثم غرس الأعمى عينيه البيضاوين في عينيّ وهو يختم أغنيتَه:
( ولم يبق إلا أنْ أُزَوَّدَ لحظةً
، ولو قَصُرَتْ، من ( زهرةِ ) القلب والنظَرْ )

ثم قال لي: ما رأيك؟ قلت: حلم جميل. ولكن، حدثني عن ملكة هذه الديار، ما اسمها؟
ـــ يسمونها هنا ( تَاجْمُوتْ ). ولكنها كانت تُسمى قديما بأسماء مختلفة، فقد سماها الشنفرَى: ( أُمَّ عامر )، وسماها زهير ( أم قشعم )، وسماها الأعرابُ: ( أم مِلْدَمْ. التي تأكل اللحمَ وتشرب الدَّمْ )، وسماها خلَف الأحمر: أمَّ طَبَقْ:
( قد طَرَّقَتْ ببكرها أمُّ طَبَقْ
فأولدوها خبَراً ضخْمَ العُنُقْ
أطبقَ بالنَّحْسِ على كلِّ أُفُقْ )
وسماها المتنبي ( بنت الدهر )، وسماها المعجمُ الشعبي ( بنت الذين )، وسَمَّا... دقاتٌ متتابعة قطعتْ سردَ الأعمى، كأنها دقاتُ المسرح قبل رفع الستار.. ثم سمعنا صرخة كأنها صرخة ( محكمة ).. ولكنها كانت تعلن: ( الملكة تاجموت ).
ودخلت الملكة إلى الروضة، يتبعها موكبٌ من الخَزَنَة والزَّبانية. ولم تكن بحاجة إليهم، فهي وحدها ( بوجهٍ تَغَوَّلَ فاستغول، وشعر ( شعاعكُهُ ) مستشْزِراتٌ إلى الرَّدَى، وعينين حمراوين قانيتين كعيون الكلاب المسعورة.. وعلى رأسها المُغَوْفَل تاجٌ من العوسج يَخِزُ العيونَ قبل الجلود... هي وحدها، بهذا كله، تحمي ما حولها من الأرض حِمَى كُلَيْب بن وائل.
وقصدتني... آه يا أحبابي!! قصدتني.. فذبتُ حتى لم أعد أرى مني إلا خوفي. مدت يدَها المذراة المعقوفةَ إلى فمي، وأخذتْ تُقلِّبُ أسناني كما يُقلِّبُ الشَّنَّاقُ خروفَ العيد. ثم جسَّت ضلوعي البارزةَ، وقالت لمن حولها: ( ليس بعد. ردُّوه إلى مِذْوَدِه )، فلم أشعر إلا وأنا وحدي أمام باب شقتي المفتوح ما يزال. دخلتُ وأغلقتُ ( غَلَّقتُ ) البابَ خلفي، وأسرعتُ إلى الدوش.
( تَحَمَّمْتُ وتنَشَّفتُ ) كما يقول جبران... ولبستُ ( لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ ) كما يقول امرؤ القيس... و ( تكربعْتُ ) أمام التلفزيون، كما أقول أنا. أشعلتُه، فرأيتُ الدكتور اليوبي يتلو تقريرَه اليومي عن ضحايا كورونا. سكتَ حين رآني. تفحَّصني بعينيه الطبيبتين من وراء نظَّارته، وقال لي، من داخل شاشته ومن وراء كِمَامته،: ( ماذا جرى لك؟ ). قلتُ له:
ــ آه يا دكتور:
قد كان ما كان، ممَّا لستُ أذْكُرُهُ
فَظُنَّ خيراً، ولا تسألْ عن الخَبَرِ .

تعليقات

تحية طيبة اخي السي مصطفى معروفي
بيتان في صيغة امتداح بحق السي احمد بوزفور ، شيخ القصاصين بالمغرب كما يحلو للمتأدبين وصفه بكثير من الإكبار والفخار ، فان كان للعراق محمد خضير ، وللجزائر الطاهر وطار ، ولتونس محمود المسعدي، ولليبيا احمد ابراهيم الفقيه، ولمصر يوسف إدريس وللسودان الطيب صالح، فان للمغرب السي أحمد.. انسان متواضع حد الخجل ، طيب الى اقصى درجات الطيبوبة ، متمكن من فنه الى درجة كبيرة حتى لكأنه يدس سحرا بين طيات كلامه
 
تحية طيبة لك أخي السي المهدي نقوس:
السي أحمد بوزفور من طينة الأدباء الراسخين في الشعر ـو أتذكر أنه عندما قرأ البيتين أعلاه ـ لقد كتبتهما منذ مدة ـ قال لي بالحرف الواحد "لم أعرف أن اسمي سيكون في الشعر و أنه سينصاع للبحر الطويل" .
لقد كنت أجالسه رفقة الصديقين العزيزين محمد صوف و إدريس الملياني فكنت كما لو أنني قرأت كتابا دسما سهل المأخذ عميق الدلالة.
إنك تنظر إلى السي أحمد فترى فيه سمت الأديب و بهاء الوداعة النادرتين في كتابنا،إنه باختصار "النظر في الوجه العزيز" ،
لا أخفيك سرا إن قلت لك بأنني ما زلت أعتبر الكاتب إنما هو أخلاق في المقام الأول.
شكرا لك السي المهدي.
 
صباح الخير اخي السي مصطفى معروفي

السي أحمد بوزفور. نموذج للكاتب الذي يقرن التواضع الجم بالموهبة المكتسبة.. وان لم ينل حقه من التكريم والاعتراف. الذي لم يسع يوما ور اءه. لان الاعتراف لا يمنح بل ينتزع عنوة بفرض الذات والمثابرة بكثير من نكران الذات والاجتهاد . وعمق التجربة . وتتميز مقدرة السي أحمد في تحيين الدارجة المغرببة . واستغلال معجمها واستلهام عباراتها المستعملة وكلماتها المستعملة في الحياة والمعاملات اليومية لا على مستوى عناوين اضماماته السردية او التعابير الاسلوبية العديدة. وتلك قضية لا يستطيعها الا من يكتسب تجربة ودربة قوية على الكتابة الادبية وتكوينا عميقا في اللسانيات.
ولا نزال نذكر حينما رفض جائزة المغرب الابداع بدعوى اهمال الوزارة لحالة الكاتبة مليكة مستظرف التي عانت مع المرض. وكان اول من رعاها ولفت الأنظار لموهبتها واقترح عنوان مجموعتها القصصية وساعد على نشرها.. وهذا الاجراء لا يمكن إلا أن يزيده وقارا واجلالا وتقديرا
كل المحبة صديقي الغالي
 
أعلى