محمد أيت علو - خُلَّةٌ على عَمُود أَفْكاري...

في مثل هذا اليوم، وأنا على مكتب الأخ والصديق " عبدو" بمراكش الحمراء وقبل أن أحييه، بادرني بضحكته الرنانة، وهو يقول: " ما هذه المسافة التي ابتدعتها، يا كاتبنا" ، أم تراك عُدت؟"...
فابتسمتُ، ولم أنبس ببنت شفة...وحدثتُ نفسي بمثل ما حَدثها به يومَ ذاك... " يفقدُ الإنسان لونه ويسيطر عليه الشر، فلا بد من البحث عن وسيلة لترويضه، وإعادته مرة أخرى إلى جادته وسيرورته"...
²²²²²²²
يوم ذاك كان الزحام، وفيضان بشري يغطي الصالة، وهو الشيء الذي لم نعهده من ذي قبل في محفل ثقافي كهذا، ونحن جلوس على الأرائك الوثيرة في باحة الاستقبال بإحدى الفنادق المصنفة بالبيضاء، صحبة ثُلة منَ الكُتاب الشباب والمخضرمين ضمن الوفد الذي يستعد للذهاب إلى مصر في الأسبوع الثقافي المشترك المنظم هناك بالقاهرة...

²²²²²²²
القاهرة زخة من الجنان، زرد وهدير على العتبات، القاهرة صاحبة القبول والجاه، كم من قلب في حبك شجاه ما شجاه، من هذا الأطلس الحر الشامخ، من هذا الجبل الأشم كمجدنا، نأتيك ببضاعة مزجاة. ...يا قاهرة، حبكِ في الفؤادِ كبيرُ، وله أريجٌ طيبٌ وعبيرُ، دوحةٌ أغضانُها كعروقِنا يمتدُّ فينا عطرُها المسحورُ... والعَينُ التي تَنْعَمُ في بحبوحةِ الـجَفنَينِ...القاهرةُ المعنى الذي ظلَّ يُطِلُّ: الوردُ والـمِسْكُ، وغصنُ البانِ والشوكُ ...، وتلكَ النعمةُ السابغةُ: البسمةُ والنيلُ! ونأتيك بالحب الكبير يا قاهرةْ...
أثناء ذلك كانت الذاكرةُ تبحثُ عن أي وهم منسي أو هَم ثقافي تداعبه، تجتره، وتجره كخيبات، فينصاع عنوة، ثم أصلبه على عمود أفكاري، وتجهش به أحاسيسي فأنفثُهُ... وأبتَسم، محدقا في المدَى...:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ²²² وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.

²²²²²²²
الأصواتُ تتعالى، تقدم أحدهم ولم يكن مجبرا من رؤية كل ما يمكن أن يدفعه إلى مأزق ما، حتى لا يعير النظر دافعا للهجوم، يغمض عينيه، يظهر اللامبالاة تماما مثل الآخرين، كل مستقر داخل حالته، كأنهم منقطعون عما حولهم، لايعنيهم شيء، تقوقع تام، يغردون خارج سرب وحدتهم، يعرفون مسبقا ما ينتظرهم وما يتطلعون إليه، مشى بخطوات متثاقلة بطيئة..كان يبدو في العقد الخامس، وقد غزا الشيب مفرقه، وهو يقدم بطاقات الأعضاء يمدها إلى من لايراهم...وكان ما يجري أمامه قد وصل إلى مرحلة انفلات الأصوات، حرارة الأنفاس لم تبرد بعد، فما زالت الأصوات تتعالى، وتختلطُ وتختنقُ حينها، وكان من بين ما راعني واستوقفني غياب كاتبين اثنين كبيرين، وثلاثةُ شعراء مرموقين، فقد كنتُ أعتبرهم مثل الشمس والأرض والسماء.. في شموخهم ومجدهم وتميزهم وأنفتهم وكبريائهم وتمسكهم بهويتهم وتواضعهم...ولم أر أحدا في مثل عطائهم، فلم يكونوا يبخلون على أحد... وكان الشبابُ يجمعهمُ العُنفوانُ ورغبةٌ كبيرةٌ في تشكيل العالم بحثا عن الجديد، بدءا من الكتابة وانتهاء بالواقع....
ثم سمعنا أحدهم وهو يصعد على كرسي صائحا: "…حبدا لو أقام العرب صندوقا للثقافة لعلنا نعدل قليلا من صورتنا المشوهة..." وبدأ التصفيق... واختلطت الأصواتُ مرة أخرى... وكان من جملة ما شد انتباهي وأثار فضولي، أن كاتبا شابا قد ذهب إلى الغرفة المجاورة التي اتخذت كمكتب خاص باللجنة المشرفة على النشاط، ثم عاد إلى الصالة منكس الرأس، متدمرا صحبة كاتب صحفي، وكأن شيئا قد عكر مزاجه... كان الشاب ممتقع الوجه، قد هز رأسه بطريقة آلية بادئ الأمر ، حينما التقت عيناي بنظراته الحادة، وابتسم بتصنع، لكن نظراته هذه المرة واهنة كجسده الواهن، الألم ينبض في جسده ورأسه، وكأن السيل بدأ بقطرات..ثم صار أمواجا عاتية في ومضة برق خاطف، ثم انشقت الأرض وفتحت فيها هاوية، والارتعاب يعتصر عينيه، ليستلقي بمعطفه الثقيل على الأريكة مخفيا رأسه بين يديه، وكان في عقده الرابع فيما يبدو، إنه حي لكن...، ثم ما لبث أن لحقهما آخران وهما يلعنان ويشتمان...ولم نفهم شيئا... حتى سمعنا فنانا تشكيليا يتحدث عن أحد الكتاب المخضرمين والذي تعامل معهم بازدراء وجفاء وغرور وحسد وحقد دفين... وهو من أعضاء اللجنة، وسرعان ما طفت على السطح قضايا أخرى وفي رمشة عين وكالنار في الهشيم ...، ثم سمعنا كاتبا شابا يورد قصة دالة: " ذلك أن الشاعر الإيطالي "وفنزيو" كان مغرورا بنفسه إلى درجة التصلب في الرأي..وذات يوم وصلت إليه رسالة، وما إن قرأ العنوان حتى رفض أن يتسلمها، لأن العنوان كان كالآتي:"إلى أكبر شاعر في إيطاليا، ولما سئل عن ذلك، قال:"أنا أكبر شاعر في العالم"...ثم همس أحد الشباب في تخاذل وقد حدجنا ببصره، وأردف: إن الأقنعة لا تدوم طويلا، فسرعان ما تتلاشى، فيظهر المرء على حقيقته... ابتسمت بتصنع، ونظرت بعيدا كما جرت العادة في مثل هذه المواقف، ولم أفهم ما كان يرمي إليه..، وبصوت خفيض علق أحد المخضرمين:"أيا كان فالمرء أحيانا لا يكون سوى دورة مياه تسير على قدمين" استغربتُ كثيرا متسائلا: أما زال هذا الوباء ينخر روح بعض الكتاب على الرغم من الروح الكلية التي بدأت تحل في الفرد المعاصر..؟ والذي أومنُ به أن الذينَ تخونهم أنانيتهم لايستطيعون أن يبدأوا من جديد...وخاصة مع الآخرين، وكان مما أثارني كذلك في أحاديثهم هو أن بعضهم يربطُ بين الحياة الشخصية للأفراد وإبداعاتهم...في هذه الأثناء أخذ بعض الشباب ينسحب إلى الساحة، بجانب المسبح وهم يتابعون نقاشاتهم الحادة، ثم سمعنا مشاداة كلامية بين أعضاء اللجنة، وتعرت خلالها مجموعة من الحقائق وبودلت أثناءها اتهامات حول بعض الخروقات...لم تعد ثمة كلمات أخرى تُقال...وكانت السماء ملبدة بالغُيوم...
²²²²²²²
تقدم كاتبان وهما يحملان فنجانان يتحدثان ويرتشفان، ويحدقان في الوجوه، ثم بدا شاب غير أنه بادر بعناق آخر..عناقا ينم عن علاقة وطيدة، وإن مرحا يبدأ عنده الآن، في هذه الأثناء ظهر لي أحد النقاد المحترمين وكان يرتدي معطفا رقيقا، وهو يتطلع إلى ستائر النوافذ المغلقة وسط الصالة، كان يتطلع إلى اللافتات ويبدو أنه يقرأ أشعارا..ثم هو يطيل النظر في بعض اللوحات التشكيلية..، ثم تحرك ثلاثة إلى الصالة وليس معهم حقائب أو أمتعة..وكانت هناك شابة تومئ برأسها، يداها أمام صدرها، عيناها تشعان بالبهجة، كل من يلمحها يدرك على الفور أنها ذات وجد...ثم ظهر شاب حليق الرأس بملابسه الجلدية السوداء، سرعان ما تذكرته، كان شابا وسيما وأنيقا للغاية درس معي في السنة الأخيرة بالكلية، وقد تغيرت ملامحه كثيرا...وقد ولى وجهه إلى الزجاج ...وبجواره كهل يعتمر قبعة، ويضع فوق ركبته جهاز حاسوب ويُدونُ بعضَ الملاحظات في مذكرة صغيرة ويبدو وديعا...أما أنا فقد كنتُ مستغرقا في تجاعيد الصالة، وقد رسمتُ أملا ويمامة بالأفق...حتى التقيت صاحبا قديما فجلست بجانبه على الأريكة...وكانت أصداء المتعة سارية، وسرعان ما مالت شاعرة إلى ياقة الورود لتسوي أطرافها في المزهرية....
²²²²²²²
من اخترع المرآة، ليس ضروريا أن يكون نرجسيا، ربما اخترعها ليتشفى من الذين يتهربون من رؤية وجوههم فيها.إذا كانت المرايا تصوركم فأين ستولون وجوهكم؟ لقد هلكني البعد عنها ولم يهلكني المطر في الغابة.أنا حيث أنا، وجاري مثل جمجمة مصقولة في الصحراء، يحتمي فيها العقرب الأصفر هاربا من شروق الشمس...إن حياتنا هي تجاربنا، لكن الكاتب الحقيقي لايعلم التجارب، إنه يوقظ الإحساس بها.لم أجيء لأعلم، لكن لكي أوقظ "كما قال ميهر بابا"فكلما تعمق الوعي في فهم العالم زاد تناقضه وغرابته.
هناك من ينظر إلى الآخر نظرة "ساتورنوس" إلى أولاده، فإذا لم يجد من يفترس من صلبه أو غير صلبه يتجه إلى نفسه بالذات ليسقط في عدمية مطلقة وليضاعف قبح العالم.

²²²²²²²
ثم ما لبث أن عاد بعض الشباب الذين غادروا مقاطعين...لما ظهر على حين غرة الكاتب المخضرم من جديد على المسرح، المنتشي بجنون العظمة المصطنعة الزائفة، ثم طاشت السهام، ويُفرض الرأي الواحدُ ويَتفرد بالساحة وحده، وبدا أن الآخرين في حالة انبهار، هو الذي يُفكر ويُقرر، فماذا يَبقى؟ كم في يم الغُرور من تمساح، فاحذر يا غائص!... وهاهو يتاجر بالمبادئ والشعارات...ولسان الجزاء يناديه: "يداك أوكتا، وفوك نفخ..." وبدل أن يصحح موقفه، اتبع هواه، فلم يسدد رأيه بالتأني، ولا ضميره باليقظة...بيد أن وجهه وصوته متغيران، كان يبدو أشبه بوجه سكران وصوته يتعالى، وكأنه يستهجنهم جميعا، حتى غمرهم الضحك، هكذا أصبحنا نضحك كي لانصاب بالإحباط الأخير، فقد اختلطت علينا المشاعر، ولكي لايصبح آخر ما تبقى في روحنا من ضوء...، همس أحدهم متهكما: يبدو بأنهملم يُقدروا أهميتَه ويرشحوه للجائزة، ثم تدخل آخر بقوله: إنه لم يعجبه انتقاد بعض الشباب له في إحدى الجرائد...وها هو يصب جام غضبه على من انتقده يوما...وفجأة صرخ أحدهم في وجه آخر: أنت مجرد نكرة...لا وجود لك..أنت صانع كذب، نارا أحيانا وحطبا في أحايين كثيرة.. كان فيما يبدو منتشيا، وسرعان ما غمرته صلابة، ولم يخمن أحدٌ في أية لحظة أن الرجل يمكن أن يكون مريضا نفسيا...كان يبدو كالمعتوه، ثم عمت الفوضى الصالة، ثم إذا بشخص يلتقط بلا وعي بعض الكتب، ورمى بها بعنف صوبه، أصابت رأسه...وضحك الجميع..وهو مازال يحدق ويشتم، ارتفع صوته أكثر من ذي قبل...حتى شعر بجفاف في حلقه، حدق نحوه بصوت مرتفع نسبيا، بما يدرك بعض الحاضرين أنه كان سبا مقذعا دون شك...
وطبعا لن تكون المرة الأولى التي سيضطرون إلى أن يستلهموا فيها روح أصنام متحركة، فقد تجاهلوه رغم رعونته، ثم ما لبثت أن غطت القاعة هيستيريا ونقاشات عقيمة، تداخل فيه ما هو سياسي بما هو حزبي ونقابي وحقوقي..واختلط الحابل بالنابل...وبدا كأنهم يحكون عن زمن فيه القنافذ والثعالب والضفادع والذئاب يحتقنون ويحتقرون وإن تواجد معهم حالما صداحا بين الزهور والورود أو في الشجر...
فكيف إذا تتعايش غالبة ساحقة من الكتاب مع مثل هذه المواقف، ولا تمتلك الجرأة في إذانة ما تبصره الحواس، التي تحولت إلى مستودع قديم مليء بالإحباط والتذمر واليأس، مصاب بالاهتراء وقليل من الحلم...
الآن... قد يموت الواقفون..وكل الشعراء الحالمين الأصفياء قد يتنقلون إلى الضفة الأخرى، وقد يموتون لأنهم رقيقوا الإحساس...ولم يكن أنا يُشغلني الآنَ ما يُقال وما لايُقال...ستلفظني وستغلقني الأبوابُ ...بلا كلام.
أما اليراع فقد تفيأ منحى آخر من البوح، باقتحام الذات وانقلابها عليه في الآن نفسه...وببَسط ما شاءَ له الانفلات من الألم والكمد...
وقبل الختم وبعده، الكمد هو الكمد، وأن لاشيء تغير حتى بين بعض المثقفين، الكبر والعُجاب والحسد والتعالي والزهوُ الخَادع ... وكل ما يجري بين المثقفين وللأسف هو ما يجري في كل لقاء..وكل ما أعرفه أن كل ما يجري أشبه بالذي يجري بالكهوف المجاورة...صرتُ أدركُ أن لفظة الثقافة التي هي شديدة الصلة بحياتنا، قد تميعت بل مسخت، أو ربما نحن الذين ضخمنا معناها بشيء من الهلامية والفضاضة المائعة، أدركت الآن أن الثقافة فعلٌ وليست مصدرا، إنها قيم وارتقاء وسمو نحو إنسانية الإنسان، وعلينا أن نعبر عنها بما نقوم به ونفعله. وإلا فويل للعالم من المثقفين إذا فسدوا، ثم لملمتُ ما تبقى من شدوي وحنيني، وما تبقى من فكري وصرخة روحي، ولم أستطع أن أتطهر أو أتخلص، فقد بقي هناك شيء ما يجثم على صدري...
²²²²²²²
أخي التوأم لم تكن هوايتُه القراءة ولا الكتابة، فهو لم يخط خطا ولن يفعل...ولن يكتبَ شيئا، ولن يحكي أية قصة عن الذي يقع...، ولايستطيع أن يتبنى أي رؤية سردية، ولا أعتقد بأنه سيكتبُ سطرا على حين غرة، وهو مثلُ أبيه لم يكتب خاطرة في حياته، لو سألت زوجته لفضلت الموت على كتابة رسالة، ولا أحد يكترث، لقد بدأت القصيدة بالتشتت والضياع لهذه الأسرة الصغيرة...مرة أخرى يُقتل الطفل في أحضاني...أم الذي كان طفلا سواي، لستُ أدري..؟ وهأنذا أفتح عيني حين أفتحها على كثير ...ولكن لا أرى أحدا...، ثم اقشعر بدني ورحلت...
²²²²²²²
وفي يوم آخر لقيت شكري كانت عيناه ساهمتان وكأنهما يغوصان في مستنقع رديء، حالة من قلق الأيام والأعوام البعيدة، ترتسم في عينيه الأزقة والدروب، والصامدون على الجراح، والأطفال الضائعين، والمتاجرة في أحلام الفقراء، والحكرة، وسيرة الإنسان في المكان، وأهل الهامش من المسحوقين والتائهين والمكلومين والمهاجرين ومن مرغتهم الحياة...وحساد النجاح والكلمة، وصراع الأجيال... والرجال الذين غابوا في تراب المقابر...، والشهوة الزائفة، وجنون العظمة، والشهرة بعد الموت، ومن يدعي أنه أنقدك من الويل والموت، والتكريمات الأفاقة...، في هذه الأثناء تذكرت إحدى مواقفه المتميزة كالعادة، "فما من أحد فوق النقد" فقد رأيت أنه يصول ويجول مشرحا نصوص الجميع بمبضع العارف دون خشية من سطوة الأسماء الكبيرة، فهو ينتقد بأسلوب يلغي التبعية الفكرية والفنية دون أن ينتقص من كمية الاحترام التي يكنها لإنجازاتهم، ولم يكن يريد أن يكون محبوبا أومرهوبا بمقدار ما تشغله مسألة التعبير عن قناعاته الفكرية دون وصاية أو مصادرة..ذلك أن الكبار قبل الصغار يقعون في أخطاء كبيرة...فقد كتب "أندري جيد" ذات يوم تقريرا عن رواية "مارسيل بروست" "البحث عن الزمن الضائع" أكد فيه أنها لاتصلح للنشر، ثم ندم على ذلك الحكم بقية حياته...لذلك دخل شكري إلى النصوص التي شرح من خلالها تجربته الابداعية وفهمه لدور الابداع الأدبي، مغسولا من كافة الأحكام المسبقة...ويبدو أنه كان في هذا الوقت بالذات كمن يقرأ كل أفكاري التي أحملها وأعتقد فيها...
فقد تخلى عن جائزته مقابل مبدإ كان يسكنه، ويتمثل في رد الاعتبار للجنوب المتوسطي تضامنا مع قوارب الموت...، مؤكدا على ضرورة رد الاعتبار لساكنته...
وكأنني ما زلت أسمع صدى صوته ونحن ننزل عبر سلاليم مبنى إذاعة طنجة الجهوية، بعدما توقفنا بقاعة الانتظار ، آنذاك وكأنني أرى الشمس وهي لا تكف عن مغازلة ضفائرها الذهبية...وحين رفعت بصري إلى السماء كان كل واحد في اتجاه..
²²²²²²²
حتى صاحبي لم يعد...كان قد خرج قبل قليل...سألت لحظة الساعة المعلقة وسط الصالة، والتي توقفت عقاربها برهة ثم سألت الغد...ولم يأت.
بحثت عنه في الدروب في الأزقة والزوايا في الطوابير المتراصة في "الموقف"وفي الغابات وفي شوارع المدينة المزدحمة، في الممرات وجنب الحدائق، في الدهاليز فوق الأرض وتحتها، بحثت طويلا طويلا...في الصياح والعويل والفحيح، سألت عنه الأيام الماضية التي لم أظفر منها بشيء، وسألت عنه العائدات المقبلات التي لن أترك فيها شيء، وهذه بدايتها، سألت كل غريب ومقيم، سألت كل قادم وسائح وجائل، قيل بأنه لم يمر من هنا، سألت وسألت... وفي خاتمتها لم أظفر بجواب، لا أحد استطاع أن يكشف لي عنه، ولم يجبني إنسان، كلهم غابوا...ثم راحوا إلى المقبرة....
وتساءلتُ مرة أخرى، أواهُ...قد مات...ومات الطيبون.

²²²²²²²
في مثل ذلك اليوم....وبعد شرود طويل، حييت "عبدو" وقلت له: لعل "العودُ أحمدُ"، ثم حدجني بنظرة، وقال مغمغما: "لواه العودُ محمدُ"...ثم بدأنا نضحك ونضحك حتى غرقنا في الضحك، ربما لكي لا نصاب بالإحباط والتشتت والضياع الأخير، فقد اختلطت علينا المشاعر...
ثم أردف وهو يبحث ويقلب بعض الكتب، وكأنهُ يريدُ أن يُفاجأني بكتاب جديد ككل مرة، لاعليك يا شاعرنا، الحياةُ كلها لاتستحق، كل ما يجري شيء طبيعي، لابد من الاندفاع والمشاكسة والاختلاف...ما علينا إلا التجاوُز والتعايشُ "والله يْسَامح"...وحَيثُ هناكَ ضوء...هناك نور....ثم خرجنا نهرولُ كل في اتجاه، حتى أنني لم أكمل شرب قهوتي، فقد كان "عبدو" مسرعا للمهرجان الذي أعد مواد برنامجه منذ ثلاثة أيام، أعرف بأنه لم يأكل ولم ينم جيدا، وإني أراهُ نموذجا لذلك المثقف الحقيقي، في تميزه وكبريائه وتواضعه وعطائه، سعيدٌ ومتفائل دوما، يشتغل في الظل ويُعينُ الجميعَ في المجال الثقافي والإبداعي، وهو لايبخل على أحد...أغبطهُ على سعة صدره، وإني أراهُ الآنَ يبتسمُ ويملأ زَواياهُ سعادة....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى