محمد أيت علو - النهرُ الصامت.. قصة قصيرة

النهرُ الكبيرُ صامتٌ
في بعض الأحيان
فقط يبدو هادئا
عميقا تحتَ الجليد...

*هايكو "أمافون بودميرشون"


إحساسٌ غريبٌ انتابني.. وكان مفاجئا ومليئا بغبطة لامتناهية، ولم أستطع كبحَ جماحه، فقد سعدتُ كثيرا لهذا التتويج المستحق لأخينا وصديقنا الرائع والرائق الروائي والناقد " عبد الرحيم جيران" والذي فاز بجائزة المغرب في المجال السردي، والذي حظيَ بإجماع كبير، وأنا أدركُ بأنَّ المبدعَ الحقيقيَ لا ينتظرُ أحدا لتزكيته، وكذلك كان..، فهو مبدعٌ بحق، فقد كان يحفر مساره بمثابرة وثبات، ودأب كبيرين، قلما نجدهما عند الكثيرين، فضلا عن تواضعه وصدقه وصفاء سريرته وإنسانيته... تفسيرٌ واحدٌ وحيدٌ لكل ما أحسستُ به، إنه عطر الذكرى وسحر الزمن الجميل، إنهُ الوُد والتقديرُ الكبير الصافي من الشوائب، غير المشروط والبعيد عن المجاملة، ذلك أن الإنسانَ إذا أحبَّ شيئاً أكثرَ وكرَّرَ من ذكره، وشيء آخر وأنا أقدم هذا السفر الممتع الرائق، والتحليق الراقي، فإنني أحيي لحظات من وحي فيض الخاطر، وأصلُ وُداًّ عَزَّ نظيرُهُ مئنة برور لأخ فاضل أنيق...

²²²²²²²

انتهى قبلَ قليل السجالُ بين الأصدقاء
وبدت علامةُ الاستفهام
أما أنا فجائلٌ في المعنى
سائحٌ في أعماقي
في مونولوك داخلي
"جُل جُل، ترى المعاني، وافهمني يا فلان"
يطولُ الصمتُ
مثلما يطولُ الطريقُ طيلة القيض
وقتَ الزوال
بعد نداء بطة غواصة في الماء
اختفت الآنَ في السراب
أنا الذي كنتُ قد أطرقتُ
قبلَ قليل..
في أحايينَ كثيرة يمر بنا الأحبابُ مثلما الأصحاب والأصدقاء بطباعهم وطبائعهم، أومثل طبيعة داخل طبيعة، تلك الطبيعةُ الآسرةُ العميقةُ بأشجارها الفيحاء الغناء وأطيارها السجية بالغناء، الغابةُ الكثيفةُ الموغلة والمحفوفة بالأسرار والمغامرة... فبعضهم يمر مثل الجبال الشم الشوامخ، أو الشلالات المنهمرة كالسيول المنسابة، أومثل الأنهار المتدفقة، وكالنجوم المضيئة المتلألئة... وبعضهم يمر مثل السحاب أو البرق الخاطف، وآخرون يمرون كالأشباح أومثل أي شيء لايمر... وأحيانا أخرى قد يمرون كعناوين الكتب... وأما أخانا وصديقنا الكبير " عبدالرحيم جيران" فهو طبيعة فيحاء داخل طبيعة، بحرٌ ليس له ساحلُ، صدرٌ رحبٌ يتسعُ للجميع، متواضع، متهلل الوجه، بابتسامته العريضة، إنسانيٌّ يحبُّ الجميعَ،لم ولن أنس كلامهُ وبمزيد من الاستدعاء الدائم، " وذلك في أن يكون الإنسانُ سيد نفسه ممتلكاً مصيرهُ، وأن يصلَ إلى أن يأخذَ كفايتَهُ من الحياة، وأن يُحققَ شرطَ إنسانيته، وألا يتوقف عن الحلم، لأن الذي يتوقفُ عن الحلم، يفقد قدرتهُ على أن يستمرَّ في الحياة، وأنَّ الحُلمَ الأجملَ هو أن تَحلُم مع الآخرين، وأن ترى حُلمَهُم في حلمك، وأن تفهم أنهم يطمحونَ إلى ما تطمحُ إليه..." هنا تتجلى رؤيته المتميزة وحبه الكبير للآخرين... والطاقة الفولاذية الخلاقة الإيجابية والملهمة التي يتمتعُ بها، وإرادتهُ القوية في مشاطرة تلك الرؤى، وذلك الحلم مع وصحبةَ الآخرين " الحلمَ الأجملَ هو أن تحلُم مع الآخرين، وأن ترى حلمَهُم في حلمك" أجل، إن الحلم الحقيقي يتمثلُ في مشاطرة الآخرين هذا الحلم، حيث يتضاعفُ الإحساسُ، فالإنسانُ يكونُ بالآخرين، دونَ أنانية أوكبر، وإلا كانَ أروعَ فشل، وإن كنتُ أرى بأن الواقعُ صار لايتسعُ لأ حلامنَا، غيرَ أن الحُلمَ كما نُريدهُ يكون...

²²²²²²²
وإذا كان من طبيعة الناس أنهم لايُقَدرون إلا ما يُذهلهم وما لايَفهمونَهُ بوضوح، فإننا نقدرُ أخانا لأنَّهُ واضحٌ ومُذهلٌ، نقدرهُ على ثقته واعتداله، وبراعته المتميزة بالأناة والحذق، المتمكن من تقنياته وأدوات اشتغاله ومن مشروعه عامة، العارف بجدوى تجربته الفكرية والوجدانية، والتي تنكشف كينونتها عن انسجام كبير...بدفء ووهج الكتابة، وأيضا في خلق تصورات ورؤى لانهائية..ووعي جمالي يتسم بالفرادة والتميز، عبقرية الموقف والمغامرة المحسوبة....

²²²²²²²
في فترة ما كنتُ شابا مُفعماً بالحماس والأمل والاندفاع، وكان معظم من أعرفهم يشجعونني على المضي في إنجاز روعة الإحساس بالمجد، وبدَا لاحقا أنهُ مجردَ وهم وزيف وسراب، وكانوا هم أيضا يشتركون معي في هذا الوهم، وكان بعضهم ربما متحمسا ومندفعا... وكنتُ مندهشا لهذه السذاجة، النزوة " الفخ كما يسميها الكاتب محمد شكري" ولحسن الحظ أنها لم تطل، وأدركتُ بأنني كما لو كنتُ أبني قصوراً من الرمال، ويرجعُ الفضل في جانب من هذا المسار "للأخ الناقد عبد الرحيم جيران"، كما أذكرُ أني جئتُ مرتيل بتطوان صيفا، كان ذلك في أواخر التسعينات من القرن الماضي، وقصدتُ المقهى المفضل " شمس المحيط"، المشرف على البحر صعـدتُ عـبر السلاليم الخشبية الواسعة النظيفة جداًّ، إلى أعلى المقهى وفي الشرفة، حيث الكراسي البيضاء والبرتقالية تزيد من جمالية المكان، وتتعـدد عـبر الزجاج اللامع الذي يعكسها، ودون أن أدلف إلى الداخل، وضعتُ محفظتي الصغيرة ونسخة من كتابي الأولَ والجريدة على الطاولة، وقبل أن أتقدم إلى كرسي لأجذبه نحوي، وقـفتُ في ركن عال أتأمل،كان المقهى يـشرف على البحـر، حيث الماء الأزرق، ثـم زرقة السماء على مـد البصر، بانوراما عجيبة من الروعة والجمال بمكان، نسيج من بديع هذا الكون وهذه الحياة...، البحر منظرٌ لاَ يُوصف، أنظر إلى البحر مبتسما في ثقة مشوبة بحذر وخوف، وأقول في نفسي:" تُرى كيف ستكونُ ردوده...؟! وأنا أنتظر صديقنا " عبد الرحيم جيران" الذي سيعطيني قراءاته ومقارباته حولَ بعض النصوص، قبل الطباعة والنشر، وأنا على يقين تام بأنه لن يحابي أو يجامل، وعلى الرغم من الخوف الذي سكنني إلاَّ أنني كنتُ على يقين تام بأنها خطوةٌ مهمَّة...، كُنتُ قد عرجتُ قبل ذلك على مدينة آسفي، هُناكَ شجعني الوديع الراحل ابن خالي، ولامني على التردد الذي لازمني لسنوات، وتَم الاطمئنانُ للعُنوان أخيراً، ونفحني بمقدمة مميزة، كما أخرجني من ورطة التجنيس صُحبة الشاعر مفيد، وبعد ذلك كنتُ قد عرجتُ على مدينة شفشاون الزاهية، والتي شكلت في الماضى مكانا لتنقيح إبداعاتي، هناك التقيتُ الشاعر الكبير " عبد الكريم الطبال" وقد عرفني به الصحفي النشط والمتميز " عبد الحق بن رحمون" علما بأن الشاعر الكبير كان مؤطراً في الوقت الذي كنتُ أشتغلُ فيه أستاذا يشفشاون... والتقيتُ مع ثلة من المبدعين بمقهى " عبد الخالق الطريس"، وكلهم باركوا التجربة ودعموني هناك، وفي طنجة - ومن محاسن الصدف- وأنا أصعدُ للأعلى التقيتُ بالكاتب الكبير الرائع الراحل "محمد شكري" لأول مرة، وكان آنذاك يقدم برنامجهُ المتميز " شكري يتحدث" بمبنى إذاعة طنجة الجهوية، في قاعة الانتظار لمحنا الإذاعي النشيط " محمد بوعلو" الذي كان يشرفُ على برنامج في التربية، وطلب مني مداخلة من البحث الذي قمتُ به أنا والأستاذة الفاضلة " خديجة قرشي" زوجة المرحوم عبد النبي أغبالو الذي يشتغلُ بإذاعة " تطوان الجهوية"، اعتذرتُ وتفهم الموقف، وقدم لي تهنئة وتشجيعا بالمناسبة، ثم انتقلتُ إلى تطوان ولاقيتُ دعما كبيراً من كل الإخوة هناك، ولا سيما أستاذ التربية الكبير المرحوم " أحمد احدوثن"...، كنتُ أريد من الأخ " عبد الرحيم جيران" أن يقرأ تلك النصوص ويبدي رأيه فيها، ولا سيما أنها بمثابة مشروع جديد يتلمَّسُ الطريق بجرأة كبيرة في التجريب القصصي، كبادرة سابقة آنذاك، وكنتُ على علم تام بأنه لن يتسامح أو يتساهلَ في صرامته النقدية المبنية على أسس وقواعد مضبوطة، تميزه بهدوء شفاف يُنبيكَ عن معدن أَصيل.. كان يُطيلُ التأمُّل ولا يتسرع أبداً، أذكرُ يوما كان يترجم كتاباً للفيلسوف "نيتشه"وعقبتُ كمن يريد تغيير حديث ما بجملة من الأحكام الجاهزة، ثم تدخل وكأنه يريد أن يحسم لائما محذراً من التعسف المنهجي الذي قد يحصل، وأن مختلف الأحكام لا مبررَ لها ما لم نقرأ في الأصل، ووجدنا بعد ذلك أنَّ " نيتشه" كان يمارسُ ارتشاءً فكرياً... إنه لا يطمئن لجواب حاسم بل تجده يُديمُ النَّظَرَ والمعاودة بمبضع المدرك لآليات وتقنيات السرد، دائم المساءلة والمراجعة، يطرح الأسئلة أكثر مما يبحثُ عن الإجابات، وهو الرجلُ المحنَّكُ العارفُ بأصول وكواليس النقد، ودقته الفنية البارعة، وفوقَ ذلك لا يريدك أن تطمئن لجواب ما، ولا يريدُ منكَ أن تكونَ مقلداً، وأن تكونَ على وعي تام بما تفعل.. وتكون أنتَ كما أنت...كان انتظاري بقلق ورهبة مشوبة بحيرة تطل وتختفي، ثم أتى أخيراً وفي الموعد، كانَ يلقاكَ بوجه بشوش وبابتسامة عريضة صادقة ، لانفاق فيها ولازيف، تُحسُّ بأنها نابعة من القلب، كان يحرصُ أن يستقبل أصدقاءَهُ الخُلص بابتسامته وعناقه، كتعبير منهُ على محبتهم وتقديرهم، ومبادلتهمُ الوفاء والتقدير، ثم طلبَ قهوتهُ وبقي صامتا، كان مركزا وقد وضع نظارتهُ على تلك النصوص، تراجعت حماستي، أطرقتُ وكانَ يبتسم، لم أستطع أن أركز على شيء، وبعد صمت ضئيل، ابتسمَ وقال لقد كتبتَ نصوصا جيدة، لكن هناك ملاحظات، وأنا كنتُ أعرفُ حجمَ هذه"لكن" "أوليست حرفَ استدراك تفيدُ تعقيبَ الكلام بنفي ما يُتوَهَّمُ تبوثهُ وإثبات ما يُتَوهّمُ نفيُه"، ثم تابع أنا أقدرُ فيكَ هذا الجهد وهذه الإجادة...وقد وقع استحسانه على حوالي ثلث تلك النصوص جميعها، حنيت رأسي، وحين رفعتُ ناظري، كان يفيضُ حباًّ وطهارةً، حدجني بعينين لامعتين مبتسما، وقال كلاماً فهمتُ منهُ بألاَّ أكون عجولاً، وبأنهُ لابُدَّ للمبدع أن يَعرفَ كيفَ يعيش لكي يصير مُبدعاً، أدركتُ بأنهُ يقصدُ تلكَ النصوص التي تنتقدُ الواقعَ، ولا تنظرُ إلاَّ للجانب الفارغ من الكأس، والمهووسة بالفكرة ليسَ إلاَّ، وكنتُ أدركُ أيضا بأنهُ يُكَوّنُ عني فكرةً مفادُها أنني لم أُجرب الحياةَ بما فيه الكفاية، وبأنني في أوَّل الطريق، وأريدُ أن أختزلَ المراحل بسرعة، وبأن العودَ ما زال غضاًّ طرياً، شكرتهُ وانتقلنا إلى مواضيعَ أخرى لايزال بعضها في ذهني حتى الآن، أذكرُ أنَّ بعض الجرائد المغربية آنذاك بدأت فكرة مشروع نشر رواية على صفحاتها، كُنا قد ناقشنا بعض التيمات والمضامين، وانسحبنا...

²²²²²²²
لم يكن كغيره ممن عرفتُ وخبرتُ، فهو لا يتحرج أو يحرجك، إنما يصمتُ مبتسماً، ثم يبادرك حتى لاتحس بالثقل، كما أنَّهُ لم يكن مغروراً، ولن تحتاجَ إلى إنطاقه، أو أن تبحثَ عن وسيلة وباب أو مواضيع قريبة من قلبه لكي تُنطقَهُ، ويمكنُ أن ترتشفَ قهوتكَ التي أَمامَكَ، وأنتَ مرتاح وبلا تكلُّف، وهو مرتاح ولن يُسند ظهرهُ إلى دعامة الظهر في الكرسي، وبطريقة لبقة يتركُكَ على راحتكَ، ولن يُجاملكَ في شيء، ولو أَسند ظهرهُ إلى دعامة الظهر في الكرسي، ووضع رجلا على أُخرى قليلاً... وكلُّ الجولاتُ ناجحةً معه... هو في مخيلتي وجهٌ واحدٌ حتى الآن، شخصيةٌ هادئةٌ يكادُ أحياناً همسُها يصلُ حدَّ المونولوك الداخلي، فلم أَرهُ يوما في معركة حادة من معارك الفكر أو الأدب، لغة الاحتجاج المهذب والتحفظ الوقور، يتابع الحياة الثقافية والأدبية والفكرية، بعيد عن الشقشقات الزائفة، هدوء شفاف يُنبيكَ عن معدن صاف أصيل حواره مع ما هو عام ومجرد، سرعان ما يتحولُ إلى سؤال لا ينتهي...

²²²²²²²
ستستحملني لأفرغ وحشتي وهمومي... بداخل المقهى في الأعلى، المحاط بالزجاج والستائر الوردية، تنبعث في المكان رائحة زكية، بدا المكان هادئا نسبيا، وإن كان الوقت آخر النهار...جلستُ مسترخياً أُتابع جمالَ المساء على هذا البحر، ولا سيما لحظات الغروب،كأن الشوق المبرح يدفعني نحو البحر، مثل طائر نورس لطمته الأنواء، وألـقته فوق الصخر جانب هذا البحر، يتمتع بقلب قنوع يفيضُ جواهرا، هنا أنسى الناس والبهرجة، أختلي بنفسي في فضاء بعيد عن الزحام ، وأنغمس في كتابة حياتية أتأملُ وأسوق الأفكار من أجل كون مضيئ ساحر...، أنعشه وأتلذَّذُ به كثيراً في لحظات شروذ...وأرحل إلى ذكريات ووجوه وأمكنة ومدن لاحد لها، ثم أرحل إلى مآسي الأرض، يأخذني الترحال إلى حوادث وحكايات البشر... وكارتجاج صدى في بئر تتلاحق الأفكـار اتباعا في دواخلي، مَوْجَاتٌ كهربائية في جـسدي، أسترجع الأيام الخوالي فتغـزوني بذكريات لاتشبهني، كمن يعجز عن الإلتصاق بأي شيء جميل، أستعين بالحلم والخيال، نحو صفاء الأشـياء واخـتلاجاتها الأولى، أسافـر في الكلمات كما أُسافرُ في كل الأرجاء والأمكنة، في سفر جميل ممتع لاينتهي... وكانَ آخر يوم لي بتطوان، قبلَ السفر مرة أُخرى إلى طنجة... وكنتُ أودُّ الاستمرارَ وألاَّ أكونَ تحتَ وصاية أحد... وأن يكونَ قلمي أنا، ولا يهم أي شيء بعد، أنصتُ لأنقح، ولم أكن أُريدُ تزكية من أحد.. وأن أتمتع بحرية كاملة، وكذلكَ كان.

²²²²²²²
لقد كانَت رواية «الحَجر والبِركة» للروائي المغربي عبد الرحيم جيران الرواية الثالثة بعد «عصا البيلياردو»، و«كرة الثلج»، وهي تعبر عن نقلة نوعية في التجربة الروائية للكاتب، رؤية وشكلا وأسلوبا، مع الحرص على تمثيل المبادئ الجمالية التي تكمن خلف روائية أعماله.
ويكاد موضوع الرواية يدور إجمالا حول الانفصام التاريخي للشخصية العربية، ويمثل لهذا الموضوع من خلال ممكنات السيرة الذاتية. ويكمن في الواجهة الخلفية للموضوع تمثيل التاريخ المغربي منذ 1950 حتى 2011، ويستهدف هذا التمثيل تاريخ العيش والحياة لا التاريخ السياسي؛ كما أن تمثيل حياة الشخصية الرئيسة لا يتم انطلاقا من التركيز على لحظاتها الخاصة، وإنما يتم بواسطة حكي الحياة من خلال حكي حيوات الآخرين، الذين شاطروا الشخصية أهم محطات الحياة. نقرأ من ظهر الغلاف: « فلم يكن من ملاذ سوى ما تبسطه أمامك كازابلانكا من أمكنة، هربت إليها ضاجّا من نفسك، قبل أيّ شيء آخر، لم تكن الألسنة حول أمّك هي التي تُطاردك هذه المرّة، بل شيءٌ آخر غامض، لا هيئةَ له، ولا ظلَّ، تستشعر وجوده، تلمسه في خفقة قلبك، وفي تردّد خطواتك، لكن لا تعرف ما هو، كنت تشعر- وأنت تذرع الشوارع، والساحات، والحدائق- أن المكان ليس هو المكان، كان يُنكرك، كان يتسلّل إلى عينيك مائعا، من غير أبعاد، أو صلابة، لا نستطيع القول إنّك كنت لا تحسّ بالانتماء إليه، وإنّما بالتوه، عدم الانتماء قريب من الغربة ينزع منك ألفة الأشياء، أمّا التوه فله خصلة أن يمنحك الشعور بالضياع في عالم تعرفه حقّ المعرفة..»، ومن الملاحظات المستعذبة أن لكل كتاب من كتبه نكهة خاصة وغير متوقعة بدءا من العناوين وانتهاء بمشارب الثقافة والفكر والفلسفة، وبقية الأجناس الأدبية، وهذا ما سيكتشفه المبحرون معه في كتبه المتميزة....

²²²²²²²
على أن الكاتب " عبد الرحيم جيران" لم يكن يحصر ممارسته الكتابية في مجال النقد فحسب، بل أنتج أيضا في مجال الإبداع بدءا من الشعر والقصة القصيرة والرواية... وهذا التعدد في التكوين والممارسة الإبداعية مكنه بشكل جلي من أن يُكوِّن خبرة كبيرة بالنصوص، فالناقد الذي يمارس الإبداع يكون أكثر قدرة على النفاذ إلى أسراره. كما أن المبدع الذي يكون على قدر من الإلمام بمشكلات النقد، يكون أكثر قدرة على الإنصات إلى روح العصر، لأنه يستطيع فهم تشكل الإبداع، وتكون ملامحه الكبرى، ومن ثمة يستطيع موضعة فعل الكتابة قياسا إلى التحولات الحادثة في هذا الصدد...كما أن ما يميز أيضا الكتابة هو هذا التنويع الجديد في الكتابة السردية عند الكاتب " عبد الرحيم جيران"، دليلا على رغبته الأكيدة في إثبات قدرته على تطويع السرد القصصي كي يستجيب إلى الأسئلة الفلسفية تجاه الوجود، وتعاطي العالم في التباساته. وهو في هذا يخلص لتوجهه العام في الكتابة، والذي يلح فيه على ضرورة إقامة الإبداع على المعرفة. وفقاً لما راكمه من تجربة مخصوصة في الرؤية إلى الذات والطبيعة والعالم. إنّ ما لفت انتباهي في هو ذلك الوعي الحادّ والمبكِّر بالعالم الذي كانت تكتبه الأنا بدون أن تسقط في شرك الإيديولوجيا التي كانت متفشّية بين أبناء جيله لدواعٍ سياسية واجتماعية، وهو بحق بداية تشكُّل وعي جماليٍّ جديد داخل تجربته الخاصة.

²²²²²²²
يبقى " د. عبد الرحيم جيران" من المثقفين الأفداد والهامات الشوامخ، فهو ليس كغيره من الكتاب، وإني كنتُ دوماً أعدهُ من طينة المرحوم محمد عابد الجابري والمفكر الكاتب عبد الله العروي أمد اللهُ في عمره...في البحث والاستمرار، وفي التوهج والفكر والمعرفة والثقافة، لما راكمه من تجارب.. وكأنهُ يقولُ بلسان الحال فإني أنا الطائرُ المحكي، والآخَرُ الصدى...


²²²²²²²
واليوم وفي لجة هذا الإبحار والسفر الممتع الرائق، لايفوتنا في هذه الفرصة المواتية، ونحنُ نحتفلُ بتتويج صديقنا الغالي بجائزة المغرب في مجال السرد، أن نشكر السيدة حرمه التي آمنت بعبقريته، وكانت سنداً قويا له، فباسمها نحيي جميع سيدات هذا الوطن على تضحياتهن، لنؤكد مرة أخرى على أن وراء كل عظيم امرأة عظيمة... وفي غمرة هذا التحليق التلقائي الجميل، فإني أُحيي لحظات من وحي فيض الخاطر، وأَصلُ وُداًّ عَزَّ نظيرهُ، مئنَّةَ برور وعرفان لأخ فاضل ما يزالُ يُحَافظُ على أناقة التحليق، حيثُ يُرَفرفُ عالياً، بأجنحة ذهب الثقافة والمعرفة الحقيقيين. فطوبى لنا بك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى