نضال البيابي - قل أنا امرأة!..

يمكن للمعرفة أن تكون أداة تحرر ولكنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون أداة سيطرة، خاصة عندما تصبح مرتبطة بالغايات والأهداف السياسية والاجتماعية القمعية التي تتوخى الهيمنة. عقل التنوير لم يعد تنويرياً، الذي كان هدفه تحرير الإنسان من الأساطير، أصبح هو نفسه أسطورة تخفي الهيمنة ودوافع المهيمنين. هذا ما أكدّه هوركهايمر في كتابه (بدايات فلسفة التاريخ البروجوازية). فالمجتمعات المعاصرة - وفقاً لهوركهايمر- أصبحت تعتمد على ابتكار وسائل جديدة للإنتاج لا من أجل بلوغ مستوى صحيٍّ معيّن فحسب، وإنما لسيطرة بعض الفئات على الأخرى. فالسيطرة أصبحت تعتمد على "العقلانية" التي بشّر بها فلاسفة ومفكرو التنوير، ولكن لم تعد لغايات تحررية. هذا النمط من العقلانية الذي سمّاه فلاسفة مدرسة فرانكفورت بالعقلانية الأداتية أو العقل الأداتي. وبهذا تحوّل الإنسان نفسه إلى أداة أو شيء. ويرى ماركوز في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"، بأنّ المجتمعات المتقدمة صناعياً بدت وكأنها قادرة على الحيلولة دون أي تغيير اجتماعي أو ظهور نمط جديد للحياة أو مؤسسات مختلفة اختلافاً جوهرياً عن النظام السائد، بل أنها تضع باستمرار العراقيل أمام أي محاولة للتغيير الاجتماعي. ومن هنا يضطر بعض الأفراد إلى كبح أي نزعات "شاذة" قد تؤثر على تكيّفهم مع ما هو سائد و "طبيعي". وقد يبالغ بعض المضطهدين في مقاومة كل محاولة لتغيير الوضع القائم، معتقدين أن التغيير هو ضد مصالحهم لا ضد مصالح القوى المهيمنة عليهم. ويدخل ضمن هذا الإطار من الهيمنة بقايا ورواسب الفكر البطريركي الذي يعاد إنتاجه باستمرار من خلال السينما، والأغاني، والخطاب الديني، والخطاب الذي يتخفّى وراء "العلمية" كبعض نظريات التحليل النفسي وبعض الكلاسيكات اليسارية، وثقافة تسليع المرأة وابتذالها في هوليوود، والخطاب السياسي المحافظ، وكذلك ثقافة البورنو، كل ذلك يساهم بدرجات متباينة في تعزيز ما يسمى اعتباطاً "طبائع فطرية للذكورة والأنوثة". هو ما عبرت عنه فرجينيا وولف بالسلطة التنويمية للهيمنة التي حوّلت النساء إلى كائنات ناقصة وأشياء تُستهلك.
ذكر عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه "الهيمنة الذكورية" أن بعض المهيمن عليهن يتبنّين وجهة نظر المهيمنين ومقولاتهم لينتهي الأمر إلى نوع من تبخيس الذات وتحقيرها. والعنف الثقافي هو من باب العنف الرمزي كما يقول بورديو، اللا مرئي حتى بالنسبة إلى بعض ضحاياه، إذ تشترك الضحية والجلاد في نفس التصورات عن العالم ونفس المقولات التصنيفية، ويعتبرا معاً بُنى الهيمنة من المسلّمات والثوابت. وفي دراسة لإفلين غودنو عن صور الجنسين في مختلف وسائل الإعلام، تضمّنت استفتاءً للأمهات والآباء، وصِفت النساء بأنهن مقارنة مع الرجال: غير مباشرات، غير منطقيات، أكثر إطناباً، ماكرات، مخادعات، أما الرجال فقد وصفوا بأنهم: تحليليون، دقيقون، تجريديون ومباشرون. تخبرنا هذه الدراسة عن الأفكار النمطية التي يتعامل معها الذكور على كونها مسلّمات لا تقبل الدحض. فهم يتمتعون بتوازن عاطفي في حالات الأزمات (وهذه الصور النمطية عن عقلانية الرجل مستفزة جدًّا لفرويد)، ويسترشدون في أفعالهم بالوقائع الموضوعية أكثر مما يسترشدون بالمشاعر اللا عقلانية، ولا تؤثر فيهم التوافه وسفاسف الأمور.
أما المرأة فهي خاضعة، مقلّدة، سهلة التأثر، أقل موضوعية، تتحكّم فيها عواطفها. وتكاد تتفق معظم النسويات على أن الفكر الذكوري متجذر في البنيات اللا شعورية والاجتماعية في مجمل المجتمعات المعاصرة، وما الاختلاف والتفاوت إلا في الدرجة لا في النوع.
في الصين مثلاً، شهدت منظمة غير حكومية مقرها بكين مُكرَّسة لمكافحة العنف ضد المرأة، زيادة في المكالمات على الخط الساخن منذ أوائل فبراير الماضي، عندما أغلقت الحكومة مدناً في مركز تفشي الفيروس. وفي لبنان صرّحت قوى الأمن أن الخط الساخن المخصّص لتلقي شكاوى العنف الأسري شهد ارتفاعاً في عدد الاتصالات التي وصلته بنسبة مئة في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وارتفعت حالات العنف الأسري في فرنسا بأكثر من ثلاثين في المئة خلال أسبوع واحد، مما دفع السلطات إلى الإعلان عن سلسلة من الإجراءات لمساعدة النساء على التبليغ عن تعرّضهن للعنف وإيوائهن. وفي إسبانيا تلقّت خطوط الطوارئ مكالمات أكثر من 18 % في الأسبوعين الأولين من الإغلاق القسري مقارنة بالفترة نفسها من الشهر السابق. وفي فرنسا أفادت الشرطة بأنه حدث ارتفاع وتيرة العنف المنزلي بنحو 30 بالمئة. وفي إيطاليا شهدت تقارير العنف المنزلي ارتفاعاً بعد وقت قصير من انتشار الفيروس، ولم يكن هناك مكان تلجأ إليه النساء اليائسات. فالملاجئ لم تستطع مساعدتهن لأن خطر العدوى كان كبيراً. وبريطانيا أيضاً شهدت ارتفاعاً مشابهاً.
أما في أمريكا،، حتى قبل الوباء؛ فقد أظهرت الأبحاث أن امرأة من كل أربع نساء أمريكيات ورجلاً من كل سبعة رجال أمريكيين تعرضوا لنوع شديد من أنواع العنف. بما في ذلك الركل والخنق أو الحروق عن قصد على يد شريك حميم. وقبل انتشار فيروس كورونا، 31 % من النساء الأمريكيات يتعرضن للعنف الأسري، وعلى الأرجح أكثر من ذلك لأن معظم الحالات لا يتم الإبلاغ عنها كما يحدث في العالم العربي. وتذكر مادلين كارليس في مقال لها عام 2019 في مجلة التايم "لماذا العنف الأسري يقتل الكثير من النساء والأطفال في أمريكا" بأن ما يقارب من مليون امرأة في أمريكا تعرضت لإطلاق نار من قِبل شريك حميم أو زوج. صحيح أنه قد تختلف أسباب ودوافع تعنيف النساء وقتلهن بين المجتمعات الغربية وغير الغربية؛ ولكن النتيجة في نهاية المطاف واحدة، كما أشارت إلى ذلك شارون أراجي في مقالها حول العنف في المجتمعات الغربية وغير الغربية، فالفروقات تكمن في أنه " في المجتمعات الغربية، الزوج أو الشريك الحميم الذكر هو الذي يطبّق جملة من الأفعال العدائية ضد المرأة بما فيها القتل، فيما تقع مسؤولية أعمال العقاب في المجتمعات التقليدية على العائلة البيولوجية للمرأة".
كذلك ثقافة البورنو السوقيّة وثقافة هوليوود الشعبيّة قد تحرض على ارتكاب جرائم جنسية، تحت مفهوم "حينما تقول المرأة لا فإنها تعني نعم". فأفلام البورنو تحوّل الجنس والرغبة الجنسية إلى عملية استعراضية سادية شبقيّة، فتبدو "حقيقيّة" أكثر مما هي عليه في الواقع، ومن هنا تكمن خطورتها في تشكيل وعي المدمنين عليها. ثقافة البورنو ليست إلا انعكاساً عصرياً لثقافة ذكورية تاريخية تتمثل في ثقافة السبي والاستعباد الجنسيّ للمرأة. وهذه الثقافة تجعل كل شيء مع المرأة مباحاً، بسبب "طبيعتها" المازوشيّة، فهي تتلذذ بالألم والإهانة، وتعشق الرجل الذي يُخضعها. وهكذا تُسقط هلوسات الذكوريّ المريض على المرأة باعتبارها انعكاساً لطبيعتها بيولوجياً ونفسياً مع تجاهل المؤسسات الاجتماعية (الدولة والدين والعائلة) التي أنتجت ومن ثم عززت استمرارية هذه المفاهيم المرضيّة. ولذلك لا ينبغي أن نتفاجأ حينما يلقى اللوم على الضحية. فهي إن استسلمت قلنا كان عليها أن تقاوم. وإذا قاومت وتعرضت لقسوة أشد في حالات الاغتصاب قلنا كان ينبغي أن تجاريه. وإذا تعرضت لعنف في العلاقات الزوجية قلنا إنها مسؤولة عن اختيار هذا "الساديّ" وعليه ينبغي أن تتحمل نتائج اختيارها السيء. الضحية مُلامة في كل الأحوال، وبعض البيئات الاجتماعية للأسف الشديد تتعامل مع كل تجربة عنف على أنه فشل شخصي للضحية، متجاهلين حقيقة وجود ما يكفي من هؤلاء الرجال في بيئاتنا الاجتماعية ومن الصعوبة أن لا تتعثر بأحدهم.
كما أن لوسائل الإعلام تأثيراً واضحاً في سيكولوجية الرجال "العقلانيين" والنساء "العاطفيات" على حد سواء، فتشعر بعض النساء أنهن لسن جميلات بما يكفي قياساً بنجمات البوتكس ونجمات الإغراء والسينما بأجسادهن المنحوتة كتمثال من تماثيل مايكل أنجلو بينما تتحفز شبقية الرجال حد الهوس إزاء أوهام الأجساد المثالية. ولا أعرف ثقافة أو مجتمعاً معاصراً لم يتأثر بشيء من هذا القصف الإعلامي، الذي يعزز من عقد النقص فيما يتعلق بمظهر الجسد. ولقد تنبهت بعض الحركات النسوية وبعض الرائدات في النشاط النسوي مبكراً لخطورة السينما عندما تكون أداة رئيسة لنشر الأساطير الذكورية والثقافية وتأبيدها. مثلا سيمون دي بوفوار في كتابها "الجنس الثاني" تقول:" إنه من خلال هذه الأساطير التي نجدها في الأديان والتقاليد واللغة والحكايات والأغاني والأفلام نستطيع تفسير وجودنا المادي كرجال ونساء". وفي عام 1972 نشر العدد الأول من مجلة "المرأة والسينما" وهي مجلة أمريكية جاء صدورها بعد عامين تقريبا من نشر "السياسات القائمة على التحيز للرجل" لكيت ميليت و"جدلية الجنس" لشولاميث فايرستون و"المرأة المخصيّة" لجيرمين جرير، ومجموعة مقالات "أختيّة النساء قوة" لروبن مورغن، وذكر في افتتاحية العدد الأول: "إن النساء في هذه المجلة باعتبارهن جزءاً من الحركة النسائية يدركن ما تتعرض له المرأة من قمع سياسي ونفسي واجتماعي واقتصادي. والنضال لا بد أن يكون على كافة الجبهات، وسوف نناضل في مجال صورة المرأة في السينما، ودورها في صناعة السينما، أي الطرق التي تتعرض من خلالها للاستغلال وكيفية تغيير المواقف المشينة التي تنتقص من قدر المرأة والتي تتبناها الطبقة الحاكمة وعملاؤها الرجال تجاه المرأة وغيرها من المقموعين".
وإذا كان النموذج المحتذى أو الأنا الأعلى لأي مجتمع ذكورياً، فليس من المعقول أن نتوقع من من المتماهين مع المثال الأعلى أن يكونوا "نسويين" أو مناضلين ضد مصالح الطبقات المهيمنة. وللتفاوت الطبقي أيضاً وما يولده من إحباط وحقد بين الطبقات المهمشة دورٌ في إزاحة عدوان الهامشي من الطبقات المهيمنة إلى المرأة واتخاذه طابعاً جنسيا طبقياً. مثلا في رواية نجيب محفوظ "بداية ونهاية" يصف البطل حسنين مشاعره ورغباته إزاء فتاة من الطبقة الارستقراطية:"هذه امرأة إذا ركبتها فقد ركبت طبقة بأسرها" فإحساس حسنين بالدونيّة إزاء الطبقة الارستقراطية ومزاياها الاجتماعية والاقتصادية؛ لم يزده إلا تشبثاً بفحولته. وكأنه من خلال الفعل الجنسي مع فتاة ارستقراطية سيصبح فوقهم ويغير الواقع الطبقي ولو على الصعيد النفسي. لأن الجنس هنا يُنظر إليه على أنه شكل من أشكال الهيمنة والفتح والاستيلاء والتملك والظفر.
حتى التظاهر بالرعشة الجنسية ليس بريئاً حسبما ترى كاترين كينون، فهو يعد إثباتاً مثالياً لسلطة الذكورة على جعل التفاعل بين الجنسين مطابقاً لرؤية الرجال الذين ينتظرون من الرعشة الجنسية دليلاً على رجولتهم أو فحولتهم. وإذا أردت أن تحط من "كرامة" أي رجل يستبطن شيئاَ من القيم الذكورية فقل إنه "امرأة". الشتيمة الأكثر تحقيراً وإهانة. في هذا السياق ينبغي أن نستحضر ما ذكره جلال أمين في كتابه "مصر في مفترق طرق" يقول أمين: من ضمن وسائل تعذيب المسجونين في مصر تلك الوسيلة التي يأتون فيها بالمسجون السياسي، ويأتون له بجندي من جنود السجن ضخام الجثة مفتولي العضلات، وهو يحمل في يده سوطاً أو عصا غليظة، وإذا بهذا الجندي يأمر المسجون أن يهتف بأعلى صوته "قل أنا امرأة"!

وللحديث تتمة.

نضال البيابي
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى