محمد غندور - طقوس الحزن العفوية

الواحدة بعد منتصف الليل، اقف امام منزلي المهدَّم. مسافة طويلة قطعتها لأصل بعد القرار الموقَّر. العتمة تلف المكان، والروائح النتنة تتصاعد على شكل غيوم حُبلى بالموت. الحيُّ مريض، ينزف ، انظر بدهشة واحاول التركيز، لكن قدسية الظلام تمنع نظري من التوغل. سأمضي الليلة خارج الحي عند احد الاصدقاء. القرية خالية لا اصوات ولا عواء للكلاب، ولا اي ضوء، لا دلالة على الحياة في القرية، ترى هل استشهدت القرية؟ مستحيل لأن القرية لا تستشهد، بل سكانها، اما هي فتبقى تستقبل وتُشيِّع وتفتح حجرها للقذائف والصواريخ من دون ملل.ارقد في فرشتي وكأني ميِّت عاجز عن التفكير او التخيُّل، كيف نجت عائلتي من موت محتَّم؟ ماذا حدث حينها، المشهد غير واضح، انا بحاجة مآسة لإنجاب صراخ تجمَّع خلال شهر. تبَّا لهذا الطيَّار الإسرائيلي، كنت سأقتله لو اصاب عائلتي اي مكروه، ولكن كيف لي ان اعرف من هو؟ او من اين؟ كيف سأجده، وفي حال عرفته، كيف اقتله بطائرتي المقاتلة، ام بالبارجة على الشاطئ!! كلها سخافات إذْ بإستطاعته قتل عائلتي وجيراني واحبابي وتدمير القرية من دون ان المس شعرة واحدة منه.
يا الله ما هذا البرغش، اشعر به يسحبني من فراشي، غاراته المتواصلة علي، انهكت جلدي ودمرت جسور النوم والطاقة. هل هذا اشتياق للدم البشري ام انه عقاب لمغادرتي قريتي قبل الحرب. اريد ان ارى ما اصاب المنزل، ماذا تهدم، هل هناك آثار دماء، ما بقي منه. في طريق العودة شاهدت دمارا وخرابا كبيرا الا ان الدمار والخراب الذي يخصني مختلف، دمار الذكريات وخراب الطفولة النائمة.
السادسة صباحا، أرتدي سروالي من دون ان اغسل وجهي وانطلق. لست معتادا على ان لا اغسل وجهي، ماعلينا، في الحرب كل شيئ مسموح. لا احد على الطريق، قمامة في كل مكان، بيوت تُلامس الارض، أخرى تقبِّلها، منازل تتكئ على حافة الطريق. كلاب ميتة. الان فهمت اختفاء العواء. انا على طريق المنزل. اتغندر في مشيتي، أجُّر شنطتي السوداء الكبيرة المليئة بالملابس المتسخة بعد اسبوع متعب في العاصمة، تلمحني كوكو ولولو إخوتي التوأم من بعيد، يتسابقون لإستقبالي، يركضون ويقفزون سوية، اغمرهم وأشد، "اشتقنالك". ماذا اكتب؟ لا احد في المنزل والطريق خاوية، لم كل هذه الهلوسة، ولكن هذا ما يحصل عادة بعد رجوعي من بيروت.
اقف في وسط الحي، منزلي مدمر، ومنزل ابو محمد، وابو حسن، وابو حسين وابو علي. الحي عبارة عن خرابة كبيرة. الطريق مقطوعة ، الركام يسدها. اصعد الدرج، باب المنزل مفتوح، ولكني اقرع على الباب، وكأنه ليس منزلي. ادخل، دمعة بدأت تتحضَّر للأنطلاق. هنا كانت تقف امي لتحضِّر لي وجبة طيبة بعد عودتي، لا مكان لتقف. هنا كنا نجتمع ونشاهد مباريات كأس العالم، لا مكان لنجلس، هنا تنام كوكو ولولو، لا مكان للنوم. هنا امارس بعض عادتي لا مكان للممارسة. صحون، ملاعق، صور، ملابس، قرآن، الف ليلة وليلة، كتل باطونية تغطي الارض. كيف ستمسح امي البلاط؟ اشعر بدوار مخيف، افتش عن حبة lodanap افتح البراد، الرائحة نتنة، دود وحشرات تغلي داخلها. انسى وجعي. دمعتي ما زالت على درجة عالية من التأهب، اسند ظهري الى حائط اخاف ان يقع فأبتعد، ادخل غرفة الجلوس اتسطَّح على الاريكة الممزقة. احاول ان اتخيل رواية والدي عما حصل. النعاس انهكني، والدمعة انزلقت من عيني واستقرت الى جانبي على الاريكة. الروائح وآثار الدماء التي نزفها أخي حين اصيب تعاونت على اخمادي.الاريكة تطردني، تعاتبني على الرغم من اشتياقها، فما ان تمددت حتى غمرتني بحطامها وبقاياها وغفيت. ابي، امي والجيران يشربون القهوة في الصباح الباكر، القهوة ساخنة يتصاعد منها البخار وكذلك الصاروخ الذي سقط فجأة على الحي ودمَّره، امي تصرخ "ولادي، ولادي"، ابي مذهول من قوة الانفجار لا يسمع بأذنيه، الشمس مشرقة لكن الظلام حل، مشهد سوداوي، الحجارة تتساقط من السماء، امي تركض صوب الملجأ، ابي مازال واقفا، اخوتي يصرخون، ابو حسن يطلب النجدة، يفتش بين الركام على أمه التي سقط الحائط عليها وهي نائمة، يخرجها مضرجة بالدماء، امي تنده ابني مصاب "تعوا ساعدوني" ، ينزف الدم من رأس أخي، كوكو ولولو ينتحبون، يمارسون طقوس الحزن بعفوية الصغار، يتجه احد المقاتلين المتواجدين في الحي ويأخذ اخي الى المستشفى، ابي صامت لا يتحرك، تبا افعل شيئا ما، فجأة ينفض جسمه ويهم بالركض يطمئن على العائلة، ويذهب للمساعدة في رفع الانقاض، يبحث كمجنون عن حياة ما تحت الركام. يد صغيرة ممدودة يلمحها والدي بين الحجارة، ينقض على الكتل الباطونية، يفقد اعصابه، يبعد الحجارة عنها، يقتلع الحديد، من اين اتت كل هذه القوة لوالدي العجوز، يُخرج الفتاة الصغيرة، انها زينب بنت الجيران، عمرها سنتين، مصدومة تبكي من دون ان تعرف معنى هذا الفعل، بات شعرها احمرمن الدماء ووجهها اسود من الغبار وجسدها يبكي دماء. غمرها والدي برفق ووضعها في الاسعاف، غادرت زينب الحي يتيمة، فقدت اباها وامها واخاها. كوكو ولولو مازلتا تصرخان صدمة نفسية رهيبة لطفولة كانت تحلم بفراشة ووردة وحقل واسع للعب. قبل لحظات كان الحي تدب الحياة فيه، القهوة مازالت ساخنة ولكن من سيشربها؟
يد صغيرة، طريَّة، حنونة يقتلها الاشتياق تمتد لتوقظني، افتح عيني، صغيرتاي، التوأم، اغمرهما واشد، يبكيان "اشتقنالك كتير"، تستيقظ الدمعة التي غفت الى جانبي، يعجبها المشهد عائلة تجتمع بعد ان فرقتها الحرب، مشهد حزين ولكن مفرح، تحاول الدمعة ان تبكي من شدة تأثرها المفرط، اغمِزُها فتفهم ان لا مكان لها بيننا، اللحظة مؤثرة، تغادر الدمعة متمنية ان تعود الى عيني، ولكنها تلمح سيلا من الدموع يتدحرج من الاريكة يتجه صوبها.....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى