إبراهيم توتونجي - حين مصّ شفتيه.. قصة قصيرة

قرر أنه سيقتلهم جميعاً، الوزير وتوم كروز والآغا وجنيفير آنيستون وزميله "التافه" وجارته المومس وفتاة "محطة الوقود"، في آخر أربعة أيام ونصف. الأيام الإضافية. تلك التي كان قد ادخرها، بجهد فائق، خلال حياته الدنيا، بانتظار حلول "يومه الأسود". يوم الموت.
بدأ كل شيء بحلم متكرر. ثم بتلك الشرارة التي دفقت الى دماغه في يوم بارد من شهر كانون الثاني 2006. جلس الى مكتبه في الجريدة. مصّ شفتيه وعضّ عليهما كأنه يتأسفّ. تلك الحركة التي لا ينسى أن يقوم بها صباح كل يوم، منذ ثلاث سنوات. منذ أن تأكّد، بشكل قاطع، أنه يرتعب من فكرة الموت، ويجعله احتمال فنائه بين لحظة وأخرى، كشعرة ميّتة تسقط من الجسد على حافة مرحاض متسخة، يرتجف هلعاً. كان يعضّ على شفتيه كلّما انتبه أن يوماً نفق من رصيده وبقي لديه حياة يجهل مداها، لكنه يعرف تماماً أنها ستكون حياة إلا يوم.
الروزنامة على "ديسكتوب" حاسوبه تحضّره لذلك الفناء. قام، بحركة عصبية، بطرد ذبابة عالقة على دبق خلفته وجبة الدجاج التي أكلها في اليوم السابق، قبل تسع عشرة ساعة مضت. فنيت. حفّ الدبق ومسحه بمنديل مبلل بماء و"ديتول". قلّب أوراق الصحيفة من الخلف. لفته خبر صغير منشور في أعلى الوسط: "يعادل الوقت الذي يصرفه الإنسان بترميش عينيه، طوال حياته، تسعة أيام كاملة". قرأ هذا السطر ست مرات. أحاطه بدائرة حبر ناشف خضراء، ثم استخدم شفرة صفراء لقصّ الخبر. علّق القصاصة الى جانب صورة سعاد حسني المثبتة على طرف مكتبه، منذ موتها الأول قبل أكثر من ثلاث سنوات، وظل يتأمله طوال النهار. أخيرا، دفقت الشرارة: "من الآن، سأتوقّف عن الترميش". وهكذا كان. بعد ذلك، سيمضي الرجل حياته من دون أن يرمش مرة واحدة.
في يوم بارد من شهر كانون الثاني العام 2030، جاءته لحظة الفناء. ابتسم بخبث. قام من سريره متكاسلاً. كان مندوب القيامة ينتظره على حافة النافذة التي كستها أنفاس المدفأة بسائل الدبق. الدبق الذي أكثر ما يتشاءم منه. المندوب ينظر في ساعة متدلية من عنقه، ويتأفف:" هيا يا أخي، لدينا أشغال". "انتظر أيها الفظ، سأريك ما يدهشك". أخرج من الخزانة مجلّداً ضخماً، جمع فيه، على مدى السنوات العشرين الماضية، توقيعات يومية انتزعها من ملاك النوم تثبت أنه قضى نصف حياته من دون ولا رمشة، وبالتالي فهو يستحق دقائق "إكسترا" تضاف الى رصيده. في النهاية، بلغ مجموع مدخراته أربع أيام ونصف. ولأن ملاك النوم لا يتعامل بغير الخدمات الإسلامية، لم تلاحظ الوثائق إضافة أي فائدة تذكر. أربعة أيام ونصف بالتمام والكمال. فقط. إدخار بسيط، لكنّه يرضيه ويعطيه الفرصة لتحقيق حلمه المتكرر الذي رافقه كل ليلة في حياته السابقة، الجاهزة الآن للفناء: "في حديقة خضراء، يختبئ وراء جذع شجرة متبرعم. يقنّع وجهه بقماشة سوداء مفرّغة عند العينين. يقفل عيناً ويفتح الأخرى. يصوّب كقنّاص ماهر، ويصطاد ضحاياه الذين يتساقطون كقصاصات جريدة مصفرة تنسلخ عن الحائط. يضع البندقية أرضاً، يمصّ شفتيه ويعضّ عليهما. يلعق دما". كان يستفيق من هذا الحلم تملؤه رغبة كاملة بالقتل. رغبة غريزية تدغدغه.
"لم نتفق على ذلك"، قال المندوب.
"كل شيء موثّق، كما أن موظفا من شركتكم وقّع على الأوراق"، ردّ الرجل.
"ملاك النوم الذي تقصده احترق ليلة أمس، في حادثة شاحنة على طريق المصنع، على الحدود السورية اللبنانية. هذا يعني أنه لن يكون بوسعنا استجوابه للتأكد من مصداقية التواقيع".
"ابحث في خزائنكم فوق، لا بد أنه كان يحتفظ بـ(كوبي) في مكان ما".
"لا أعدك خيراً، هناك الكثير من الفوضى فوق. التحضيرات قائمة على قدم وساق لاستضافة مؤتمر حول سلاح حزب الله. لكنني سأتأكد. على أي حال، لن يكون بمقدوري العودة اليوم، فلديّ مهمات كثيرة لأنجزها، قبل أن أغادر لبغداد كي ألبّي دعوة الى العشاء. سأعود إليك غداً صباحا ونتفق".
"حسنا أيها الفظ، لكنني أقول لك من الآن أنني لن أتنازل عن دقيقة واحدة من حقي. لقد التزمت طوال النصف الأخير من حياتي بعدم الترميش في سبيل إدخار هذه الأيام القليلة التي ستتيح لي تحقيق حلمي".
"لماذا لم تفعل من قبل؟".
"كل الأيام السابقة لم تكن ملكي. كانت منحة من مدير شركتكم، وأنا لا أحب استخدام المنح لتحقيق أغراض شخصية. اليوم، أتممت لكم المهمة وأعدت الأمانة. الأيام الأربعة والنصف المقبلة أتصرّف بها كما أشاء. حصلت عليها بجهدي الشخصي، لذلك أستحق أن أستغلها بما يرضيني. شو رأيك؟".
"نظرية برضه".
في صباح اليوم التالي، استفاق باكراً. تفقد المرآة. ابتسم: "أشبه آل باتشينو في العرّاب". ترك غرفة النوم الى الصالة. تأمّل في لوحة علّقها على الحائط، الى جانب "الروزنامة". صوّر ضحاياه السبعة على اللوحة، وبعضها مصحوب بقصاصات صحف مصفرّة.
إلى جانب صورة الوزير خبر يشير الى أنه يطالب بالعفو العام عن ممولي مافيا بيع سلاح وتهريبه الى أزقة المدن اللبنانية. وضع، بقلم أحمر عريض، علامة "أكس" على صورة الجنرال: "ملعون حتى أقتلك"، قال. "مدّعي تمثيل". شطّب على صورة توم كروز التي كانت تظهره في مشهد من فيلم "حرب العوالم"، مع ترجمة على الصورة تقول: "لديّ فورد، لا تعرفون حقّا ما لديّ". "فاشي". لم يتمكن من كتم غيظه وهو ينظر الى صورة الآغا، الذي تسببت فاشيته بحرب أهلية ثانية في لبنان دامت من 2010 الى 2013. زهقت فيها آلاف الأرواح في حفر الأسيد. مزّق الصورة، بحركة عنيفة، من دون أن "يؤكّس" عليها. "ساذجة". تأمّل في صورة آنيستون، والخبر الذي رافق الصورة: نجمة فراندز حزينة بعدما هجرها براد بيت. "الحزن للقلب، لا لصفحات الجرائد وعيون المتطفلين. الموت يريحك وقراء الصحف".
التقط مرة صورة لجارته المومس، فيما كانت تتحضّر لدخول المصعد، وعلّقها على لوحة الضحايا. حين قرر أن يقتلها، كان قد استدرجها الى بيته قبل ان يلمس دبقا على عنقها. يقتله الدبق، فكيف إذا كان سائلاً وحاراً. ملأه وقتها إحساس بالقرف استثار غريزة القتل الكامن في أعماقه. ليلتها، لعق في حلمه كثيراً من الدماء.
"فتاة المحطّة.. آه أيتها الحزينة. كم كنت أشفق عليك. تعملين اثنتي عشرة ساعة في اليوم في متجر المحطة. تقولين "غود مورنينغ سير" مرة كل خمس ثوان للعابرين. تضطرين للابتسام في وجوه قبيحة، شاحبة، تائهة بين النوم واليقظة. في عيون حولها خيوط لزجة. عيون دبقة. كأنك جزء من تلك الدائرة الكهربائية المقفلة التي تعمل بالأشعة البنفسجية. يقبل الزبون، تشعر الأشعة بدرجة حرارته، تعطي الأمر للباب فينفتح أوتوماتيكياً. فمك أيضاً ينفتح في اللحظة ذاتها: غود مورنينغ سير. سأقتلك اليوم. أقتلك لأريحك من جحيم الابتسامة الإجبارية. سأقتلك انتقاماً للحرية والمزاج الشخصي وفردانية الانفعال".
المندوب على النافذة. حضر. "أستاذي، أخشى أن أقول لك ما لا تريد سماعه هذا الصباح".
"أظنك لم تجد نسخة من الوثائق، وقررت استلام روحي فورا!".
"ليس تماما، لكن المدير يقول إن في قلبك سلاماً وإن القتل لا يليق بك".
"وما أدرى المدير بنفسي؟ قل له انني أعرف ما فيها أكثر منه".
"لكنّه يعرض عليك "ديلاً" آخر".
"هات ما عنده".
"سيهبك الجنة، الفتيات الحسناوات، الحب اللامنقطع من دون "كوندومز"، الخمر والعسل واللبن والتين والزيتون، صحبة أمّك وسيشفي قروحاتك لتتمتع بعصير الليمون مجددا".
"والمقابل؟".
"تعطينا الأربعة أيام ونصف وتتراجع عن سفك الدماء، لتسود المحبّة. ما رأيك؟".
صمت. نظر الى المرآة. تأمّل. تذكّر آل باتشينو مجدداً. ابتسم. شدّ على قبضة بندقيته. مصّ شفتيه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى