ناصر الجاسم - ركّاب الجن.. قصة قصيرة

خرجت هيئة المساحة البلدية برفقة الشيخ الطاعن في السن خبير الحدود الزراعية بالبلدة إلى البياضات ليقول رأيه الفصل في الأرض المتنازع عليها بين جيرانها، بعد أن بلغوا الأرض رفع الشيخ يده ووضعها كمضلة على عينيه ليقي بها انعكاس أشعة الشمس في عينيه وانكسار بصره وليقاوم أثر المياه الزرقاء الراكسة فيهما ثم مد عصاه بعد أن عدل قليلاً من احديداب ظهره فتحدث وعيون رجال هيئة المساحة تتجه باتجاه عصاته المتحركة في الفضاء الفسيح وآذانهم ترمى صوب فمه: هذه أرض ركاب الجن يحدها من الغرب مقبرة الرشادة ويحدها من الشمال ثَبر خليفة ويحدها من الشرق حيش السدر ويحدها من الجنوب ثبر أبيرد، وركاب الجن ماله ولد ولا تلد وعيال عمه جيران الأرض مالهم حق فيها ومن وعيت الدنيا وهذه الأرض بيت مال.

ابتدأ رجال المساحة البلدية في سلّ الشرائط المرقمة من بكرات الترسيم مقتفين الخطوط التي يخطها الشيخ بعصاته على الأرض البور وأخذوا في نصب الركائز الحديدية في الأرض وطفق الشيخ ينصب في رؤوسهم الحكاية: لقد كانوا ثلاثة من الرجال السود بلغ بهم الخصام أعتاه ونزلت روح التحدي نفوسهم القاسية في كل منزل ينزلون به وقد كانت هذه الأرض آخر منزل نزَلوا به ونزّلوا ما نزل في أجسادهم، فقد اجتمع السمّار في تلك الليلة الفاحمة السواد وثبر خليفة وثبر أبيرد يجريان وطشطشة الماء أسمعها، وحيش السدر غابة خضراء تعجز أذناي في رصد مكان الخرفشات على أغصانها، وقبر الزري وقبر العندل لم يجف ترابهما بعد، وخطرفات بين القبور تلتقطها أذناي بعد انتهاء كل وصلة سامرية، والنار المشعلة وسط هذه الأرض كانت شجرة تكبر كلما كبر عدد السمار حولها، وجلود الأرانب اليابسة في الطيران والطبول تمزقت من طربة السمار، فكلما طربوا أكثر دفأوها بالنار أكثر حتى لانت فمزقتها دقات الحماس، وساد الرعب والخوف في هذه الأرض ونفذ إلى أقدام الرجال البيض الملتفين حول السامر، وحتى قدماي هاتان نفذ إليهما فعجزتُ تلك الليلة عن ركوب زوجتي لما أرادتني وعجزت هي عن إفراغ الخوف الذي تكلس بداخلهما، ولم أقدر على ركوبها إلا بعد فوات أسبوع من تلك الليلة العجيبة يا أولادي، ولكن الرديني كان رجلاً قوياً أستطاع ضبط السمرة وضبط المنزّلين فيها وضبط المدد الآتي إلى السمرة وإلى المنزلين من ثبري خليفة وأبيرد ومن حيش السدر ومن مقبرة الرشادة ومن النار المشعلة، ضبط وقيد إيقاع وحركة كل شيء في السمرة إلا الرجال الثلاثة سمح لهم بالنزول في الساحة بإشارات ثلاث تراتبت من إصبعه، وعيناه مجمرتان في وجهه الأسمر من بدء السمرة حتى نهايتها، أذِنَ لهم بالنزول في الساحة، ولكنه لم يقدر على إخراجهم منها حين أراد، رغم عضه على أسنانه وشده شعر رأسه ووعيده لهم بدكّهِ الأرض بقدمه اليسرى دكّاتٍ متتابعات.. فأول رجل منهم بلغ به الطرب أوجه فنزلته الجن ثم نزل الساحة كان الحميدي بائع الجن، نزل الحميدي حين سمر السمار بقول الشاعر:
بخرمسيس الليل يوم الليل داجي صحت أنادي واحد قلبي يحبه
هو أمل عمري وهو بلسم علاجي ليـــــتني وياه نلعب تحــت قبه
بدأ الحميدي يلتقط الجن الآتين إلى السمرة من الفراغات التي في الساحة بقبضة يده، يلتقطهم من الفراغ في الفراغات التي تتكون بين أقدام الراقصين، أخذ يحوس في الساحة ويدوس عليهم بقدمه ثم يودعهم جراباً كوّنه من ثني ذيل ثوبه إلى سرته، وحتى الجن الذين في النار المشعلة كان يلتقطهم على هيئة جمرات مشعة حمراء ينتقيها من جوف النار فيودعها في جرابه الذي لا يشتعل ولا ينخرم، وإذا امتلأ جرابه بالجن طاف بهم على السمار الملتفين حول النار على شكل حلقة فيختار المشتري منهم وهو صامت ثم يفتح له الجراب ويترك له حرية الاختيار، فيختار المشتري بضاعته ثم يدخل يده في جوف الجراب ويخرجها ممسكاً بالجني المباع أو الجنية المباعة وأخيرًا ينقد الحميدي الثمن، وكانت البيعة تتم بصمت وبالإشارات فقط والسمار شهود عليها، وكانت جل إشارات الحميدي تعبر عن طول الجني وقصره وعمره ونحافته وبدانته ونوع جنسه ذكر أم أنثى.
وحين رأى ذلك الجهيني غار منه فعجل ذلك بنزلة الجن في جسده، فنزل الجهيني على جرة صوت السامر:
يقولون وإلا ما يقولون لي صاحب ما أجوز دونه
ألا يا هلي شدوا ومدوا وخلوا منــــازلهم خليـــه
دخل الجهيني الساحة وهو طربان فأعلن لجميع السمار أنه مرقص الجن، وأخذ يراقص جن الماء وجن التراب وجن الهواء وجن النار، ويرقص كل جني أو جنية الرقصة التي يريدها هو والسمار مفتونون بتنوع رقصات الجهيني، وقد كان حين يراقص جن الماء يتعالى صوت الطشطشة في ثبر أبيرد وفي ثبر خليفه فنعرف أنه رقّص جنياً مائيًا أو جنية مائية وحين يراقص جن الهواء يتعالى صوت الخرفشة في أجواف شجرات حيش السدر فنعرف أنه رقص جنيا هوائيا أو جنية هوائية وحين يتعالى صوت الخطرفة في مقبرة الرشادة نعرف أنه رقص جنياً ترابياً أو جنية ترابية من أولئك الجن الذي تزاحموا على قبري الزري والعندل، أما جن النار فراقصهم بالدخول في لب النار المشعلة، كان يرقص وسط النار وعلى سجادة عريضة من جمرها وجسده وملابسه لا يحترقان وإذا سمعنا صرقعة الحطب أدركنا أنه رقّص جنيًا نارياً أو جنية نارية، كان الحطب يصرقع والسمار يسمرون بترديد قول الشاعر:
ياجر قلبي جر لدن الغصون وغصون سدر جره السيل جره
ولما رأى الصويتي الحميدي يبيع الجن ويجني المال الوفير من السمار حتى استحال جرابه إلى كومة من مال بعد أن كان كومات من الجن، ورأى الجهيني يجمع النقوط من رقصه الحسن المثير والأوراق المالية تنقط على رأسه من أيدي السمار، وتنقط من جوف طاقيته على رقبته، وعلى الأرض في الساحة، هاج وماج واستعطف الرديني أن يسمح له بالنزول فتركه الرديني حتى غضب وحين غضب الصويتي كان السمار يرددون:
ياذا الحمام اللي سجع بلحون وشبـــك على عيني تبكيها
أهلي يلومـــوني ولا يــدرون والنار تحرق رجل واطيها
يامن يساعدني علـى الغليون وجنيــــة زرقا ينــاديـــــها
فاستخفه الطرب وساهم الغضب في نزول الجن جسده فنزل الساحة ونزّل والسمار لم يفهموا سر ترك الرديني له زمنا طويلاً ينتظر خارجها، ولم يعووا سبب تردد الرديني في ذلك، نزل الصويتي فتفاجأ به السمار يخلع ثيابه كلها ويمسي أجلط أملط جرموزاً فالتفتوا إلى الرديني يعاتبونه فوجدوه مندهشاً بما يرى والدهشة تفقده أكثر من الإمساك بزمام الضبط والسيطرة فاستغل الصويتي اللحظة فأخذ يصرخ في وجه الحميدي تارة وفي وجه الجهيني تارة أخرى: أنا ركاب الجن أنا ركاب الجن ثم يعرض للسمار طرق ركوبه لها، طريقة ركوبه جنيات الماء، وطريقة ركوبه جنيات التراب، وطريقة ركوبه جنيات الهواء، ولما انتهى سار إلى جنيات النار وعضوه منتصب في يده يتقدمه إليهن فما كان من ذكور الجن إلا أن انتقموا منه فسلبوه فحولته وقطعوا ذريته قبل أن يركب جنيات النار، فسمى الناس هذه الأرض بأرض ركاب الجن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى