محمد حسن النحات - كورونـــــــا.. قصة قصيرة

جالست جاري عند المساء كالعادة… كان ثرثارًا يتحاشاه الناس إلا أنه وهاتفه هما تسليتي الوحيدة، مما جعلني أهز رأسي وأجيبه بهمهمات غير مفهومة لأوهمه بمتابعتي لثرثرته وانغمس كليا في هاتفه. الصين غمرت العالم ببضائعها التالفة و أهدته أيضا أوبئة غامضة، تظهر فجأة و تختفي فجأة… الأخبار تنعق كغراب أسود… اشتعلت أصابعي من سخونة الأنباء المفزعة التي تتحدث عن مرض كورونا.. اختلط صوت جاري بصوت فيديو يتحدث عن استعداد وزارة صحة بلادنا لمجابهة خطر هذا الفيروس، لابد أنني سمعت عن تخصيص مبنى لعزل المرضى… سهمت و أنا أطالع حذائي الممزق و شعرت بحمض معدتي يأكل جدرانها… وثرثرة جاري كموسيقى تصويرية تمهد لحدث كبير.

غسلت قميصي و بنطالي و استلقيت عاريًا على دكتي و أنا أنظر للسقف المتداعي مستبشرًا بالغد ، فكرت أن إناث الجن اللاتي يسكن هذه الخرابة لابد أنهن الآن يتوارين خجلا من عريي الفاضح و سأنعم بنوم هادئ بعيدًا عن مشاغباتهن الليلية المقلقة.

صباحًا تدافعت مع الجموع على عربة المواصلات، حشرت جسدي الضئيل بين الأجساد لأجد متسعًا داخل العربة، كان اليوم هو يوم سعدي ولا يصح أن أقف لتلتصق بي روائح من حولي و تتسخ ملابسي.. فقلت بصوت خفيض: أنا مصاب بالكورونا.

لم يلتفت إلي أحد… فاستجمعت شجاعتي و صرخت : يا ناس أنا مصاب بالكورونا.
فرد علي شاب تبدو على وجهه ملامح “جميل بثينة” و أشار لي بفردة سماعة هاتفه: أنت من حزبي غير أن حبيبتي الخائنة تدعى سلمى.. تعال و لنستمع سويًا لأغنية ” في الليلة ديك”!
صرخت ” كورونا يا عالم” و افتعلت العطاس عدة مرات لأؤكد على صدقي… فأشار البعض إلى جنوني وتطوع رجل بلحية وقورة وقال : “يا بني تعال بجواري لأرقيك”.
فاستجبت له ليس إيمانًا برقيته وإنما لأجد مساحة أضع فيها مؤخرتي بعيدًا عن عرق الواقفين.

وصلت إلى وزارة الصحة وحرنت عند مكتب الوزير و طالبت بمقابلته شخصيًا، وتأكيدًا على بيروقراطية دولتنا أجابني سكرتيره بوجه متجهم أنه في اجتماع. وبابتسامة هازئة سألني عن غرضي من مقابلة الوزير شخصياً فاضطررت إلى إخباره أنني مصاب بمرض الكورونا…حاول أن يكتم ضحكته إلا أنها فلتت من بين أسنانه المصفرة بالتبغ، فاضطررت مرة أخرى إلى افتعال العطس وإمطاره برذاذ لعابي… أخرج منديلًا ومسح ما علق بوجهه ولعن تخلفي و همجيتي.. و سألني بغيظ : هل زرت الصين أو حتى تعرف شخصًا ذهب إليها ؟
_لا
_ هل لديك حمى ؟
_ لا
ثم عضضت شفتي ندمًا على صدقي.
ظل الرجل على سماجته رغمًا عن عطساتي المتكررة التي أصابتني بالاختناق فعلاً، لم يكلفه الأمر سوى ضغطة زر واحد لأجدني محمولاً على أذرع الحراس الذين ركلوني وقذفوا بي خارجًا.
نفضت التراب عني و أنا أتحسر على أحلامي بغرفة نظيفة مرتبة، ووجبات طعام شهية ومنتظمة. تسكعت مغتمًا في الأنحاء وعندما وقعت عيناي على ذلك البنك استرجعت بعضًا من الأمل. ولجت بابه لتلفحني نسمات باردة منعشة، سأتقن دوري هذه المرة، ستكون سرقة مبتكرة حينما يفرون مني وأجد خزائن قارون في متناول يدي، مزقت أزرار قميصي كإرهابي محترف، أخذت نفسًا عميقاً وفي وسط المكان هتفت : أنا مصاب بالكورونا القاتلة، عطست، غمرت الوجوه بلعابي، أقسمت أنني قادم من الصين وبي حمى تهرس عظامي.
ضرب الحاضرون كفًا بكف و هزوا رؤوسهم في أسف فاهتجت من لامبالاتهم وجعلتني أتدحرج في الأرض و أصرخ كأرملة وصلها للتو خبر رحيل بعلها، أحاطوني و ربت البعض على كتفي ، ألقمني أحدهم كوب ماء. “يا أخي أنا لدي كورونا في جيبي” قالها أحدهم فتباروا جميعًا في التخفيف عني: أنا لدي كورونا في قلبي، كورونا في أبنائي، ورجني أحدهم و الزبد على شدقيه : لدي كورونا في رجولتي، في رجولتي.
تملصت منهم و أنا ألملم فوضاي.. وجلست بجوار عجوز على كراسي الانتظار.. ربت على فخذي وقال : هون عليك يا بني… ما هو مرض الكورونا هذا؟
_ وباء قاتل.. كان يجدر بهؤلاء الفرار مني!
_ هل أنت مصاب به حقًا؟
أجبته بضيق: لا
ضحك حتى انتابته نوبة سعال : يا لبؤسك.. ألست مصاب بأي مرض خطير؟!
_ لا
_ أنت تعس حقًا.. ثم أشار بفخر إلى صدره و قال:أنا مصاب بالسل الرئوي.
انظر بني بما منحه إياي مرضي… نظرت إلى كفه فرأيت شيكًا بألف جنيه
تساءلت بحيرة : كيف؟!
سعل مطولًا ثم قال : يتدرب على صدري طلاب الطب و يمتحنهم أساتذتهم على أمثالي.. السل منحني اهتماماً لم أحظ به من أبنائي.. أرقد عاري الصدر ليتحلق حولي الطلاب.. و تجوس أصابع الفتيات الجميلات على صدري.. أتسلى بهم و آكل مجانًا من طعامهم وأمنح في النهاية مقابلاً ماديًا.
أثارتني الفكرة…قلت : فتيات جميلات يتلمسن صدرك ؟
قهقه: محظوظ أنا!.. لكن هل تعلم أن زميلي “مبروك” لديه ورم بخصيتيه.. فكل الحظ ناله هو!
تأسفت على حالي وصحتي التي لا تمنحني شيئًا وقلت :
للسل علاج.. صحيح؟
_ نعم… لكني لا أتناول دوائي بانتظام حتى لا يغادرني المرض.. هو رزقي الوحيد.
سهمت لبرهة ثم نظرت في عيني العجوز مطولاً.. قال لي : هل تفكر فيما أفكر فيه بني التعيس.
وكمن يجلس بين يدي إله من العجوة.. جثوت على ركبتي و قلت : قدني يا سيدي إلى مصير أفضل.. امنحني نعمة المرض.
شمر العجوز من ساعديه و دنا مني ببطء.. سعل في وجهي مرات عدة.. فتحت فمي على اتساعه حتى لا يفوتني شيء.. قرقر العجوز مستدعيًا ما في جوف صدره و بصق علي بلغماً أصفرًا مخضرًا… مسحت به وجهي وقربته من أنفي وأنا أفكر في الجميلات اللاتي سيلمسن صدري و عن المال الذي سأناله.. من بين سعال العجوز المتقطع بدا لي أن الغد سيصبح مشرقًا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى