محمد عبد الملك - غليون العقيد

011.jpg

مات العقيد في ليلة ممطرة. في منزله الكبير الواسع استرخى بدنه الطويل كالزرافة، كانت بزته العسكرية مليئة بالغبار. وكانت النجوم تستقر على كتفه. أوصى العقيد زوجته أن يدفن بملابسه العسكرية، كانت الجثة تستقبل الزوار والجنود الذين ترأسهم العقيد في حياته والمعجبين به من الجمهور.
وكانت وصية العقيد الثانية أن يوضع جسده في صندوق زجاجي كبير. وأن يستقر سيفه الفضي بجانبه. اختارت زوجة العقيد حديقة المنزل. وشاهد الجمهور من وراء السور وجه العقيد الصامت المهيب. وجاء الأطفال الفقراء مع أجدادهم للفرجة. لم تغضب زوجة العقيد، بل فتحت الباب على مصراعيه. كانت وصية العقيد الثالثة أن يراه الجمهور وهو مسحى و غليونه في فمه.
لماذا اختار العقيد أن يموت بهذه الصورة؟ عجزت الزوجة عن الرد على أسئلة المعزين والصحفيين. بعضهم قال : ليرهب الثوار في موته.. وبعضهم قال: العقيد بطبعه يكره القبور والأماكن الضيقة.
كان العقيد يعيش كل حياته في الهواء الطلق. ينام في الهواء الطلق خلف الحديقة. كان له بستان خاص يقضي فيه أوقاته السرية. لا أحد يستطيع عد خليلات العقيد أو قتلاه فقد برع في الموت والنساء. وكان على قدر كاف من الوسامة وقوة الشخصية.
بعد أيام ذوى وجه العقيد و تحول إلى البياض و أصبح عجينة هالكة ، و خرجت رائحة نفاذة مخترقة الزجاج الجميل . لم تكن الرائحة القوية لتناسب جلال الجثة و النجوم و السيف و الصندوق الزجاجي . و بعد أيام سرح بعض الدود تحت رأسه . كان الجمهور يحضر في طوابير طويلة لمشاهدة العقيد ، و كانت زوجته تطلب التزام الهدوء . و لأن العقيد قد أوصى أن ينكسر الصندوق الزجاجي بنفسه بفعل الحرارة ، أو الزمن فقد وجدت زوجته نفسها في موقف حرج .. مع الرائحة النتنة ، كان الدود يسير أصفر على جدران الزجاج و يتثاءب . و بعد أسابيع صغر حجم الرأس . كان الدود يكبر و يتقيأ على الزجاج . ثم خرج بعض الذباب من الدود . كانت جثة العقيد تبدو في هيئة جديدة : سيقانه الطويلة . عظامه الممتدة . اللحم الذي علق بالأضلاع . بقع الدم الجاف و الرصاصات التي اخترقت جسده .
بعد أيام لم تعد زوجته قادرة على النظر إلى الجثة . الوجه كان يتفحم . و الدود يغطي عينه و أهدابه و يحاول اختراق الزجاج و لحسه ثم يسقط تحت جثته .
عاش العقيد ما يربو على الخمسمائة عام . و تزوج أربعين ألف زوجة و شرب نصف خمور الأرض . و أنجب شعبا بأكمله و كان يعتقد أن الجمهور من أبنائه و أحفاده .. و من حقهم أن يلقوا عليه النظرة الأخيرة .
كانت الطوابير تمضي صامتة و يبتهل الرجال و النساء الكبار إلى الله أن يعفو عن ذنوبه الكثيرة فقد تجاهل أبوته لشعبه و نسي ذريته و انغمس في حياته الخاصة و أفرط في الشراب و النساء و قتل الثوار .
كان العقيد لا يؤمن إلا بنفسه . و قد صاغ له حياة محكمة حيث كان يشاهد في سيارة سوداء مغلقة تغطيها ستائر سوداء مغلقة .
و كانت العصا المصقولة لا تفارق خصره .
و لفرط انشغاله كان ينام على جثث قتلاه .
في يوم مطير آخر اهتزت الأشجار في الحديقة ، و سقط الورق . كان الصندوق الزجاجي يستقبل المطر بهدوء . و كان وجه العقيد يختفي خلف المطر و الزجاج و يكاد يتلاشى . كان الصندوق في الصباح التالي صغير أبيض . و شاهد الجمهور الذي لم ينقطع عن زيارة العقيد ، عظامه الكبيرة و عليها التيجان و النجوم و الدود و الصديد ، و كان السيف يصدأ بفعل الرطوبة مع الأيام . فوجئت زوجة العقيد بأمر عسكري يطالبها بدفن عظامه و الاحتفاظ بسيفه و نجومه . و رفضت زوجته تنفيذ الأوامر . قالت السلطات العسكرية أن بقاء هيكل العقيد بهذه الطريقة قد أضاع هيبة الدولة .
و قد أجابت الزوجة السلطات في خطاب رسمي أن الجمهور الذي يأتي للزيارة يكبر ، و لا بد من احترام رغبات الموتى . جاءها الرد في الحال : لم يبق شيئ من الجثة .. لم يبق من العقيد شيئ .
أغضب هذا الخطاب زوجة العقيد و كتبت إلى السلطات العليا : أن هذه العظام قد حفظت نظام الدولة خمسة قرون . أما خطاب الرئاسة الأخير فقد جاء لينذر باجتثاث الصندوق الزجاجي و تحطيمه .
في اليوم الثاني جاءت جرارات السلطة ، و دباباتها ، و بعض فرقها المدفعية . و كانت مفاجأة أخرى للجميع هذه المرة فقد سرق الجمهور هيكل العقيد ، و مثلوا به في الشوارع . و صنع الأطفال من عظامه و أسنانه ألعابا وهمية و ملأوا جمحمته بالتراب .
و أتكأ رجل عجوز في الشارع على عظام ساقه الطويلة . لكن أولاد الزنى الذين أنجبهم من خليلاته عبر قرون خرجوا مطالبين برميمه . بعد شهور رأت زوجة العقيد و هي تهبط الشارع نجومه في صندوق الزبالة تحت أقدام الشحاذين . و رأت غليونه الكبير في حديقة المنزل يستوطنه فأر صغير . و شاهدت بدلته العسكرية على شحاذ . ثم رأت سيفه بعد سنتين في عرض مسرحي لأولاد المدارس .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى