محمد بشكار - هؤلاء.. دون ذِكْر الأسماء!

لِنَكُنْ صُرحاء رغم ما قد تشُوبُ صراحتنا من سخرية هي في ضحكها الأسود كالبكاء، لقد أظهر الحجْر المنزلي تفاوتاً طَبَقيّاً صارخاً ليس بين طوابق البيوت وشرفاتها طبعاً، ولكن بين أبناء الوطن الواحد، ورغم انشراح قلبي للانخراط المُكثَّف الذي ابْدتْهُ بوطنية صادقة مُخْتلف شرائح المجتمع في طبقتها الدنيا للتَّغلُّب على التَّبِعات الكارثية للجائحة، إلا انَّ بياض انشراحي لم يمتد لِيُغطِّي قلبي كاملا، بل بقيتْ نقطةٌ سوداء تعلو سطْحهُ وأخشى بسببها أن تتَّسِع دائرة الكراهية !
أبداً، لم تترك النقطة السوداء مجالا ليكتمل فرحي، لا لشيء إلا لأني في غمرة تتبُّعي للتطور الفادح لكرونولوجيا وباء كورونا، وما يُخلِّفه من خسائر في الأرواح وأعطاب هددت الأمن الاقتصادي لِطالبِ معاشِه الفقير بالخصوص بعد تجميد الحركة، وفي غمرة انبهاري بالمعونات المالية المُتدفِّقة من كل حدْبٍ وجيْبٍ لصندوق تدبير الجائحة، كنت على نياتي أنتظر أن ينبري إلى الخطوط الأمامية لمواجهة المعركة صناديدنا الذين سطع نجمهم وأصبحوا أرقاما يصعب عدُّها في عالم الملايير، حتى صنَّفتْهُم مجلة "فوربيس" العالمية بأقوى ثمانية أغنياء مغاربة في القارة الإفريقية، لكن النتيجة لم تأت بالأصفار المُتَوقَّعة دون مُزايداتٍ سياسية قد تخدم مآرب الانتخابات التي تلوح مع الأرانب بِحَلَبةِ سباقها في الأفق، ومع ذلك لم يَخِبْ ظني في فِراستي التي بِمِجْهرها أفرِّق بين المعدن النفيس والرخيص، فهؤلاء ما كانوا ليصلوا هذا المبلغ من الثراء، لو لم يُحْجِروا على الدرهم في الشِّدَّة والرخاء !
يبدو أنني لم أستطبْ الإقامة مديداً على نياتي، فالأزمة التي اضْطرَّتْ الدولة للاصطفاف مباشرة بِقِواها العسكرية والمدنية الحية إلى جانب الشعب دون وسائط سياسية، عرَّتْ للاعب الشطرنج سوْءة المُربَّع الفارغ في الرُّقْعة، لقد حُوصِر هؤلاء الأثرياء وصاروا معزولين كما كانوا دائما في أبراجهم العاجية، وصاروا هامشاً عِلْماً أنهم المركز النابض الذي يُسَيْطر على رأس المال وارْجُلِهِ أيضا في البلد، أمَا كان أنْفع قبل أن تُوصِلَ الجائحة النسيج الاقتصادي إلى شللٍ لا يُجْديه كرسي مُتحرِّك بدفعة اقتصادية، لو ضَخُّوا ثرواتهم المُحنَّطة دون كافور، في المرافق الحيوية التي تنهض بالمجتمع، كالصحة والتعليم والبحث العلمي وما يُؤَمِّنُ للمواطنين الشُّغْل، فما جدوى أن يُدْمن المرء جَشَع الأرقام ليصنع من الثروة بحراً، ويكتشف أن ماله لن ينْفعه لصدِّ وباء عالمي لا يُفرِّق بين فقير وغني، وكما يصيب البحر بأعْتى بوارجه العسكرية في أقصى العُباب يصيب على الشاطىء الزَّبَدْ!
الحسْرة على السنوات التي ضاعتْ في صراع سياسوي خاوي الوفاض مما يفيد البلاد، كان يجب أن يأتي الوباء لِنعْرِف كيف نُوجِّهَ الخطاب الذي اهْتَرأ خشبُهُ من شدة النَّهْش المُتكرِّر، إلى الجهة الصحيحة التي تخدم الصالح العام، إلى الوجهة السليمة من القلب المُشْترك بين الإنسان، كان يجب أن يأتي الوباء بعدالته لِتتحقَّق المساواة ونُفكِّر في نفْس الدواء !
الحسْرة على الفكرة التي بَدَلَ أن نُقارعها بفكرة ألمع لنرفع من قيمة الحوار والعقل عندنا، جُوبِهَتْ بالقمع والتخوين وعقلية المؤامرة، وهاهي الزَّريبة الهشَّة تعلو بثُغاء حِمْلانٍ لا تتجاوز بفكرها الحُرِّ مَرْبِطَ حبل قصير، وكل التُهَمْ المُلفَّقة أنها هدَّدتْ استقرار الوتَدْ!
الحَسْرة على الصفحات التي طويناها وفُتِحتْ من جديد لِتُكرِّرَ التاريخ بنفس الأخطاء، الحسرة على الأكف التي انحرفت بضرباتها على طاولات البرلمان وانهالتْ على عاتق الإنسان، الحسْرة على المدرسة التي لم نُغْلقْ بفتْحها سِجْناً واحداً في البلد لذلك لا يتخرَّجُ إلا الدَّاخلون خلف القضبان!
هؤلاء الذين يكفي أن يحُكَّ كل مواطنٍ شريفٍ جيبه ليعْرف المُتسبِّب في فراغه المُدقع، فهُم أشهر دون ذكر الأسماء، هؤلاء الأثرياء.. لكَمْ يؤلمني حجْرُهم الذي يُسمُّونه من باب المجاز أو عكازه بالحجْر الصِّحي، والأحرى وهم يلتقطون صوراً وفيديوهات من مُنْتجع إحدى الضَّيْعات المحفوفة بالأشجار تجري من تحتها الأنهار، أن يُدقِّقوا في اختيار العبارات بما يتلاءم مع الطبقية التي تنخر المجتمع، كان أجدر أن يحترموا السحاب الذي من فُرُشِه الفاخرة يُدلون الأرجل على عامة الناس، ويكونوا صادقين لأول مرة خشية أن يُصيبهم بِغَضَبِه الوباء، كان عليهم وهم يُرسلون الصور والفيديوهات من ضيعاتهم التي تضيعُ في فجاجها الخيول، أن يُفكروا في منْ لا بيْت يأْويهم وأولئك بين المُكتري والمُشرَّد في العراء منازل، كان أصْدقَ لهُمْ أنْ يُسمُّوا عزلتهم بالقصْر الصِّحي !
هؤلاء.. الذين هم أشهر من أن نذكرهم بالأسماء، قد ينخرطون مُتفرجين في الشريط السينمائي الأشد وقعاً على النفوس من حيث رومانسيته، ولكنهم لا يتركون قلوبهم تنبض في غير موضعها قريبا من البنك الدولي، خشية أن يصيبها رهَفٌ مصدره الحِسُّ الوطني!

...........................................

افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 23 أبريل 2020

حُرِّر يوم الثلاثاء 21 أبريل 2020 بالحَجْر المنزلي بمدينة الصخيرات



............................................
رابط الملحق على موقع جريدة العلم:

https://alalam.ma/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%85-23-%d9%85…/



L’image contient peut-être : 2 personnes


139
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى