مقتطف محمد بنصالح - هل عشقت يوما؟

محسن هذا يكلم نفسه أغلب الوقت، وبدا للعيان أن الخبل يخبط أبوابه.. فتحسر المعارف والجيران، على الشاب الأنيق الرزين الذي عرفوه قبل الثلاث اشهر فقط، عندما حل ضيفا على حيهم، قبل أن تنتشله أيادي غامضة، لتطوح بدلا منه بآخر لا يشاركه في شيء، ما عدا نفس الملامح، وإن كانت الآن مائلة لدبول، وتتهيأ للوداع.. يقضي سحابة أيامه جالسا في المقهى، يرتشف الشاي ويدخن السجائر الرخيصة.. بين برهة وأخرى تتفتق ابتسامة غامضة على محياه، ثم يعود مستعجلا عبوسه الذي لا ينفك عنه.. لا يكلم أحد، ما عدى النادل، ولا يفعل سوى مرة واحدة، حين يطلب نفس الطلب كل يوم، ألا وهو الشاي.. يمضي إلى منزله، وعلامة الاستياء تعلو سحنته، ما يجعل جيرانه ينفرون منه، حتى لو كان مجرد إلقاء لتحية.. لا أحد في الحي يعرفه أكثر من جاره حميد، الذي يستأجر له الشقة حيث يقطن وحيدا.

عند انطلاقة شهر جديد، حضر العم حميد - كما جارت العادة - إلى شقة محسن حتى يستلم منه واجب الإيجار، وفي نفس الوقت لكي يميط اللثام عن السبب الذي أودى بتبدل أحوال الشاب.. عله ينقذه من مخالب الجنون.

- "ماذا أصابك يا محسن، مهموما لا يسرك حال؟!"
سأله العم حميد.. فأجابه بسؤال:
- "هل عشقت يوما، يا عمي؟"
اتسعت حدقة عيني العم حميد بعد سماع سؤال هذا المهيأ للجنون ! ثم رد عليه بابتسامة عريضة، تعرض ما نجا ولم يهلك من أسنانه :
- "بلى.. لقد حدث هذا مرتين".
- "وهل إحداهن زوجتك الآن؟"
انطفأت ابتسامة العم حميد، وبدا جوابه متوقعا حتى قبل أن يتفوه به :
-"لا"
- "ماذا حصل؟"
- "حبيبتي الأولى، وجدتها تخونني"
-"وحبيبتك الثانية؟"
-"أما فيما يخص حبيبتي الثانية؛ هي وجدتها تخونني أيضا!"
انتفض محسن من مكانه.. انتفاضة أرعبت العم حميد.. ثم بدأ يصرخ قائلا :
-"كلهن خااائنات.. أجل خااائنات.. إن الخيانة أيها العم، يرضعنها من ثدي أمهاتهن الخائنات، ثم من جداتهن، وأمهات جداتهن، وكلهن من نسل خائن !".
حرك العم رأسه، في إشارة يقين، أن جاره محسن تلقى صدمة في مشاعره، أردته على مقربة من الجنون.. ثم حاول تهدئة روعه واطفاء نار غضبه :
-"لا ليس كلهن يا محسن، فإن عمك هذا، قد أكرمه الله بزوجة صالحة، ثم لي كذلك أربع بنات، ولهن اليوم أزواج وعوائل.. قل لي يا محسن، ماذا حدث معك؟"

هدأ روع الرجل، وعاد يجلس جنب العم حميد، وهو ينظر إليه بحزن وأسى، كنظرة المتسول الذي يأمل في صدقة، قبل أن يصرف عنه أنظاره.. تنهد، ثم بلع ريقه، فمكث أخرسا كأنه يبحث تراه أين يبدأ، وكيف يطلق العنان لكل ما يختزنه، وقد أرقه وأرهق كاهله.. تكلم أخيرا :
- "كانت هي كل نساء العالم في نظري، وبت أراها في كل امرأة يقع نظري عليها.. وفي اليوم الذي لم يعد لها فيه وجود؛ فقد العالم نسائه، رقته ولطفه.. آنئذ علمت يقينا أي عظمة عشق أحمل لها، ومدى فداحة مصابي. لقد كذبت علي يا عمي، وأنا صدقتها مرغما، أجل مرغما، فقد كنت أشك أنها تكذب، لكني تماديت في غض الطرف عن زلاتها، علني ألقى فيها مناي وحلمي الوردي الجميل، بل المفرط في جماله.. تعرف ماذا يحدث للحاسوب حين تعاد برمجته؟ كذلك ما يقع معي، حينما تقول لي، أحبك."

نهض من مكانه وقد قطع التشويق على العم، فسار باتجاه المطبخ، وتولى.. وبعد برهة زمن، عاد يحمل معه قنينة ماء، فبدا كأنه يبتسم !.. ثم أردف :
-"لأني كنت حمارا !"
فقهقه ضاحكا.. ثم بدأ يشرب من فم القنينة، والماء ينسل من شفاهه ويسير إلى صدره.. ثم التفت نحو العم حميد :
- "اححححح ! (ومرر ظهر يده على فمه) وبعد.. أين تركنها؟
- "حينما كنت حمارا !"
- "يقولون الحب أعمى، وهم على حق، فالحب يعميك على عيوب محبوبك مهما بلغ قدرها، ويزين لك محاسنه ويضخمها، حتى وإن ندرت.. لا يحضرني اسمها الآن، وما عدت أرغب بتذكره أبد المؤبدين، لكني أحببتها، وادعت نفس الشعور، وعدتها بزواج، فوافقت.. ثلاث سنوات ملؤها الوعود والسعادة ثم الانتظار.. يمر بي وقت أتساءل، ماذا يهمها في فقير مثلي، وهي على قدر من الجمال والنسب؟ جواب واحد ألقاه في كل مرة : إنها تحبني. ولولا ذلك، ما قبلت بي يوما.. فخيل إلي أني أعيش الحب المصطنع على شاشات السينما، وذات يوم عند مغرب الشمس، سنهرول في حديقة شاسعة، ونطلق العنان لضحكاتنا، ثم تسود الشاشة، وتطلع فيه الكتابة البيضاء معلنة نهاية سعيدة، لتشتعل أضواء القاعة السينمائية، على وجوه باسمة تتناظر فيما بينها، وهي تردد : يا له من فيلم!. ذلك ما لم يحصل، فقد نفرت بعودها وهاجرتني.. الخائنة بنت التي......"

واصل حميد قص مآسيه العشقية، على مسامع العم حميد، وكيف تخلت عنه حبيبته وحبه الكبير، بعدما أغدقت عليه بالأوهام، وعايشته في قصر حب شيد من رمال. تحمله العم على مضض، مع بعض الشفقة وربما شيء من الاحتقار، فالذي يتفوه به الشاب، لا يعدو كونه قصة عشق عتيقة أشبعوها قبله استهلاكا، فلا تستحق منه كل هذا، فأغلب الشباب مروا على قصص حب لم تكتمل، فما بال هذا المتعوس يضع الحبة في القفة ! اللعنة على الحب إذا كان يرد الرجال هكذا.. لكن هنالك شيء ما ليس منطقيا في هذا السرد البائس.. فمشاعر حميد اتجاه الماضي تتناقض بين برهة وأخرى.. فتارة يبتسم ويسخر، وأخرى تكاد الدموع تغالب كبرياء الرجل، قبل أن ينقلب ضاحكا، وهكذا فهم العم حميد أن هذا العاشق المجروح، فقد صوابه ولا ريب في ذلك.. وكل ما يشاع عنه صحيح يا أسفاه.. ثم حاول التخفيف من أهواله، فبدأ يضرب على كثفيه بهدوء وهو يواسيه، مستعينا بتلك المواساة المبتذلة، وألف امرأة تتمناه ! وهي الخاسرة لا هو، والقرد في عين أمه غزال!.. ثم انفجر حميد ضاحكا، قائلا :
- "أنا لست مجنونا، أعرف أن الناس يظنون أني كذلك، وأنت معهم يا عمي.. أخبرهم أني أعقل منهم جميعا.. وقريبا سأقتلع مقلة أعينهم! فما أحلى العيون الغائرة!"

ما قاله محسن، جعل فاه العم يرتعش، وقلبه كأنه يقترب من حلقه.. هل قال سأقتلع مقلة أعينهم؟ وكيف هي حلاوة العيون الغائرة؟ كيفما كان الحال فهم العم، أن عليه مغادرة المكان، والنجاة بجلده، أو بمقلة عينه.

- "يا محسن، حان الوقت لكي أغادر"
قال العم حميد وهو يحاول الوقوف جيدا على قدميه.. رد عليه محسن وهو يحملق فيه بنظرات زائغة :
- "لكني لم أنته بعد"
بدأ العم يتعلثم :
-" أووو لقد تذكرت.. نعم، نسيت النار فوق إبريق الشاي! لنترك ما تبقى ليوم آخر"

غادر العم حميد على عجلة من أمره، ومحسن يناديه وهو يردد : "لم أنته بعد، ما بك مستعجل.. هيييه؟".

في الليل غاب النوم من جفون العم حميد، وهو يستحضر تلك الكلمات الممزوجة بنظرات كريهة ذات طابع شيطاني، "سأقتلع مقلة أعينهم!" .. "ما أحلى العيون الغائرة!" لماذا يجد تهديده صادقا، يتساءل العم مع نفسه؟ ربما في نظرة عينه ما يزكيها.. فلقد جن العاشق وانفلت عقله.

بعد تسعة أيام...

تولى حميد عن الأنظار ، فما عاد يرتاد مقهاه المعتاد، ولا يبتاع السجائر عند بقال الحي، كما لو كان تلاشى في العدم.. حتى تسلل القلق أكثر إلى نفس العم حميد، الذي بات يسأل عنه كل الجيران والمعارف، فلا أحد منهم قد صادفه، ولا رآه حتى من بعيد.. فقرر، أن يكنس مخاوفه، ويتفقد محسن في الشقة التي يستأجرها له، فربما المتعوس قد فارق الحياة، ولا أحد يدري عنه.

وجد الباب نصف مفتوح، فطرقه بضع طرقات، فلا مجيب.. ثم يلج بهدوء إلى بهو المنزل، الذي بدا ساكنا يكسوه الغبار، وأعقاب السجائر منثورة في أرجائه.. فجأة سمع أنين الخشب، كأنها أريكة أو سرير يشتكي من ثقل ما.. وأكثر ما يميز المكان، هي رائحة غريبة تشبه احتراق الخشب. واصل بخطوات ثقيلة، ثم نادى : "ممم...حسن !". بعد برهة أجابه صوت مبحوح : "من ينادي؟". تنفس العم الصعداء، وقال في نفسه، "إنه حي. الحمد لله".

- "أنا السيد حميد.. أين أنت؟"
فأجابه السكون، ثم كرر النداء، فلا مجيب.. حتى سمع صوت شهقات مكتومة، مصدرها غرفة على يمينه، واتجه إليها، وفتح بابها بيسر وقبضة يده ترتعش.

تحت الضوء الخافت المتسرب من نافذة الغرفة؛ تبين له رجل يجلس على حافة السرير، يحملق في الأرض.. إنه محسن، ساكن في مكانه، كما لو كان دمية. ثم رائحة نتنة تزكم أنف العم حميد، جعلته يتراجع خطوات إلى الوراء.. فكر أنها رائحة البول والبراز.. فانصرف إلى حال سبيله، وقد قطع وعدا على نفسه، أن لا يحشر نفسه - مرة أخرى - في حياة هذا الغريب الأطوار.

بعد ثلاث أسابيع...

عاد محسن لظهور، وبدا أكثر أناقة من ذي قبل، إلا أنه ما يزال ينزوي إلا نفسه ولا يكلم أحد. يجلس جلسته النهارية في مقهاه المعتاد.. يبتسم، يعبس، يحدث نفسه، يدخن، وهكذا دواليك.. عند العامة، قد نال الشاب ختم الجنون، الذي يثبت ويقر.

بعد خمسة أيام...

في وقت أوشك فيه النهار على الرحيل، وعند درج العمارة، تصادف العم حميد، مع رجلان يقتدان محسن، وقد كبلت يداه خلف ظهره.. ارتسمت علامة الرضا في محياهما، كأن محسن طريدة طويلة، وغنيمة غنية.. فكر العم حميد أنهما من الأمن.. بدأ محسن يشتم ويتدمر ويهددهما بنسبه وسلفه.

قال أحد الرجلين مخاطبا، العم حميد :
-"أأنت العم حميد، الذي يستأجر شقة لهذا الرجل؟"
- "نعم، أنا هو"
-"نحن من الشرطة، وأنت مطالب بالحضور إلى مقر مديرية الأمن"

بعد ثلاث أسابيع...

صرخ القاضي في وجه محسن :
- لماذا قتلتها وقمت بتشويه جثثها؟!
أجابه محسن بسؤال :
- هل عشقت يوما، يا سيدي القاضي؟.



تمت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى