هدى بوحمام - رمضانيات مغتربة.. فلنستمتع بروحانيات رمضان

ها قد طلّ عليّ رمضان الحبيب من جديد، شهر العبادة والروحانية واسترجاع الذات وتضميد جروح الروح التي خَلَّفتها هموم السنة الفارطة. عاد من جديد كما وعدني في أخر مرة وها أنا أستقبله بصدر مفتوح رغم رياح بلاد الغربة المعاكسة؛ تلك البلاد الباردة مشاعرها، التي لا تستشعر عظمة هذا الشهر الفضيل، لا يُرفع فيها آذان ولا تُرتّل فيها آيات قرأن ولا تمتلئ فيها شوارع المساجد من كثرة المقبلين على الصلاة والقيام. أسفي عليها فأرضها لا تهتز من ملاقاة جبهات الساجدين لربهم المُطوّلة، ولا تسقى من دموع التائبين إلى ربهم.

لا، لم أعتد على قضاء رمضان صامتٍ ووحيدٍ دون حياة اجتماعية تحرك في داخلي روح الانتماء، لم أعتد على صلاة الفجر دون سماع صوت الإمام وهو يُردد بإصرار: "الصلاة خير من النوم"، لم أعتد على صلاة التراويح في غرفة مستأجرة تجمع القليل من المصلّين، دون مكبر صوت يضخم حجم الآيات في أذني ولا تلاوة خاشعة تروي عطش روحي المنهكة ولا صفوف طويلة متزاحمة متراحمة، لم أعتد على شوارع مظلمة دون ازدحام الناس وضجيج السيارات والباعة، لم أعتد على الإفطار بمفردي دون مائدة أُمِّي وصلاة المغرب مع أبي وإخواني ومضارباتنا اليومية حول من سيغسل صحون الإفطار... لم أعتد ولن أتعوّد!

ولكنّني اعتدتُ على الشرح والتبرير.. لماذا أصوم؟ كيف أصوم؟ وهل أستطيع شرب الماء؟ كيف أتحمّل الصيام شهرا كاملًا؟ هل أستمتع بالصيام؟ أصبحتُ خبيرة في الردّ على أسئلة سطحية لا تنتهي وتتكرر باستمرار في كل مكان أتواجد فيه مع الناس في هذه البلاد البعيدة. اعتدتُ أيضا على شعورهم بالشفقة عليّ حين يحين وقت وجبة الغداء، فيذهب الكلّ مهرولاً لتغذية جسمه بينما أعثر على ركن هادئ أختلي فيه بنفسي كي أغذّي روحي بالذكر والدعاء. واعتدت طبعاً على اعتذارهم لي كلّما أخذوا رشفة ماء أو عصير. تعبت وأنا أفسِّر لهم أنه ليس هناك داعي للاعتذار فأنا لست مرغومة على الصيام كما يتخيّلون. لا يرغمني أبي أو أخي على الصيام كما أوهموهم. اعتدتُ على رؤيتهم لي كطفرة مثيرة للفضول وفي نفس الوقت يصعُب الاقتراب منها، فيختارون المسافة ويتهمونني بوضعها.

علّمتني حياة الغربة أن أتأقلم مع أي وضع أعيش فيه وأن أتعامل معه بمرونة، جعلتني أقدّر أهمية الحلول الوسطى في تصالحي مع وضعي. فتعلمت خلق الأجواء بنفسي ولنفسي، صرت أبحث عن السعادة في تفاصيل لم أعرها اهتماماً من قبل: أزين مائدة فطوري الصغيرة بفانوس مضيئ وألبس ثوبًا تقليدياً وأتفرج على سلسلة رمضانية.. ليست بأجواء مثالية ولكنّها تفي بغرض تذكيري بمن أكون، إذا استطعت أن أراها بعين راضية. أُصلي التراويح وأستمتع بما أوتيتُ بين يدي حامدة شاكرة. أرى في صيَامي بين الغُرب تميّزاً وقُوةً وانتماءً وهويةً، فالنجمة المختلفة في السماء تلمع أكثر! صحيحٌ أنّ شرحيَ الدائم لنفسي ولِما أفعله يُتعبني، ولكنّني أعتبره مُهمة للتعريف بديني وثقافتي، مُهمةً رسمية تدفعني لأكون دائماً أفضل نسخة من نفسي.

قد لا تعطينا الحياة الفرصة كي نختار الظروف التي نعيش فيها، ولكنّنا حتماً يمكننا أن نختار كيف نريد عيشها والتعامل معها. يشكل التصالح مع الظروف وتقبُّلها أهم خطوة للعيش بسعادة وأصعبها في الوقت ذاته. لا أستطيع أن أنكر أنني أشتاق لرمضان في بلدي وبين أهلي ولكنني أنجح في إقناع نفسي أن شهر رمضان أينما وجَدنا لا يبخل علينا بالروحانية والطمأنينة والتقرب من اللّه، فضله يعمّ على العالمين، يكفي أن نبحث عن الجوانب الايجابية في الصورة وأن ونتمسّك بها كي نخلق أجواء الفرح ونعيشها برضا وسلام مع أنفسنا في هذه الحياة الفانية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى