كاظم حسن عسكر - الأمة والتأليف في العصر العباسي

يمكن عد الخطاب القومي من بين الخطابات التي تقلقها القضايا الكبرى, وغالبا ما تسعى الى موضعة المتون التي تعالجها في سياق العصر الذي تنتمي اليه, ويشارك في تنمية ذلك المنهجُ السياقي الذي تعتمد عليه, الذي يمنحها فهمًا صحيحًا, مثلما يمكن القارئ من رؤية السياقين الثقافي والتاريخي بشكل مختلف, أي أن السياق لا يكون مفسِّرا بل مفسَّر أيضا. يسعى الدكتور محمود عبد الله الجادر في بحثه(الهوية القومية في كتب الأدب العربي) الى فهم حركة التأليف في العصر العباسي بشكل مغاير بعض الشيء, فقد أشار الى أن "المتتبع لتاريخ التأليف عند العرب المسلمين لا بد أن يقف على حقيقة تاريخية شاخصة وهي أن بواكير المؤلفات التي أرست أسس العلوم الإنسانية برمتها انبثقت أصلا في ميدان خدمة العقيدة الإسلامية[...]وان إرادة الله سبحانه سبقت أن تكون العروبة مادة الاسلام قرآنا ورسولا وتاريخا وقيما ورجالا فانه يصح لنا أن نقرر أن كل جهد علمي بذل في سبيل خدمة الاسلام هو جهد انصب بشكل مباشر أو غير مباشر في إطار خدمة العروبة " فلم يكتف المؤلف بما تواضع عليه المدونون من قبله, بل راح يستبطن حقيقة تلك الكتب ودواعي تأليفها, عبر رجوعه الى ما وراء تلك الاسباب الظاهرة والمعروفة, فالإسلام دين قومي أممي, وقد استند نهوضه الى العرب وجاء بلغتهم, و أن نهضت هذه العقيدة كانت بشكل ما داعما لنهضة قومية, وأن حركة التأليف التي تواشجت مع ظهور العقيدة الاسلامية كانت في حقيقتها داعمًا للأسس التي نهضت عليها تلك العقيدة وهي أسس عربية قومية تعلي من شأن الأمة العربية وتشد من أزرها. ثم يعود المؤلف الى نفي التعصب القومي عن العقيدة الاسلامية والأمة العربية , فكلتا القضيتين نهضتا مع بعض واستفادتا من مزيات بعض. ثم انتقل محمود الجادر الى حديث عن دور الآخر في إثارة دواعي التأليف داخل النفس العربية, فعملية التأليف بشكل ما جاءت لصد المد الشعوبي المعادي للأمة العربية, فحرصهم على التراث العربي وسعيهم لتنقيته مما لحق به من تلك الأيادي العابثة , وقد استند المؤلف العربي آنذاك الى "مناهج علمية كان ابتكارها إشارة حاسمة الى قدرة العقل العربي على إرساء أسس الحضارة " وإشارته الى أن بواكير التأليف جاء في سياق الدفاع عن العقيدة الإسلامية والأمة العربية ضد التمدد الشعوبي المعادي للنهضة العربية, ذلك كله يكشف عن أن هذه الأمة لم تكن في أي من أوقاتها معتدية, بل لازمت السلم مثلما لازمت الدفاع عن نفسها, وهو ما يميزها عن أمم كثيرة ظلت تتحين الفرص للتمدد والإيقاع بالأمم الأخرى.
يكشف المؤلف عن أن حركة التأليف جاءت ردة فعل على تمرد سياقي, وراح يؤكد ما ذهب اليه بتأمل طبيعة الحركة التأليفية, ففي مجال الشعر العربي "شمر العلماء لجمع ما حفظته ذاكرة الرواة من نصوص الشعر العربي القديم, وكان أكثر هؤلاء العلماء ممن اشتغل أولا بعلم الحديث الذي أرسوا له أسسًا منهجية لا موضع للحديث عنها هنا, فكان لهم أن يستعينوا بتلك الأسس في جمع الشعر وتصحيح صحيحه وإسقاط زائفه ومنحوله, واستعانوا فوق ذلك كله بأذواقهم الأدبية وملكاتهم النقدية ومعارفهم اللغوية حتى غدوا مصادر موثقة يؤخذ عنها ولا يؤخذ من سواها " فمحمود الجادر يرجع الوضع والانتحال اللذين داخلا الشعر العربي الى الآخر الشعوبي, في حين دافع العلماء العرب عن نقاء تراثهم الأدبي واللغوي وسعوا الى ازالة التشوهات التي طرأت عليه من خلال اللجوء الى منهج علمي عربي, ويدل على عربية المنهج تعابيره(أذواقهم الأدبية)(ملكاتهم النقدية)(معارفهم اللغوية), واذا كان المؤلفون الاخرون أرجعوا الانتحال الى عدد من الاسباب, فقد قصرها محمود الجادر على الآخر وعدائه للأمة العربية, كذلك جعل الانتحال عاملًا حاسمًا في حركة التأليف, فشعور العلماء آنذاك بالمسؤولية القومية دعاهم الى ذلك, ولعل دور الانتحال في حركة التأليف ندر الاشارة اليه والاهتمام به من لدن المنشغلين بتاريخ الأدب. وما يمكن فهمه مما سبق أن المؤلف وضع حركة التأليف في سياق حجاجي كبير, وما يميز هذه الدراسة تجاوزها البنية الحجاجية الصغرى التي ألفها القارئ في معظم الدراسات والتي تتوقف عند كتاب واحد, الى بنية حجاجية كبرى, فقد نظر الى تاريخ التأليف العربي في العصر العباسي في سياق جدال دائم مع الآخر الشعوبي الذي لم يكفه الاختلاف مع الانسان العربي بل سعى الى الغائه عبر تشويه تراثه. ويلجأ الباحث أحيانا الى التأويل لموضعة التأليف في سياق حجاجي, "فقد لجأ الشعوبيون الى وسائل خبيثة في محاولتهم تلك, إذ راحوا يزعمون أن العمل في علوم الدين والعقيدة أجدى من الانشغال بالشعر وإحياء نصوصه[...]وقد انبرى عدد غير يسير من العلماء للذود عن تراث الشعر العربي, فعقد ابن عبد ربه مبحثًا مطولا في كتابه(العقد الفريد) تناول فيه فضائل الشعر العربي[...]ثم راح يحتج بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والصحابة رضوان الله عليهم وأقوال السلف التي تمنح الشعر موقعه الطبيعي من تراث الأمة[...]وقد كان لابن رشيق أن يقف الموقف نفسه في كتابه(العمدة) الذي عقده برمته لخدمة التراث الشعري العربي " يبين المقتبس السابق ريادة الوعي العربي بخصوصية أمته وضرورة العناية بتراثها والحفاظ عليه من تحولات الحياة وعبث الدخلاء, كذلك أن رفض الشعوبيين للشعر وعلومه كان في حقيقته رفض لكل ما يرتبط بالأمة العربية, وان تشبثهم بالحديث النبوي؛ لان الاسلام لا يمثل العرب وحدهم بل هو دين أممي يضم عددا من القوميات, فحين يتمسكون بعلوم الدين انما يتمسكون بالقومية التي ينتمون اليها. وهو ما ينطوي على شكل من أشكال رفض العرب وتراثهم.
_______________________
* الهوية القومية في كتب الأدب العربي, د. محمود عبدالله الجادر, مجلة المورد, العدد4, لسنة 2000.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى