ألبرتو مورافيا - السرّ.. قصة قصيرة - ترجمة وتقديم: فوزي محيدلي

ألبرتو مورافيا - السرّ.. قصة قصيرة - ترجمة وتقديم فوزي محيدلي
لا تحدثني عن الأسرار! كان لديّ ذات يوم واحد من النوع الذي يجثم على الصدر وعلى الضمير كما الكابوس.
أنا سائق شاحنة. ذات صباح ربيعي جميل وأثناء نقلي حمل من الحجارة البركانية من منجم قريب من كمباغنانو الى روما، قدت الشاحنة مباشرة صوب رجل قادم في الاتجاه المعاكس فوق دراجة نارية. كان ذلك عند الكيلومتر 25 من طريق كاسيا القديمة. لم يكن هو المسبب للحادث. بقيت أسير في الجانب الخطأ من الطريق لفترة طويلة بعد أن تجاوزت إحدى السيارات فيما بدت سرعتي ملحوظة. كأنما هو يسير الى اليمين حيث مفترض به أن يكون، ويسير الى ذلك ببطء. صدمته الشاحنة بقوة الى حد أنني بالكاد ملكتُ الوقت الكافي لرؤية شيء أسود يطير عبر الهواء الأزرق ويسقط من ثم أسود هامداً مقابل البياض الرائق لحفل من زهر الربيع. سقطت الدراجة النارية على الجانب الآخر من الطريق، وإطاراتها الى الأعلى في الهواء، كما حشرة ميتة.
ما كان مني إلا أن أخفضت رأسي ودست بقوة على البنزين. مزّقت بسرعتي المسافة المتبقية الى روما ومن ثم رميت حمل الشاحنة في الباحة.
في صبيحة اليوم التالي حملت الصحف النبأ: المدعو كذا وكذا البالغ 43 سنة الذي يعمل بأشغال حرة صدمته سيارة عند الكيلومتر 25 من طريق كاسيا وقتل على الفور. لم يتعرف أحد على هوية من صدمه. السائق هرب من مكان الحادث كما يفعل الشخص الجبان. هذا ما قالته إحدى الصحف بالضبط: «كما يفعل الجبان». فيما عدا تلك الكلمات الثلاث التي ولّدت نارها حفرة بدماغي لم يستلزم إيراد مقتل للرجل سوى أربعة أسطر.
خلال اليومين التاليين لم يكن بمقدوري التفكير بأي شيء آخر. أعلم بأني سائق شاحنة، لكن من ذا الذي يمكنه الادعاء أن سائقي الشاحنات ليس لديهم ضمير يؤنبهم؟ لدى سائق الشاحنة الكثير من الوقت للتفكير ملياً بعمله الخاص أثناء جلوسه لساعات طوال وراء المقود أو تمدده داخل مضجعه في الشاحنة. وحين، كما في حالتي، لا يرضى ذاك الشغل الخاص صاحبه تماماً، يمكن للتفكير أن يغدو شاقاً الى حد كبير.
شيء ما بشكل خاص بقي يلح عليّ كما يفعل النق. لم أستطع أن أفهم لماذا لم أتوقف، لماذا لم أحاول مساعدة ذاك المسكين. عشتُ المشهد مرات ومرات. رحتُ أقدر المسافة ثانية قبل المرور بتلك السيارة. شعرت أني ضغطت بقوة على دواسة البنزين. من ثم رأيت جسد الرجل يطير أمام زجاجي الأمامي... وعند هذه النقطة ألجأ الى إغلاق الصورة، كما يحدث في الأفلام، وحينها أقول لنفسي «الآن إضغط على فراملك، إقفز من الشاحنة، أركض الى الحقل، إرفع الرجل، ضعه داخل سرير الشاحنة واهرع به الى مستشفى سانتو سبيريتو...».
لكن أيها المغفل المسكين، عدت الى الأحلام ثانية. لم أتوقف بل أكملت السير وقد أخفضت رأسي مثل ثور بعد تناطح.
من أجل عدم التطويل، بمقدار ما ازداد تفكيري بذلك الجزء من الثانية حين دست على البنزين بدلاً من الضغط على الفرامل، بمقدار ما عييتُ في تفسير الأمر. حالة جبن هذا كان التوصيف الصحيح. لكن لماذا الرجل الذي يملك، أو على الأقل يظن أنه يملك الجرأة، يتحول الى جبان من دون لحظة إنذار؟ ذاك أربكني. مع ذلك فإن الحقائق الباردة كانت في البال: الرجل الميت كان حقاً ميتاً. ذلك الجزء من الثانية الذي كان يمكن لي فيه أن أتوقف مرّ وكان يغور الآن مبتعداً أكثر فأكثر ولا أحد بمقدوره استرجاعه. لم أعد جينو الذي مرّ بتلك السيارة بل جينو آخر قتل رجلاً ومن ثم هرب.
أصبتُ بالأرق لليال عدة. صرت كئيباً وصامتاً وبعد فترة صار الكل يتجنبونني في باحة العمل وكذلك بعد العمل: تخيّلت أن لا أحد يودّ تمضية الوقت مع قاتل للمرح. لذا حملت سريري في الأرجاء كأنه ألماسة ممتازة لا يمكن أن يؤتمن أحد عليها.
بعد مدة بدأ تفكيري بسري يتضاءل حتى صار أقل فأقل، ويمكنني القول إنه جاء وقت لم أعد أفكر فيه بتاتاً. لكن مهما يكن بقي السير مختزناً في أعماقي وبقي حتى جاثماً على صدري ومعذباً لضميري، مانعاً إياي من الاستمتاع بالحياة. لطالما اعتقدت بإمكانية تحسن مشاعري لو أخبرتُ أحدا به. لم أكن أبحث بالتحديد عن موافقة أحد على ما فعلت أدركت واقعاً أنه لا يوجد عذر لما أقدمت عليه، لكن لو أنني تمكنت من إخبار أحد بسرّي هذا لعملت على رمي جزء من وزنه الثقيل على شخص آخر قد يساعدني في حمله. بيد أن السؤال يبقى: من أستطيع إخباره؟ هل لأصدقائي في باحة العمل؟ لدى أصدقائي أشياء أخرى يقلقون بشأنها أخبره لعائلتي؟ لم يكن لدي عائلة أتحدر منها كوني لقيطا. هل أخبر صديقتي. كان من المفترض أن تكون الشخص المنطقي لذلك الأمر لأن النساء، كما يعرف الجميع، جيدات في فهمك ومنحك التعاطف حين تحتاج اليه، لكن لسوء الحظ، لم تكن لدي صديقة.
[ II
ذات أحد من أيار ذهبت أتمشى خارج بوابات مدينة روما مع فتاة التقيتها قبل وقت من الآن حين أقللتها مع صديقة لها بشاحنتي. كانت قد أعطتني اسمها وعنوانها، ورأيتها من ثم بضع مرات. استمتعنا بتلك الصحبة وأوضحت لي أنني أروق لها وأنها مستعدة للخروج معي.
كان اسمها آيريس. كانت خادمة مولجة بالعناية بملابس وزينة سيدة لديها العديد من الخدم. من البداية جذبني وجهها الصغير البيضاوي وتلك العينان الكبيرتان الرماديتا اللون على شيء من الحزن. باختصار، ها هي الفتاة المطلوبة في الظرف القائم. بعد أن شرب كل منا فنجان قهوة في طابق المعارض مع كل تلك الأعمدة من حولنا، وافقتْ أخيراً بطريقتها الخجولة، الصامتة والرقيقة على الخروج والذهاب معي للجلوس على مرجة غير بعيدة من بوابة القديس بولس، حيث بمقدور الشخص أن يحظى بمنظر بديع لنهر التيبر ولأبنية الشقق المفروشة الجديدة المدروزة على الضفة المواجهة. فَرَدَتْ محرمة فوق العشب وقاية لتنورتها من الاتّساخ وجلستْ بصمت وساقاها مثنيتان تحتها، ويداها في حضنها فيما عيناها تحدقان في البنايات البيضاء التي الى الأمام على الجانب الآخر من النهر.
لاحظت وجود أعداد كثيرة من زهرة الربيع وسط الحشائش التي حولنا، ومثل لمح البصر خطر في بالي بياض تلك الزهور الأخرى التي شاهدت بينها منذ شهر جسد ذاك الرجل المستلقي ساكناً وميتاً والذي قمت أنا بصدمه. لم أدر ما دهمني لكن فجأة لم يعد بمقدوري منع نفسي عن إخبارها بسري. قلت لنفسي لو أنني أخبرتها سأتخلص من الحمل الذي يجثم فوق صدري. لم تكن واحدة من أولئك الطائشات، الفارغات الرأس، اللواتي بعد أن تخبر إحداهن سراً، تجعلك تشعر بحال أسوأ فتقرّع نفسك لإخبارها بكل ما في جوفك. كانت إنسانة لطيفة ومتفهمة، نالت من دون شك نصيبها من اللطمات في الحياة ولا بد أنها كانت لطمات قاسية إذا افترضنا أن تلك النظرة الحزينة الضئيلة فوق وجهها تعني شيئاً. لمجرد كسر الجليد، قلت لها بطريقة ارتجالية: «ما الذي تفكرين به، يا آيريس؟».
كانت قد رفعت للتو يدها لكتم حالة تثاؤب طارئة. لعلها كانت مرهقة. أجابت: «لا شيء».
لم أسمح لذلك الجواب أن يثبطني فأكملت مسرعاً «يا آيريس، أنت تعلمين أنك تروقين لي كثيراً، أليس كذلك؟ لذا أشعر أني يجب ألا أخفي عنك شيئاً. يجب أن تعرفي كل شيء عني. يا آيريس، أحمل في داخلي سراً».
تابعت النظر الى البنايات الطويلة على الضفة الأخرى من النهر، ممررة طوال الوقت أصبعها فوق كتلة حمراء صغيرة على ذقنها، مثابة بثرة ربيعية صغيرة جداً.
«أي سرّ؟» سألتني.
بجهد واضح نطقت بالكلمات: «لقد قتلت رجُلاً».
لم تحرّك ساكناً بل استمرت في نخسها الناعم لذقنها. من ثم انتفضت كلها، وكأنها أدركت أخيراً ما قلت. «قتلت رجلاً؟ وتخبرني بالأمر بكل هذه البساطة؟».
«وبأي طريقة أخرى تتوقعين مني إخبارك؟».
لم تقل شيئاً رداً على ذلك السؤال. بدت تنظر الى شيء على الأرض. «لنوضح الأمر. لم أقصد قتله».
فجأة وجدتْ ما أرادت: التقطت ورقة عشب طويلة، وضعتها في فمها وراحت تمضغها مستغرقة في التفكير. من ثم بسرعة ومن دون إخفاء شيء، أخبرتها عن الحادث، مبرزاً ذلك الجزء المتعلق بجبني. إنفعلت رُغماً عني، لكني كنتُ قد بدأت أشعر بالارتياح. سألتها باحثاً عن استنتاجها:
«الآن أخبريني ما رأيك بكل هذا؟».
تابعت قضم فصل ورقة العشب من دون أن تتفوه بكلمة.
استمررتُ في الكلام بإصرار. «أراهن أنكِ لا يمكن أن تحتملي منظري بعد الآن».
قامت بهز كتفيها قليلاً. «ولماذا لن أكون قادرة على تحمّل منظرك؟».
«حسناً، لا أدري. ما أقصد انها كانت غلطتي بمقتل ذلك المسكين».
«وهذا يزعجك؟»
«أجل، بشكل فظيع»، فجأة، أطبق حلقي على ما يشبه عقدة من الدموع. «أشعر وكأني لا استطيع الاستمرار في العيش. لا يمكن للشخص ان يحيا اذا كان يعتقد انه جبان».
«هل ورد الخبر في الصحف؟»
«أجل. لقد ورد في أربعة أسطر. ما يكفي من الكلمات للقول فقط بأنه قتل وأن احداً لم يعلم من الذي صدمه».
سألتني فجأة، «كم الوقت الآن؟»
«الخامسة والربع».
فترة صمت أخرى. «أصغي، يا آيريس، ما الذي على رجل مثلي ان يفعله ليعلم ما يدور في ذهنك هذا؟»
نقلت ورقة العشب من احدى زاويتي فمها الى الأخرى ثم قالت بصراحة: «حسناً، اذا شئت ان تعرف، لا افكر في شيء.اني على ما يرام ولا شيء في ذهني».
لم اصدق ما سمعته اذناي. احتجبت قائلاً، «لا يمكن ان يكون ذلك هو الواقع! لا بد انك كنت تفكرين بشيء بخصوص شيء ما. اني متأكد من ذلك».
شاهدت شبه ابتسامة بدرت منها. «حسناً في الواقع، كنت افكر بشيء ما. لكن اذا اخبرتك، لن تصدق الأمر». بشيء من الأمل سألتها، «هل كان ذلك عني؟»
«يا الهي، لا! لا علاقة بما كنت افكر فيه بك أنت».
«بما كنت تفكرين اذن».
قالت بكلام متمهل، «كان شيئاً من الأشياء التي وجدها النساء تفكر فيه. كنت أنظر الى حذائي فرأيت الثقوب فيه. فكرت ان ثمة تصفية كبيرة في محلات فياكولادي ريانزو وأن علي الذهاب في الغد الى هناك لأشتري سكربينة جديدة. هاك ما كنت.. هل انت راض الآن؟»
هذه المرة اطبقت فمي كما الصدفة، ووجهي ممتقع ويوحي بكلام ما.
لاحظت ذلك فقالت بدهشة: «آه، يا عزيزي، أنت لست مجنوناً، اليس كذلك؟»
لم استطع تمالك نفسي: «طبعا، انا مجنون، مجنون جداً، اخبرك بسرعمري، ولا يترك ذلك سوى تأثير خفيف جداً عليك مما يجعلني أتساءل لماذا لم احتفظ به لنفسي؟».
هذا أثار حفيظتها قليلاً فقالت: «لا، إني مسرورة لاخبارك» لي بالامر، لقد كان لذلك حقاً تأثير علي».؟
«حسناً، أي نوع من التأثيرات؟»
فكرت بالأمر لهنيهة ثم قالت بتمهل، «حسناً، أتأسف لحدوث شيء كهذا لك. لا بد انه كان أمراً مريعاً!»
«هل هذا كل ما عندك لتقوليه؟»
«أعتقد أيضاً، اضافت وهي تتحسس بأصبعها البثرة على ذقنها، «انه من الصواب ان يضايقك ذلك».
«لماذا؟»
«حسناً، هذا ما قلته انت بنفسك، كان يفترض بك التوقف لمساعدته لكنك لم تفعل».
«إذن تعتقدين أني جبان؟»
«جبان؟ «حسناً، أجل.. ومن جهة أخرى لا شيء كهذا يمكن ان يحدث لأي شخص».
«لكنك قلت للتو أنه كان يجدر بي التوقف»!
«كان يجدر بك ذلك، لكنك لم تفعل.»
«هنا لاحظت نظراتها تتركز على شيء موجود فوق احدى زهرات الربيع «أوه أنظر! يا لجمالها!».
كانت حشرة، خنفساء خضراء وحمراء تستريح فوق البتلات البيضاء لزهرة الربيع. فجأة شعرت وكأني أفرغت من الافكار ـ كأن ذاك السر الذي عذبني طويلاً اختفى في هواء الربيع محمولاً الى البعيد كما الفراشات البيضاء التي كانت ترفرف ازواجاً تحت الشمس.
مع ذلك، ومع رجاء اخير عنيد، سألتها: «لكن اخبريني، يا آيريس، برأيك الخاص،هل كنت على صواب ام على خطأ بعدم توقفي؟».
«كنت على صواب وعلى خطأ، بالطبع كان عليك التوقف، فأنت والحق يقال قد صدمته، لكن من جهة أخرى، ما النفع الذي كان سيتأتى من توقفك؟ بأي حال، كان قد فارق الحياة عندها وكنت ستوقع نفسك في ورطة لو توقفت كنت مصيبا ومخطئا على السواء».
بعد هذه الكلمات الأخيرة لمعت فكرة في رأسي: «هذه نهاية آيريس: لن أدعوها للخروج معي ثانية، كنت اعتقد أنها فتاة ذكية، متفهمة، لكنها ليست سوى فتاة ذات ذكاء متوسط، هذا يكفي». وقفزت واقفاً.
«هيا، لنذهب»، قلت لها، «والا سنتأخر على موعد الفيلم».
لما صرنا داخل قاعة السينما، قامت وسط الظلام بجعل يدها تنسل الى يدي ثم شبكت اصابعها باصابعي، لم احرك ساكناً، الفيلم كان عبارة عن قصة حب محركة للدموع، حين اضيئت الأنوار عند نهاية الفيلم، لاحظت أن عينيها الرماديتين والكبيرتين مليئتان بالدموع ووجنتيها مبتلتان. «لم استطع تمالك نفسي»، قالت وهي تمسح الدموع عن وجهها بمحرمة. «افلام كهذه لطالما دفعتني الى البكاء».
بعد الفيلم قصدنا مشربا طلبت هي فيه فنجان قهوة، جلست قربي بشكل لصيق حتى تلامس جسدانا، ما ان اطلقت ماكينة الاكسبرسو ذلك الصوت حتى قالت بنعومة ظاهرة، «انت تعلم أني أحبك حقاً، اليس كذلك؟» قالت ذلك محدقة بي في نفس الوقت بتلك العينين الكبيرتين والجميلتين، شعرت اني اود ان اجيب: «جميل، اعلم انك تحبينني حقاً، لكنك ستدعينني احمل كامل ثقل سري ذاك وحدي! «بدلا من ذلك لم أقل شيئاً.
فهمت الآن اني لا أستطيع ان اطلب منها، او من اي شخص سواها، غير التعاطف، ليس أكثر.
أجبت بتنهيدة، أنا أحبك أيضا، كثيراً».
لكنها كانت قد توقفت عن الاصغاء الي. كانت تحدق في صورتها في المرآة التي خلف مكان وقوف معد القهوة وبدا عليها القلق وهي تمرر اصبعها فوق كتلة حمراء على ذقنها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى