ألبرتومورافيا - تسير نائمة

زوجي لا يعمل, بينما أشتغل أنا بالمحاماة. على أن القول بأن زوجي لا يعمل قول غير دقيق. صحيح أن زوجي لا يعمل, إلا أنه مشغول بأمور كثيرة. بل إنه من أكثر الرجال الذين أعرفهم انشغالا. بماذا؟
بتأليف وتطوير وتطريز مغامراته العاطفية المتعددة. باختصار شديد: مشغول بخيانتي. من ذا الذي يقول إن ممارسة الحب –وأقطع أنه مع أكثر من أمرأة في نفس الوقت, فقد أحصيتهن مرة فوجدت أنهن ثمانية- تعني عدم الاشتغال بشيء؟!. إن من يقول شيئا من هذا القبيل لهو ساذج –بغير شك- في شئون الحب! لا جدال أن زوجي يحتاج إلى كل وقت من أوقات فراغه –وغير فراغه- لكي يتفنّن في ابتداع الحيل التي تمكنه من التستر عني وعن كل امرأة من حوله يخونها, حتى لو أستدعى الأمر أن يسطو على أوقات نومه! ولقد تحملت خياناته طوال السنوات الخمس الأولى من زواجنا. لكنني –في النهاية- قررت الانتقام. كنت أستطيع بطبيعة الحال أن أطلب الانفصال لولا تلك العقبة الصغيرة: كنت أحبه!! وكان كلما خانني, كلما ترعرع حبي! وهكذا أضلني الحب عن طريق الانفصال, وهداني –بمنطق العشق الغريب- إلى طريق الانتقام. باختصار قررت أن أقتل زوجي.

لديّ خاصية معينة: أمشي أثناء النوم. كثيرا ما أنهض من فراشي في الليل وأسعى بوجه شديد الشحوب, ذي عينين رماديتين محملقتين في شرود, وشعر أجعد مبعثر على الكتفين, وذراعين ممدودتين, ويدين مطبقتين على رداء النوم حتى يظل مفتوحا كأنما أهب جسدي المهمل, وأنا أهيم في أرجاء البيت. زوجي و"لينا" الخادمة يعرفان علتي هذه, ويحرصان على عدم التعرض لي أثناءها. أطوف عادة بالحجرات, أفتح الأدراج, أبدّل في وضع الأشياء, وأتفادى –بالكاد- الاصطدام بقطع الأثاث. ثم أعود بعد ذلك إلى الفراش. وسيري أثناء النوم مشهور أيضا في العمارة, فقد خرجت ليلة من شقتنا وتوجهت إلى شقة الجيران وضغطت على الجرس!. ومن المعروف أن من يمشي أثناء النوم يستطيع –وهو نائم- أن يقوم بعمليات بالغة التعقيد, تستوجب فيما لو أراد أن يقوم بها في يقظته, قدرا من الوعي والقدرة أكبر من المألوف. وفي الواقع أن من يمشي أثناء النوم, يشبه إلى حد كبير الممثل الذي يؤدي دورا على خشبة المسرح. فهو يتقمص شخصية الدور في كل شئ, ومن أجل كل شئ. ففيه قدرات معينة ترقى إلى مستوى القمة, وأخرى تبدو كما لو كانت عاجزة. وكما يذكي الدور حواس الممثل, فإن الحلم الذي يعيشه السائر أثناء النوم يحكم دقة حركاته ويعصمها.

والآن تخيلت لو أن نوبة من نوبات المشي أثناء النوم قد انتابتني, وبدلا من القيام أثناءها بما أعتدت أن أقوم به – من تحريك الكراسي وفتح الأبواب والتنقيب في الأدراج – قمت ببساطة بقتل زوجي على طلقات المسدس!! إن السائرين نياما يفعلون هذا وأكثر! إن إطلاق من مسدس أسهل –مهما كان- من السير والذراعان متشنجان على حافة أحد الأسوار!! وسوف أعود –بعد ذلك- إلى سريري في حجرتي, وكأن شيئا لم يكن, لأصحو في اليوم التالي كي أجدني وحيدة في يأس محبب: أرملة!!
أتخيّل ثم أنفذ, أختار اليوم, وتأتي الليلة, وأتناول عشائي وحدي. كان زوجي قد غادر المنزل بعذرٍ واهٍ (عشاء رجالي لزملاء من خريحي نفس الدفعة) ليسهر مع واحدة من عشيقاته!. بعد العشاء, أذهب لأجلس في الصالون, وأقضي أربع ساعات أدخن. أشاهد التلفزيون, أقلب صفحات المجلات والجرائد. أشعر بكياني كله متجمد, متوتر, متوجع, ورأسي خاو تماما ولا أفكر في شيء على الإطلاق! من يدري؟ ربما أكون قد بدأت حال يقظة نوم! وعلى الساعة الواحدة صباحا يعود زوجي. أضمر له قدرا لائقا من ألفاظ السباب أستقبله بها حتى لو أنه توجه إلى الصالون كي يمنحني قبلة!. لكنه يتجه مباشرة نحو غرفته ويغلق على نفسه. ألجأ أنا الأخرى إلى غرفتي. أخلع ملابسي, أستلقي على سريري, وأقضي أربع ساعات أخرى أدخن في الظلام. من العجيب أن المء لا يستشعر نكهة السيجارة إلا إذا شاهد دخانها!, وعلى الساعة الخامسة أنهض –كما بيّت- من فراشي. أخلع القميص, وأسدل رداء شفافا على الجسد العاري. يبدو أن هذا جزء من الطقوس التي اعتدت أدائها خلال نوبات سيري أثناء النوم. إلا أن هناك جديدا هذه المرة: مسدس زوجي الذي أعتاد تخبئته في غمده, يقبع بثقله في قاع جيب ردائي الشفاف. أتردد, ثم بإرادة جامحة –كما ينطلق الممثل إلى خشبة المسرح تدفعه غمرة الحماس- أتوجه إلى الباب, أفتحه, أخطو إلى الدهليز. ممر ضيق بين صفين من دواليب الحائط رفوفها مكتظة بالكتب. ها أنذا في الضوء الخافت الصادر من مصباح ضئيل أتهادى مرمرية شاحبة. عيناي محملقتان شاردتان, شعثاء الشعر, يداي مطبقتان على طرفي ردائي المفتوح يتدفق منه الصدر, ورأسي مشدود إلى الوراء. هذه هي طريقتي حينما أسير نائمة. فكم صورّها لي زوجي هو و"لينا" مرارا. خطوة .. خطوة حتى أصل نهاية الممر حيث توجد غرفة "لينا" الخادمة العجوز. أفكر في أن أتراءى لها حتى أضمن –فيما بعد- شهادة في صالحي. أدير في بطْ قبضة الباب. أفتحه, أطل إطلالة جامدة بلا حياة. مفاجأة ! على الضوء غير المباشر الآتي من الممر, بدا سرير "لينا" غير مرتب إلا أنه خاو! الغطاءمكوم في ناحية وكأن "لينا" قد هبّت على حين غرّة!. يعترينب شك مزعج أن شيئا ما في مخططي قد أصابه الخلل! أظل أتمشى جامدة, بطيئة, شامخة كالروح. أطوف حمّام "لينا", حمامنا, ولا شيء!. أين عساها تكون قد ذهبت على الخامسة صباحا خادمتي؟! الشك في أن خللا غامضا قد أصاب مخططي يتمادى. أعقد العزم –رغم ذلك- على أن أنتقل إلى مرحلة تنفيذ الخطة, ولو بدون شهادة "لينا". ها أنذا أتهادى –من جديد- في الممر. أفسح الطريق معي لعادتي طبقا لرواياتهم لي عنها. أتوقف, أسحب كتابا من فوق أحد الرفوف, أفتحه, أتظاهر بالقراءة وأعيده مكانه. كل هذا تمويه فيما إذا كان هناك من يراقبني, ولكن من ذا الذي يراقبني!. ها هو باب زوجي, أدير مقبضه بحذر, أفتح, أطل, ياللعار!! "لينا" .. "لينا" المفقودة.. العجوز –وإن كانت نشيطة في عملها- راقدة فوق سرير زوجي؟! منقلبة على ظهرها عارية, تسند رأسها بمرفقها وتنظر نظرة ابتهاج –لها لا شك ما يبررها- إلى زوجي وهو ملقى على ظهره مستندا برأسه على الوسادة, ونصفه الأعلى خارج الغطاء.
مرة أخرى, أشعر أن شيئا ما ينتاب مخططي. هذا الذي أشهده ما كنت أتوقعه, ولا يمكن بصراحة أن يتوقع على الإطلاق. لكن ليس من الحكمة أن أتعمق الآن في هذا الإحساس المنغص, فإن أمامي ما هو أهم. إن هذه الخيانة الجديدة التي يقترفها زوجي مع الخادمة.. مع امرأة متقدمة في السن.. مع فرد يمكن اعتباره من أفراد العائلة.. فرد قرّبته مني وائمنته على أسراري.. هذه الفاحشة الأغرب من الخيال –وإن كانت ليست مستغربة من رجل كزوجي- يجب أن تنال الجزاء.

أقبض على الممسدس المستكن في قاع الجيب, أسحبه في بطء, أصوبه ناحية السرير وأفيق. إني واقفة أطل من النافذة مستندة بمرفقيّ على حافتها, أنظر إلى الحديقة. أمامي سد من النبات المتسلق الأسود الكثيف يعتلي السور المحيط بالمنزل. على ضوء مصباح في الشارع يبدو ركن من أركان الحديقة, مصطبة من الرخام أطفأت لمعته الرطوبة.. خميلة تحف بها الورود من كل جانب.. الحوض ونافورته التي تنبعث مياهها من صخرة صناعية تعلو المياه ضامرة القوام لامعة ثم تتساقط بإعياء في لجة الحوض. إن هذه اللحظة هي أكثر اللحظات هدوءا وعمقا وإنهاكا في الليل كله. لولا ذلك الخرير الصادر من ميله النافورة لتصورت أنني في حلم. لفحة برد وقشعريرة تسري في جسدي. أضم الرداء على صدري. أفطن فجأة أن المسدس ليس في جيبي. واضح أن نوبة من نوبات السير أثناء النوم قد أنتابتني, وأنني نهضت –في الحلم- من السرير وتوجهت إلى النافذة ففتحتها وأطللت, ولكن خطة قتل زوجي, أهي حالة من حالات المشي أثناء النوم؟! لا بد أنها ليست سوى حلم داخل الحلم!! حلمت أني تظاهرت بأني أحلم, وأني أطوف –كما أطوف في حالات المشي أثناء النوم- بأرجاء البيت. على أن هناك شي حدث خلال الحلم جعلني أتبيّن أنني لم أكن أتظاهر, بل كنت أحلم بالفعل!.
ماهو؟

واقعة الخيانة -التي لا يمكن تصورها– بين زوجي و"لينا". ذلك التصور المجنون الذي لم تمله إلا غيرتي العمياء!. على أية حال, لا استطيع أن اجزم بشيء. ربما يكون زوجي قد غالى في ممارسة دونجوانيته حتى ذهب إلى حد التعلّق بخادمة طاعنة في السن. وربما أكون قد أطلقت الرصاص فعلا, وربما أكون –بعد إطلاق الرصاص- قد تركت المسدس يسقط من يدي وعدت إلى حجرتي وأفقت!. لا أحد يدري!. إن التركيبة في مجموعها سراب خصب من الغيرة على أحلام اليقظة.. تركيبة لا تتيح لي أن أتصدى للواقع.

والآن .. أخشى أن أترك النافذة وأذهب لأتحقق مما حدث بالفعل.. وهكذا أظل ساكنة معتمدة بمرفقيّ على حافة النافذة.. أنظر إلى الحديقة ربما أكون في حلم لم أفق منه بعد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى