د. خيري دومة - ضمير المخاطب في السرد المصري المعاصر.. الجزء الثالث

(3) الضمبر النحوي والضمير السردي

ولا بد من التمييز هنا بطبيعة الحال بين الضمير السردي والضمير النحوي ( وإن كان الشكل السردي يشير بوضوح إلى الشكل النحوي للضمير). إن الضمير ( أو الشخص) بالمعنى النحوي، يعمل على مستوى الجملة، مستوى التلفظ المفرد، وهو يشير إلى التفرقة اللغوية بين المشاركين الثلاثة المحتملين في هذا التلفظ: الشخص الأول الضروري ( أي المتكلم الذي يقوم بفعل الكلام)، والشخص الثاني ( أي المخاطَب الذي يتجه الكلام إليه)، والشخص الثالث الاختياري ( أي الغائب الذي ربما يجري الكلام عنه). أما الضمير ( أو الشخص) بالمعنى السردي، فيعمل على مستوى البنية السردية، وهو شخص كما يقول جيرار جينيت، لا تقرره هوية الراوي وحدها، إنما يقرره أيضًا ذلك الشخص الذي يتكلم عنه الراوي داخل القصة (البطل، أو البطل المضاد..) .
لعل أبرز الخصائص البديهية والثابتة لضمير المخاطب في القص، أنه يقترن بوجود قوتين أو شخصين، أحدهما متكلم والآخر مخاطب، وبينهما إمكانية لتبادل الأدوار، بحيث يمكن أن يصبح المتكلم منهما مخاطبًا والمخاطب متكلمًا؛ ومن هنا فإن المكان الأساسي والبديهي لاستخدام ضمير المخاطب في القص، هو الحوار المباشر الذي يسجل ( بين علامتي تنصيص) ما قاله الأشخاص فعلاً لبعضهم البعض في الماضي.
أما أن ينتقل ثقل ضمير المخاطب إلى السرد بدلاً من الحوار، فإن هذا يعني أننا أصبحنا أمام شكل مختلف من الـ"أنت"؛ أولاً لأن قوة الكلام ومصدره ينتقل من الشخصيات المتحاورة إلى الراوي السارد، سواء كان يوجه خطابه إلى نفسه، أو إلى شخصية في القصة، أو إلى القارئ، أو حتى إلى شيء مجرد أو شخص مجهول؛ وثانيًا لأن المخاطبة تتم الآن في اللحظة الحاضرة، ولا تنقل خطابًًا وقع وانتهى فعلاً في الماضي؛ ومن ثم – وثالثًا - فإن القارئ والشخصيات (بمن فيهم الراوي نفسه) يشعرون جميعًا أنهم مُحْضَرون أمام هذا الراوي الذي يصدر عنه الكلام في النص؛ ورابعًا وأخيرًا لأن الكلام يفيض في اتجاه واحد: من الراوي المتكلم إلى المخاطب (أيًّا من كان)، ذلك الذي يُستدعى بقوة إلى النص، لكنه لا يستطيع أن يرد، أو يتبادل الأدوار مع هذا المتكلم كما يحدث في حالة الحوار.
ولعل هذا يفسر من ناحية، ما لاحظه بعض النقاد من ارتباط استخدام ضمير المخاطب في السرد المعاصر باستخدام الفعل المضارع الدال على الحضور، ويفسر من ناحية أخرى، ارتباطه بنوع الشعر الغنائي الذي يعلو فيه صوت المتكلم المغني على صوت المخاطَب الحاضر دون قدرة على الرد، كما يفسر من ناحية ثالثة، ارتباطه بسلطة المساءلة والاستجواب والاعتراف والهجاء والسخرية والانتهاك.. وكلها أمور نابعة من قدرته على " الفيض في اتجاه واحد"، دون رد، أو دون إمكانية للرد.
وتحاول أيرين كاكانديز Irene Kacandes، انطلاقًا من هذا المعيار ( أي إمكانية تبادل الأدوار، في مقابل الفيض في اتجاه واحد)، أن تصنف الاستخدامات المختلفة لضمير المخاطب في القص، سواء في أجزاء مختلفة من النص القصصي الواحد، أو في أنواع مختلفة من القص. وهي تضع هذه الأنواع المختلفة على خط بياني يمتد بين نقيضين، أحدهما يمثل الحوار المباشر ( حيث تكون هناك إمكانية كاملة لتبادل الأدوار)، والآخر يمثل المناجاة الخالصة ( حيث تختفي المؤشرات اللغوية الدالة على الحوار، ويتم التواصل عبر الفيض في اتجاه واحد فقط).
وبين هذين النقيضين المتباعدين تمتد تدرُّجات من استخدام ضمير المخاطب، تبدأ في أحد الطرفين من " الحوار المقتبس بنصِّه"، ثم الـ"حوار الخالي من علامات التنصيص"، وبعدها تأتي " القصص القائمة على رسائل متبادلة"، ثم " تلك القائمة على رسائل في اتجاه واحد من دون رد"، ثم " النصوص القائمة على مخاطبة الذات"، ثم " القصص القائمة على مخاطبة القارئ"، إلى أن نصل إلى أقصى الطرف الآخر، فنجد " القصص القائمة على المناجاة السردية التقليدية"، و" المناجاة السردية الحادة"، و" الخطاب مجهول المصدر"، أي الخطاب الموجه إلى " شخص ما" غير محدد، وهنا تصبح احتمالية الرد منعدمة، لا بسبب أن المخاطب غير قادر على الرد فحسب، بل أيضًا لأن المتكلم، أي مصدر الخطاب، مبهم هو الآخر .
وتتعدد الطرق والمعايير التي يمكن أن يتم على أساسها تصنيف النصوص المكتوبة بضمير المخاطب، إذ يمكن أن نعتمد معيار الشخص الذي تشير إليه " الأنت" ، هل هي شخصية الراوي؟ أم المروي عليه؟ أم القارئ؟ أم البطل؟ أم أنها تشير إلى " لا أحد" و" كل أحد" في الوقت نفسه؟ أم هي تشير إلى مزيج متداخل من كل هذه الشخصيات؟ هل يعتمد الخطاب السردي في النص صيغة " التجريد"، حيث يجرد المتكلم من نفسه شخصًا آخر ويتحدث إليه؟ أم يعتمد صيغة " الالتفات"، حيث يغير المتكلم اتجاهه فجأة ملتفتًا إلى مخاطَب جديد؟
وسنحاول هنا اعتماد معيار مختلف للتصنيف، يستفيد من التصنيف البلاغي ويتجاوزه، إذ يقوم على طبيعة الوظيفة التي يؤديها ضمير " الأنت"، والأثر العام الذي تتركه في النص السردي في مجمله، وليس في الجملة الواحدة أو العبارة الجزئية، وذلك بغض النظر عن الشخصية التي تشير إليها هذه الأنت.
لقد أشرنا إلى ارتباط ضمير المخاطب الذي يقفز على لسان المتكلم في النص، بحالة الانفعال الشديد الذي يقترب من المسّ الشيطاني، وهو انفعال يتخذ أشكالاً عدّة، تعكسها طريقة استخدام " الأنت". هل هي " أنت" تعكس حالة من النقمة، كما في " اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، و عطشى لماء البحر" لمحمد إبراهيم مبروك؟ أم حالة من العشق والدعاء والابتهال، كما في "رامة والتنين" و" الزمن الآخر" وكثير من كتابات إدوار الخراط ؟ أم حالة من الاعتراف العاشق المشوب بالسخرية، كما في " قميص وردي فارغ" لنورا أمين، و" السيقان الرفيعة للكذب" لعفاف السيد؟ أم هي حالة المساءلة والبحث التي تستكشف الأشياء في ضباب السُّكْر والذكرى، كما في " تصريح بالغياب" لمنتصر القفاش، و"الرسائل" لمصطفى ذكري، وقبل ذلك في فصول من " مالك الحزين" لإبراهيم أصلان؟ أم هي حالة العنف والفظاظة والرسائل المهترئة التي نراها في " أن تكون عباس العبد" لأحمد العايدي؟ أم حالة الهجاء الانتقامي المرتعب الموتور التي نراها في " انفجار جمجمة" لإدريس علي، و" السما والعمى" لمحمد داوود، و"ليلة عرس" ليوسف أبو رية؟ وكلها روايات تستخدم ضمير المخاطب، إن لم يكن في النص كله، ففي جانب كبير منه.
ومهما تكن الطريقة التي سنصنف بها هنا النصوص السردية المكتوبة بضمير المخاطب، ومهما تكن المعايير التي سنستند إليها في هذا التصنيف، فإن هناك أمورًا عامة يحسن الإشارة إليها من البداية، أهمها:
- أن ضمير المخاطب، وكل ضمير آخر من ضمائر السرد، لا يمكن أن يعمل وحده بمعزل عن الضمائر الأخرى، كما أن ضمائر السرد جميعًا، ليست سوى عنصر واحد من عناصر أخرى متراكبة ومتفاعلة، يتألف منها العمل القصصي في النهاية.
- أن السرد بضمير المخاطب أسلوب يتسم بالغرابة والصعوبة بالنسبة للسرد السائد، بحيث يبدو شكلاً غير طبيعي، ومن الصعب أن تحتمله النصوص الروائية الطويلة؛ ولهذا فإن معظم استخدامات هذا الضمير تقع في نصوص قصصية قصيرة، سواء كانت نصوصًا مستقلة مكتملة في ذاتها، أو فصولاً في روايات، أو فقرات من فصول، ونادرًا ما كتبت رواية كاملة بضمير المخاطب. لكنه حين يستخدم بكثافة في نص قصصي، يغير على نحو واضح من نغمة هذا النص واتجاهه العام.
- ولأنه أسلوب صعب وغريب وغير طبيعي في السرد، فإنه يبدو أسلوبًا خطرًا؛ لأن تجريبيَّتَه وجِدَّتَه تغري الكتاب المبتدئين باستخدامه بديلاً عن ضمير المتكلم، فتتحول قصصهم القصيرة إلى صور وخواطر تلغرافية موجزة. ولقد احتلت هذه الصور جانبًا مما عرف باسم " القصة القصيرة جدًا". وفيها نقرأ تلغرافات عاجلة يتوجه بها الرواة إلى أنفسهم، أو إلى القارئ المجهول، أو إلى شخصياتهم القصصية، أو إليهم جميعًا في اللحظة نفسها، ويفرغ هؤلاء الكتاب من تلغرافاتهم قبل أن يصل القارئ إلى درجة الارتباك. وتلك نصوص لا تنتمي في عمقها إلى الطبيعة المربكة لضمير المخاطب في السرد المعاصر، ويسهل أن تحولّها - بلمسة صغيرة - إلى نصوص مروية بضمير المتكلم أو الغائب، دون أن تفقد شيئًا ذا بال.
- أن للراوي المتكلم في معظم نصوص ضمير المخاطب الكلمة الأعلى والسلطة المهيمنة، مع أن ضمير " الأنا" قد لا يظهر على المسرح إلا نادرًا، تاركًا مكانه لضمير "الأنت".
- ولأن هذه السطوة الواضحة لـ"أنا" الراوي تقترن باغتراب ممض؛ فإن هذه " الأنا" تحاول الخروج من زنزانتها الانفرادية، وتستصرخ " الأنت"/الآخر، أو فلنقل إنها تهجم عليه وتقتحم عالمه المغلق. وهذا ما يجعل من صيغة ضمير المخاطب صيغة ذاتية رومانتيكية، ولكنها في الوقت نفسه تتجاوز- عبر السخرية وأشياء أخرى- الطابع الذاتي الرومانتيكي القديم.
- وهكذا، تبدو نصوص ضمير المخاطب جميعًا، وكأنها- على اختلافها الواضح - مجرد تنويعات على موضوع واحد، هو الذات المغتربة المنقسمة، التي يخاطب جانبٌ منها الجانبَ الآخر ، وتتحدث إلى الآخر في الوقت الذي تتحدث فيه إلى نفسها، سعيًا للفهم، أو طلبًا للمشاركة.
وستتوقف هذه الورقة عند نصين تأسيسيين، أسهما بشكل واضح في صعود هذه التقنية في السرد العربي المعاصر، هما " اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، و" رامة والتنين" لإدوار الخراط.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى