حسن إمامي - طبّاخ الجنرال.. نص سردي

أن تكتب عن جنرال فهو أمر ليس بمحمود. سيمتلك النفوذ والسلاح والسلطة والمال والمأمور بالتنفيذ. وأنت؟ لا تمتلك سوى قلمك وخيالك. وقد يسعفك الرقن فتسترسل في تصورات تستقيها من مشاهداتك ومقروءاتك، وكذا مسموعاتك.
لكنني أندهش من كون المسموع هنا كان له وقع أقوى من باقي المداخل: (هل لكوني لم أرَ شيئا؟). كان له وقع أقوى من باقي المداخل. ربما الصوت وسوسة وشوشة، إلهام ووحي، خبر يسري استراقا فيتسلّل مع السرعة بُراقا، فيستقر برّاقا، ويدق نواقيسه أبواقا.
ها أنت تقفقف. والقفقفة تذكر باصطكاك وقرع واهتزاز. تشاطح قلمك مراوغة، لكنك أصررت على المغامرة. وما دام الحديث هنا ليس عن الجنرال فسيكون حكيا عن طباخ الجنرال. ويا ما قرأنا لأسرار عبر قناة الأخبار المتسربة مع روائح الطعام أو تشوّط رؤوس ونفايات وإدبار. يا ما كانت مذكرات أطبائهم ومهرّجيهم ومستشاريهم أو ضحاياهم، طريقا لعكس الأدوار وإعادة صياغة هذه الأخبار.
كفانا ثأثأة مع الحروف أو سجعا مع الظروف، ولنترك للسيد الطباخ الكلمة والتعبير:
أنت تريد حديثا عن العجائب وأنا مللت حدّ التعب هذا الجهد رغم النعم والمراتب. أنت تبحث عن الغرائب في حياة الجنرال، وأنا أعلم أنه كم من طباخ إذا ما طال لسانه وتطاول على صاحب النعمة في غدوه ورواحه ومسائه، سيكون ضحية لسيده وولي نعمته، أو على الأقل سيخضع لتفتيش الضمائر وترهيب مراتب النفس حتى تعلم خطر التطاول على خبايا السرائر. والخطر أن مهنة الطبّاخ فيها اشتراك في الطعام، وهو أكبر عهد وصك ثقة يقام بين الخلائق والأنام. الاشتراك في الطعام اشتغال أحشاء واطمئنان على الأحياء والأشياء، وأمان على وبين الشركاء. يقابله في الدنيا والآخرة الغدر والخيانة والعقاب بالنار في هذه قبل الأخرى الآخرة.
هنا بيت القصيد. ففي مغامرة حكي الطباخ الجديد. إنما سيقتصر غفلة على المدهش والعجيب، واللذيذ والغريب، والمشتهى الذي لا يحب سامعُه منتهى. لن يكفيَك وصف الآيات والملحمات، ولا الأساطير والروايات. أنت تريد أن تعرف عن الجنرال من خلال طباخه. يا لفضولك الغريب !
إنّما أحذرك. إن كنت ممن يسيل لعابه لشهوات ووصفات الطبخ ولذيذه فاقتصر على مصاحبتي وطلبي ومؤانستي. اقتصر على زيارتي بعد انتهاء كل سهرات سعادة الجنرال. أعدُك بأنك ستأكل حتى التخمة إن كنت طفيليا، أو ستتذوق روائع الموائد العالمية إن كنت متذوقا عاشقا. وأنبّهك، فأنت ستأكل فتات الموائد رغم أنها مكتملة وطرية. ما رأيك؟
قد أبدأ الحديث عن حمية غذائية دقيقة وراقية. وقد تكون خيوطها مدخلا يفتح أنوار مصابيح أسراره الداخلية. ما يشتهيه بحسب الفصول والأماكن الجغرافية التي يتنقل لها، وما يشترطه في طريقة طبخها، وما تطوّر في تذوّقه فأصبح توازنا خاصا به ملائما لكيانه، وما يفرط فيه حتى إنك تصبح متهما بتسبّب تسمم أو إسهال أو حمى أو زيادة ضغط… وما يرضي ضيوفه وسهراته حتى إنك كذلك تركب متن شيء من حتى، لأن حتى تورطك في كل وضعية، فلا بد لك أن تسأل عن مدى إعجاب أو قَبول، ومدى ملاءمة ذوق أو قياس، ومدى كفاية الطلبات. والحديث عن الضيوف حديث عن مدارس عالمية في الطبخ والذوق والعرض والتقديم. فلك إن كنت طبّاخا أن تنجح خلال كل هذا.
ولأن المشترك في الطعام قطعة من الجنة أو النار، فإنك تكون على صلة بمائدة الأسرة وسهرات المساء والإفطار… وأخطر ما في الأمر أن يصبح الطباخ ضرورة في مرافقة الجنرال في كل الأسفار. فعن أي موطن تريد حديثه عن الجنرال؟
يعيش الطباخ مراحل تاريخ القصر الذي يعمل فيه، في مجده وأفوله، صحته وسقمه، أفراحه وأحزانه، عزلته واحتفالياته الجماعية الباذخة. يلامس نِعم الدنيا ولذائذ فواكهها وخضرها ولحومها وسمكها، يصنع العجائب بالوصفات، ويخضع لتكوينات مستمرة قد يموّلها من جيبه الخاص لأنها سرُّ عطائه واستمرارية قَبوله وإزاحته لكل منافس له في المنصب والمهمة. وقد تكون الثقة والدربة والتعوّد أكبر ما يضمن له البقاء مع الولاء والهناء مع الصمت في العطاء.
ولأن الحديث مع طباخ الجنرال قد يأخذ طابع المذكرات أو اليوميات، فما الذي سيميزها ويعطي الاختصار في بلوغ مراميها؟ سيشوقنا بأخذنا معه في رحلته الأولى:
ـ طيب. سآخذك إلى ضفاف بحيرة سد مائي. ولكي تعلم، فإنه أُريد لها أن تكون مكانا ترفيهيا للسياح ولجذب المستثمرين في مجال الصناعة السينمائية بمخرجيها وممثليها وتقنييها ذكورا وإناثا. أوَ تعلم بكم بيع المتر المربع؟ بعشرين درهما. أوَ تعلم من استفاد من العملية؟ علّية القوم. أوَ تريد أن تعرف أكثر؟ ابحث في الميدان جازاك الله خير أجرك.
هكذا كانت الإقامات الفاخرة والممتدة مع منبسط الرمال، تُسقى خضرتها الجديدة برشاشات وتخترقها قنوات مجاري مياه لتملأ المسابح وتنعش أرضيات ملاعب الغولف والحدائق المحيطة… جنة منفلتة من قحولة خصوصا إذا كانت الطريق بحرارة أشعة الشمس الحارقة والصخور اللافحة، والتي تقعسك وتخوفك، لكنها تدعوك للتحدي والمغامرة مع كل منعرج أو أفق منفلت مع سراب، ولو كنت آتيا من المطار القريب، ولو رافقك نجوم ونجمات السينما في الرحلة، ولو… إنك تشعر بمكان عالمي جديد يجمع الأجناس والمشهورين والمشهورات فنيا وسينمائيا. فكيف لعلّية القوم أن تضيع فرصة هذا التجاور، لكي تشعُر وتشعِر بالتفاخر؟
أرى خيالك سافر مع هذه الصورة، فلكي تعلم بأن طبّاخ الجنرال يسبقه في الرحلة بسويعات لكي يرتب داخل إقامة السد بما أحضره واستحضره وطلبه كل ما يشتهيه سعادة الجنرال.
سأدهشك !
مواسم الصيد في هذا السد الشريف تناسب زيارات سعادته له خلال فترات مفرقة في السنة. وسأفاجئك بقولي إن شاطئه الممتد طولا يجاور شاطئ شيخ صوفي كبير الشأن في السياسة والمعارضة، وشاطئ وإقامة مخرج أمريكي اشتهر بأفلامه بمواقع وأطلال وهندسة مدينتنا السينمائية. وإذا زامن حلول الشيخ حلول الجنرال يكون اللقاء الخاص بين من يمتلك قوة العسكر ومن يمتلك قوة الروح. يتْبَع الشيخ لخلوته الرفيعة قوم كثير من الرجال والنساء وهم من الأتباع. يقيمون الخيام وينتظرون برنامج الاصطياف الذي يسطّره الشيخ الكبير.
ـ لكن قل لي: كيف يتزود هذا من ذاك؟ أو.. حدّثني عن الشيخ أكثر. ماذا تقول؟
ـ أحمد الله أنني معفي من تحضير طلباته. لكن ما أعلمه وأكيد هو أن فندقا مصنفا بخمسة نجوم يتكلف بإطعامه وشرابه وطلباته. تُحضّر الوجبات يوميا له ولأتباعه. ولا أخفيك أمرا وعجبا، فإن أتباع الشيخ كثْر بحيث يصبح اصطيافه أو تخييمه قِبلة لهم كأنه موسم مبارك، حتى إن الأمن بجميع أجهزته يوضع للخدمة والأمن والأمان وتوفير النظام، فلا إزعاج حينئذ.
ـ مبارك؟
ـ تصوّر أن الماء الذي يستحم به أو يتوضّأ به الشيخ يوّزع بين الأتباع الذين يتهافتون على التبرك به والاستحمام به أو التوضأ والاغتسال. وأنا أقول دائما مع نفسي: تلك عادات الجهلة مع الأضرحة، فإذا هي مع الأحياء كذلك ! وبعودة الجنرال من جلسة الشيخ تتغير السهرة وبرنامجها. أطباق سمك وكؤوس من أثير.
ـ ماذا؟
ـ انتظر حقك في الآخرة، أو اذهبْ للذكر مع الشيخ، أفضل لك. أكون مطالبا خلال إقامته في بحيرة السد بنوعيات خاصة من التحضير. تجد رحلات جوية خاصة بها وأنواع سمك مطلوبة فيها، وجلسات شراب مغلقة إلا على البحيرة والشاطئ ونجوم السماء. فأكون الساهر على المراحل، لا أنام حتى تنتهي مقامات كل ليلة. وكل ليلة لها شأن خاص.
ـ كم من إقامة يمتلكها الجنرال؟
لا جواب.

(يتبع)
.../...

حسن إمامي




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى