هديل السهلي - الطريق

الساعة العاشرة صباحاً، تأخرت نصف ساعة كاملة، لو أنني نمت باكراً البارحة لكنت قد وصلت الآن. إذن سأعيد حساب الوقت من جديد. الساعة العاشرة صباحاً، دوامي يبدأ الآن، الطريق إلى العمل ستأخذ ساعة ونصف، الوقت سيضيع، لا يهمّني أبداً. أنا لن أذهب للعمل أساساً. سأذهب جنوباً. مغرية شمس الجنوب اليوم، صفراء جداً، لأول مرّة أشعر بالبحر بثلاثة ألوان والرابع أصفر، اللون الأزرق الداكن، الأزرق الفاتح ويأتي بعده اللون الفيروزي، الأقرب إلى الخط الفاصل. لونه المفضّل ولون خاتمي، خاتم حظّي.

من البديهي أن تقف أمي ربيعة يومياً عند الباب وتسألني "قديش راح تضلك بالشغل يمّا؟" وأجيبها "مش حطوّل، عالتلاتة حكون"، "الله يرضى عليكي يما ويستر عليكي" . أضحك في سرّي من سماع آخر دعوة، فأمي لا تدري أني سأغيّر طريقي جنوباّ عوضا عن بيروت وربما سأبيت في حضن شاب إذا توفر لي. وحدها صلوات أمي ودعواتها تحميني من الفضيحة دوماً، وتحميني من التعلٌق بشيء، لكن لم يحمني أحد من خيال الذاكرة الدائم، خيال ذاكرة الحرب، حتّى صلوات أمي.

كم تغنّينا بـ " الجنوب " في ذكرياتنا، حدوده مع فلسطين، خضرته، لون عشبه، الرائحة المنبعثة من بين الأزقّة. رائحة شهيد أو شهيدين أيام الحروب مع العدو، وكم تغنّيت بك يا حبيبي! أعلم أنّك أخفيت وجودك في نفس البلد عني شهوراً عديدة، أنت لا تريد رؤيتي وهذا واضح جداً، تخشى ذاكرتك يا عزيزي، لا أكترث، أريد أن أراك لأني أريد أن أراك. أنت تذكّرني بأشياء جميلة فقط. كل شيء في شخصيتي تطّور، بتّ آخذ قراراتي بمفردي، أستيقظ على صوت منبه الجوال وليس الساعة، أصرف على نفسي، أعيل طفلاً صغيراً، أحبّ من أريد وأهوى من أريد، كل شيء تغيّر، كل شيء يا حبيبي، حنيني إلى الوطن خفّ كثيراً، أصبحت أستطيع السيطرة على كومة المشاعر، نوبات الحزن لم تعد تأتيني، لم أعد أشتاق لشباك بيتي، استطعت كبح جماحي كي لا أعود إلى دمشق، شققت طريقاً صعباً هنا، تخليّت عن قلاع عديدة وبنيت ثوابت جديدة، تخلّيت عن الاستماع إلى ما يقوله الناس، لم أعد أخشى شيئا سوى العودة متأخرة خوفاً من صوت أمّي.

خوفاً من فقدان الصلة معك سأعترف لك بسر خطير، هل سمعت كل ما قلته قبل قليل؟ محض خيال هذا إن لم أرك. أتدري أني لا أحبك! أنت فقط صوت الروح القديمة بداخلي، صوت حارتي القديمة بشكلها القديم بعطرها القديم. عسى أن تحمل الضمّة منك ذخيرة أخرى لوقت آخر وعسى أن تكفيني أكثر، أنا لا أحبك! أنا أحب تلك الحالة فقط كي تكتمل داخلي. اقتربت إلى الفندق قبالة "المينا"، دخلت إلى الغرفة، وجدتك، اشتممتك قليلاً ،واشتممتني قليلاً، لماذا تخاف من ماضيك؟ أوجدت ما فقدته مثلي؟ لا تخشَ شيئاً، أنا لم أعد أخشى سوى انتظار أمي لي. عدت لأحسب الوقت جيّداً، أمي تنتظرني الآن عند باب منزلي، سأذهب إلى أمي، سأراك لاحقاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى