إيتالو كالفينو - بنات القمر.. ت: أماني لازار

محروماً كما عهده من غطاء هوائي يعمل كدرع وقائي، وجد القمر نفسه عرضة منذ البداية وبشكل مستمر لقصف النيازك ولعوامل التآكل من أشعة الشمس مباشرة. وفقا لتوماس جولد من جامعة كورنل، تحولت الصخور على سطح القمر إلى مسحوق عبر استنزاف مستمر من جسيمات نيزكية. وفقا لجيرارد كيبر من جامعة شيكاغو، هروب الغازات من ماجما القمر ربما منحت للقمر ضوءً بقوام اسفنجي مثل ذلك الذي للحجر الخفاف.

أقر قفوفق[1] أن القمر طاعن في السن، مجوف بالثقوب، بالٍ. يتدحرج عارياً عبر السماوات، إنه يتآكل ويخسر لحمه مثل عظم منخور. هذه ليست هي المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا الأمر. أتذكر أقماراً كانت حتى أكبر وأكثر بِلىً من هذا القمر، لقد رأيت قدراً كبيراً من هذه الأقمار، رأيتها تولد وتجري عبر السماء وتنقرض، واحد مثقوب من برَد الشهب، وآخر ينفجر من كل فوهاته، وأيضاً آخر ينضح قطرات من عرق التوباز الملون الذي تبخر من فوره، ومن ثم مغطى بغيوم مخضرة ويتناقص إلى أن يذوي، قوقعة اسفنجية.

ليس سهلاً وصف ما يحدث على الأرض عندما يموت قمر، سأحاول أن أفعل باللجوء إلى آخر حالة يمكنني تذكرها. وصلت الأرض عقب فترة طويلة من التطور إلى ما يقارب الطور الذي نحن فيه الآن، أي أنها دخلت مرحلة تبلى فيها السيارات بسرعة أكبر من نعال الأحذية. كانت الكائنات بالكاد أشياء مصنعة بشرياً تباع وتشترى، وقد غطت المدن اليابسة بلون مضيء. نشأت هذه المدن في نفس الأماكن تقريباً التي تنشأ مدننا فيها الآن، مهما اختلف الشكل الذي كان للقارات. كانت نيويورك هناك حتى أنها بدت تشبه بشكل ما نيويورك التي يعرفها جميعكم، لكنها كانت أكثر جدة، أو بالأحرى مغمورة أكثر بمنتجات جديدة، فراشي أسنان جديدة، نيويورك بمانهاتن التي توسعت بكثافة بناطحات السحاب النيرة مثل الشعيرات البلاستيكية لفرشاة أسنان من نوع جديد.

في هذا العالم حيث كل شيء كان يتم التخلص منه عند أدنى إشارة للتهشم أو القدم، عند أول انبعاج أو تبقع، ويستبدل بجديد ومثالي، كان هناك ملاحظة واحدة خادعة، ظل واحد: القمر. لقد تجول عبر السماء عارياً، متآكلاً، ورمادياً، غريباً أكثر فأكثر عن العالم هنا في الأسفل، أثراً من طريقة وجود تم هجرها الآن.

لا تزال تعابير قديمة من مثل ” قمر كامل”، ” قمر الربع الأخير” مستعملة لكنها لم تكن حقيقة سوى مجازات كلامية: كيف يمكننا أن ندعو بالكامل الشكل الذي كان مليئاً بالشقوق والفجوات والذي بدا دائماً أنه يكاد يتحطم على رؤوسنا بحمام من الأنقاض؟ ولا حاجة لتذكر عندما كان قمراً أمحقاً! كان يتضاءل إلى نوع من قشرة جبنة مقضومة، ويختفي دائماً قبل أن نتوقع منه ذلك. عند كل قمر جديد، نتساءل فيما إذا سيعاود الظهور (كنا نأمل بأنه سيختفي ببساطة؟)، وعندما ظهر من جديد، بدا شبيهاً أكثر فأكثر بمشط فقد أسنانه، أشحنا بنظرنا رعباً.

كان مشهداً يبعث على الكآبة. خرجنا في حشود، أذرعنا مثقلة بالرزم، تروح وتغدو من المخازن الكبرى التي كانت مفتوحة ليلاً نهاراً، وبينما كنا ننعم النظر في إشارات النيون التي ارتفعت أعلى وأعلى ناطحات السحاب ونبهتنا باستمرار إلى منتجات جديدة تم إطلاقها، رأيناه فجأة يتقدم، شاحبا بين تلك الأضواء الباهرة، بطيئاً ومريضاً، ولم نستطع أن نشيح بأفكارنا عنه ذلك أن كل شيء جديد، كل منتج اشتريناه للتو، يمكن له أن يبلى بشكل مشابه، يفسد، يتلاشى، و لسوف نفقد الحماسة للجري هنا وهناك لشراء الأشياء و العمل بجنون – خسارة لم تخلو من العواقب على الصناعة والتجارة.

تلك كانت الطريقة التي بدأنا بها النظر في مسألة ما علينا فعله معه، هذا القمر ذو النتائج العكسية. إنه لا يفيد أي غرض، لقد كان خراباً عديم النفع. عندما بدأ بخسارة وزنه، انحرف مداره نحو الأرض: لقد كان خطراً، متجاوزاً أي شيء آخر. وسرعان ما تباطأ مساره، لم يعد بإمكاننا حساب مراحله. حتى الروزنامة، إيقاع الشهور، أصبحت اصطلاحية وحسب، مضى القمر قدماً على نحو متقطع وغير منتظم كما لو أنه على وشك الانهيار.

في ليالي القمر المنخفض هذه، بدأ أناس من ذوو المزاج الأكثر تقلباً بالقيام بأشياء غريبة. كان هناك دوماً متسرنماً يمشي على حافة تصوينة ناطحة سحاب وأذرعه ممدودة نحو القمر، أو مستذئباً يبدأ بالعواء في وسط ساحة التايمز، أو مصاب بهوس إشعال الحرائق يشعل ناراً في مخازن رصيف الميناء. كانت هذه الحوادث في ذلك الوقت شائعة حتى أنها لم تعد تجذب الحشد المعتاد من الفضوليين، لكن عندما رأيت فتاة جالسة بكامل عريها على مقعد في المتنزه المركزي كان عليَّ أن أتوقف.

كان لدي شعور بأن أمراً غريباً ما كان على وشك الحدوث حتى قبل أن أراها وأنا أقود سيارتي عبر السنترال بارك، عند عجلة سيارتي المكشوفة شعرت بنفسي استحم في ضوء يخفق مثل ذلك الذي لمصباح الفلورسنت تنبعث منه سلسلة من ومضات شاحبة مرتجفة قبل أن يضيء بشكل كلي. كان المنظر من حولي مثل ذلك الذي لحديقة غاصت في حفرة على سطح القمر. جلست الفتاة العارية بجانب بركة تعكس قطعة من قمر. توقفت لثانية فكرت بأني تعرفت عليها ركضت خارجاً من السيارة نحوها لكن حينها تجمدت. لم أعرف من تكون، فقط شعرت بأن عليَّ فعل شيء من أجلها في الحال.

كان كل شيء متناثراً على العشب حول المقعد: ثيابها، جوربها وحذاؤها هنا والفردة الأخرى هناك، قرطيها، عقدها، وأساورها، محفظة وحقيبة تسوق والمحتويات مسفوحة في قوس عريض، وحزم لا تعد وسلع، كما لو أن المخلوقة شعرت بنفسها مدعوة في طريق عودتها من فورة التسوق الباذخ ورمت كل شيء مدركة أن عليها تحرير نفسها من كل الأشياء والرموز التي تربطها إلى الأرض وكانت الآن تنتظر دخولها في المجال القمري كما هو مفترض.

ماذا يحدث؟ تلجلجت. هل بإمكاني مساعدتك؟

مساعدة؟ سألت، وعيناها تحدقان للأمام. لا أحد يمكنه تقديم المساعدة. ما من أحد يمكنه فعل أي شيء. وكان واضحاً أنها لم تكن تتكلم عن نفسها بل عن القمر.

كان القمر فوقنا، محدباً يكاد يسحقنا، سطح مدمر مرصع بالحفر مثل مبشرة الجبن. بدأت الحيوانات في الحديقة -عند تلك اللحظة تماماً-بالزمجرة.

هل هذه النهاية؟ سألت بشكل آلي، وحتى أنا نفسي لا أعلم ما قصدت.

أجابت، إنها البداية، أو شيء من هذا القبيل. (تكلمت تقريباً دون أن تحرك شفتيها.)

ماذا تقصدين؟ إنها بداية النهاية، أو شيء ما آخر يبدأ؟

نهضت ومشت على العشب. بشعرها الطويل النحاسي اللون المتدلي على كتفيها. كانت شديدة الحساسية حتى أني شعرت بالحاجة لحمايتها بطريقة ما، أن أحجبها، وحركت يداي نحوها كما لو لأكون جاهزاً لالتقاطها إذا ما سقطت أو لأمنع أي شيء قد يؤذيها لكن يداي لم تجرؤان حتى على مسها وبقيتا دوماً على بعد عدة سنتمترات من بشرتها. وبينما كنت أتبعها بهذه الطريقة ماراً بحدائق الزهور أدركت أن حركاتها كانت مشابهة لحركاتي، ذلك أنها أيضاً كانت تحاول حماية شيء ما هش، شيء ما قد يسقط ويتشظى قطعاً. وذلك يتطلب بالتالي أن يساق نحو مكان يحط فيه بلطف، شيء ما لا يمكنها لمسه لكن فقط توجهه بنظراتها: القمر.

بدا القمر بائساً. وقد هجر مدار فلكه، لم يعد يعلم أين يذهب، استسلم ليحمل كورقة جافة. بدا أحياناً أنه يسقط نحو الأرض، وفي أحيان أخر يتمعج في حركة لولبية، ولا زال في أخرى يبدو أنه ينجرف وحسب. كان يفقد علوه، ذلك كان محققاً: لثانية بدا كما لو أنه سيتحطم في فندق البلازا، لكن بدلا من ذلك انزلق في الممر بين ناطحتي سحاب واختفى عن النظر في اتجاه نهر الهودسون. وعاود الظهور سريعاً بعدها على الجانب المقابل للمدينة، غادر فجأة من خلف سحابة عابراً هارلم والنهر الشرقي في ضوء طباشيري وتدحرج نحو البرونكس كما لو أن هبة ريح تمسك به.
ها هو! صرخت. هناك-لقد توقف!
لا يمكنه التوقف! صاحت الفتاة، وركضت عارية حافية على العشب.
إلى أين أنت ذاهبة؟ لا يمكنك التجول بهذا الشكل! توقف! هيه، أنا أتكلم معك! ما اسمك؟

لقد صرخت باسم مثل دايانا أو ديانا، شيء ما يمكن أن يكون أيضاً تضرعاً. واختفت. رغبة في اللحاق بها قفزت عائداً إلى سيارتي وبدأت بالبحث في طرقات المتنزه المركزي.

أضاءت أشعة كشافاتي الأسوار، التلال، المسلات، لكن الفتاة ديانا لم تكن لتُرى في أي مكان. في ذلك الوقت كان عليَّ الذهاب بعيداً جداً: لابد أني عبرت بها، التفت لأعود نحو الطريق الذي قدمت منه. قال صوت من خلفي، ” لا، إنه هناك، واصل المضي!”

كانت الفتاة العارية جالسة خلفي على صندوق سيارتي تشير إلى القمر.

أردت أن أطلب منها النزول لأشرح أنه لا يمكنني التجول عبر المدينة معها وهي ظاهرة للعيان بتلك الهيئة، لكني لم أجرؤ على إلهائها، مصرة كما كانت على عدم الإشاحة ببصرها عن الوهج المتقد الذي كان يختفي ويعاود الظهور عند نهاية الطريق. وفي أية حال-وهذا كان حتى غريبا-ما من عابر بدا أنه يلحظ هذه التي بمظهر الأنثى الجالسة على صندوق سيارتي.

عبرنا واحداً من الجسور التي تربط مانهاتن بالبر. كنا في ذلك الوقت سائرين على طول طريق سريع متعدد المسارب، وسيارات أخرى بجانبنا، أبقيت عيوني محدقة نحو الأمام مباشرة، خوفاً من التعليقات الضاحكة والقاسية ذلك أن مشهدنا كان بلا شك مثيراً للسيارات من حولنا. لكن عندما تجاوزتنا سيارة سيدان كدت أخرج عن الطريق من هول المفاجأة: كانت رابضة على سطحها فتاة عارية وشعرها تطيره الرياح. فكرت لثانية بأن مسافرتي كانت تثب من سيارة مسرعة إلى أخرى، لكن كل ما فعلته كان أن أدرت رأسي بخفة شديدة لأرى أن ركبتي ديانا كانتا لا تزالان هناك عند مستوى أنفي. ولم يكن جسمها الوحيد الذي يتوهج قبالة عيني: الآن رأيت فتيات في كل مكان وقد انتشرن في أقوى الوضعيات، يتشبثن بالمشعات، الأبواب، وبرفارف السيارات المسرعة، جدائل شعرهن الغامقة أو الذهبية تتعاكس مع الومض المعتم أو الوردي لبشرتهن العارية. كان هناك واحدة من تلك النساء المسافرات الغامضات على كل سيارة وكلهن منحنيات للأمام، يستعجلن السائقين ليتبعوا القمر.

تم استدعائهنَّ من قبل القمر المهدد: كنت واثقاً من ذلك. كم واحدة منهن كانت هناك؟ المزيد من السيارات تحمل فتيات قمريات تجمعن عند مفارق الطرق وتقاطعاتها، تجمعن من كل أحياء المدينة نحو المكان الذي بدا أن القمر قد توقف فوقه. وجدنا أنفسنا عند طرف المدينة أمام باحة لسيارات الخردة.

تناهى الطريق تدريجياً نحو منطقة ذات وديان صغيرة، قمم، تلال، وذرى، لكنها لم تكن محيط الأرض الذي خلق السطح الوعر لكنها بالأحرى طبقات السلع المرمية: كل الأشياء التي استنفذتها مدينة المستهلك ونبذتها وبالتالي استطاعت أن تتنعم بمتعة التعاطي مع أشياء جديدة انتهت إلى هذه الحواري الغير جذابة في الحال.

بعد مرور عدة سنوات، ركام ثلاجات بالية، أعداد مصفرة من مجلة life، ومصابيح كهربائية محروقة تم تجميعها حول باحة أنقاض ضخمة. لاح القمر الآن فوق هذه المنطقة المتعفنة الخشنة وصفوف الحديد المجعد تعالت كما لو أنها حملت على مجرى عال. إنهما يشبهان بعضهما بعضاً، القمر المتداع وقشرة الأرض التي كانت قد التحمت في مزيج من الحطام، شكلت جبال خردة الحديد سلسلة أغلقت على نفسها مثل مدرج مسرحي. كان شكلها بدقة مثل ذلك الذي لفوهة بركانية أو بحر قمري. تدلى القمر فوق هذا المكان، وكان كما لو أن الكوكب وأقماره كانوا مرايا لبعضهما البعض.

توقفت محركات سياراتنا كلها: لا شيء يثير الرعب في السيارات بقدر ما تثيره مقابرها. نزلت ديانا وتبعتها كل الدَيَانات الأخرى. لكن بدا أن طاقتهن تتلاشى: تحركن بخطوات مترددة، كما لو أنهن في ايجاد أنفسهن بين تلك القطع من حديد الخردة، كان يستولى عليهن فجأة وعي بعريهن، طوت العديد منهن ذراعيها لتغطي صدرها كما لو أنها ترتجف برداً وفيما هن يفعلن ذلك انتشرن متسلقات جبال الخردة عديمة الفائدة ونزلن نحو المدرج حيث وجدن أنفسهن يشكلن حلقة ضخمة في الوسط ومن ثم رفعن جميعهن أذرعهن معاً.

تم تصميم الرافعة وبناؤها من قبل السلطات التي قررت تخليص السماء من عبئها السمج. لقد كانت رافعة يرتفع منها ما يشبه مخلب سرطان. تقدمت على خطى جرارها بدينة وقوية، تماماً مثل سرطان، وعندما وصلت إلى المكان الذي تم تحضيره للعملية بدا أنها تصبح أكثر بدانة حتى لتتشبث بالأرض بكامل سطحها. استدار المرفاع سريعاً ورفعت الرافعة ذراعها نحو السماء، لم يصدق أحد أنه يمكن بناء هذه الرافعة بهذه الذراع الطويلة. فتح جيبها كاشفا كل أسنانه الآن أكثر من مخلب السرطان لقد شابهت فم القرش. كان القمر تماما هناك. لقد تذبذب كما لو أنه أراد الهرب، لكن الرافعة بدا أنها ممغنطة ونحن نشاهد، القمر كان يكنس كهربائياً، كما كان يحط في مخالب الرافعة التي أغلقت عليه بصوت جاف-كراك! لثانية بدا كما لو أن القمر تفتت كحلوى الميرينج، لكن بدلاً من ذلك استقر هناك نصف في الداخل ونصف خارج مخالب الجيب. تسطح في شكل مستطيل، نوع من سيجار ثخين عالق في سن الجيب. نزل حمام رمادي.

حاولت الرافعة في هذا الوقت سحب القمر من مداره. بدأ المرفاع بالالتفاف بالاتجاه المعاكس: تطلب الالتفاف عند هذه المرحلة جهداً كبيراً. ظلت ديانا وصديقاتها بلا حراك وأذرعهن مرفوعة خلال هذه العملية، كما لو أنهن يأملن أن يهزمن مبادأة العدو بقوة حلقتهن. لكن بمجرد هطول الرماد من القمر المحطم على وجوههن وصدورهن بدأن بالتبدد. أفلتت من ديانا صرخة عويل مؤلمة.

في ذلك الحين فقد القمر الحبيس ما احتفظ به من ضوءٍ قليل: صار صخرة عديمة الشكل سوداء. كان ليتحطم على الأرض لولا أن سن المجرفة انتشله. حضَّر العمال في الأسفل شبكة معدنية كانت مثبتة إلى الأرض بأظافر طويلة، كانت الرافعة تنزل ببطء حمولتها حول المكان برمته.

لما وصل إلى الأرض، كان القمر جلمود صخر رملي تكسوه البثور، شديد الجفاف وكامداً، فكان من المستحيل التفكير أنه كان ذات مرة يضيء السماء بانعكاسه المشع. انفتحت مخالب المجراف، انكفأت الرافعة على عجلات جرارها وتقريباً نقفت إلى أعلى بينما كانت تتخفف فجأة من حمولتها. كان العمال جاهزين بالشبكة: أحاطوا القمر بها موقعين إياه بين الشبكة والأرض كافح القمر في سترة المجانين: باختلاج مثل ذلك الذي لزلزال تسبب بانهيارات لعلب فارغة لتنزلق من جبل النفايات. بعدها كان كل شيء في سلام من جديد. كانت السماء الخالية من القمر في ذلك الوقت مشبعة برشقات من الضوء من مصابيح كبيرة. لكن الظلمة كانت الآن تتلاشى بالفعل على أية حال.

وجد الفجر بطلوعه مقبرة السيارات وقد زادت حصتها من الأنقاض: القمر متروكاً في وسطها يكاد يصعب تمييزه عن الأشياء الأخرى الملقاة، كان له اللون نفسه ونفس المظهر المستهجن كشيء لا يمكنك أن تتصور أبداً أنه كان جديداً في وقت مضى. دوت خرخرة منخفضة عبر فوهة القمامة الأرضية: كشف ضوء الفجر سرباً من أشياء حية تصحو ببطء. مخلوقات مشعرة كانت تتقدم وسط هياكل الشاحنات المبقورة، العجلات المحطمة، المعدن المجعد.

عاشت بين الأشياء الملقاة جماعة من المنبوذين-كانوا أناس مهمشين، أو أنهم نبذوا أنفسهم طوعاً، أناس كانوا متعبين من الجري حول المدينة لبيع وشراء أشياء جديدة التي كان مقدر لها أن تهجر في الحال، أناس قرروا أن الأشياء التي تم رميها كانت الغنى الحقيقي الوحيد للعالم. هذه الشخصيات الهزيلة تطوق القمر في جميع أنحاء المدرج المسرحي، وقوفاً أو جلوساً، وجوههم محاطة بلحى أو شعر مشعث. كان حشداً رث الملابس أو بثياب غريبة وفي وسطه كانت دياناي العارية وكل الفتيات من الليلة السابقة تقدمن وبدأن بحل الأسلاك الفولاذية للشبكة من المخالب التي سيقت إلى الأرض.

صعد القمر في الحال مثل منطاد انطلق من سلاسله ملوحاً فوق رؤوس الفتيات فوق المدرج المليء بالمتشردين ومعلقاً هناك بشبكة الفولاذ التي كانت ديانا وصديقاتها تتحكم بأسلاكها فأحياناً تجذبها وأحياناً تتركها، وعندما بدأت الفتيات بالركض ظللن يمسكن بنهايات الأسلاك، القمر تبعهن.

بمجرد تحرك القمر بدأت موجة ما بالصعود من وديان الحطام، سحقت جيف السيارات القديمة مثل أكورديونات بدأت بالسير، تنظم نفسها في موكب مصدرة صريراً، وتدحرج تيار من العلب المحطمة معاً محدثاً ضجة كالرعد، ومع ذلك لا يمكنك أن تحدد فيما إذا كانوا يجرجرون أو كونهم مجرجرين بأي شيء آخر. يتبعهم هذا القمر الذي أنقذ من كومة النفايات، بدأت الأشياء كلها والناس الذين كانوا قد أقيلوا ليكونوا مقذوفين في زاوية بالانطلاق على الطريق مجدداً، زاحفين نحو الحواري الأكثر ثراءً في المدينة.

كانت المدينة في صباح ذلك اليوم، تحتفي بيوم شكر المستهلك. كان هذا العيد يعود في كل سنة، في يوم من تشرين الثاني، وقد وضع للسماح للمتسوقين بتقديم امتنانهم لمنتجات الله، الذي أرضى بلا كلل رغباتهم. نظم المخزن الأكبر في المدينة استعراضاً في كل عام: كان يعرض بالوناً ضخماً على شكل لعبة ملونة مبهرجة عبر الشوارع الرئيسية، تسحبه شرائط تمسك بها فتيات مكسوات بالترتر أثناء سيرهن خلف فرقة موسيقية. في ذلك اليوم، كان الموكب قادماً من الجادة الخامسة: أدارت الفتيات عصيهن في الهواء، قرعت الطبول الكبيرة والبالون الضخم ممثلا المستهلك القانع يطير بين ناطحات السحاب بإذعان يتقدم على زمام تمسك به فتيات بقبعات مزينة بشرابات وكتافيات مهدبة يقدن دراجات مزينة.

في الوقت نفسه، كان استعراض آخر يعبر مانهاتن. القمر المتعفن القشري كان يتقدم أيضاً مبحراً بين ناطحات السحاب مسحوباً من قبل الفتيات العاريات ومن خلفه جاء صف من سيارات مضروبة وهياكل الشاحنات، وسط حشد صامت كان يزداد حجمه تدريجياً منذ الساعات الأولى للصباح، أناس من كل الألوان، عائلات كاملة مع أطفال من كل الأعمار، بخاصة أن الموكب تقدم نحو مناطق مزدحمة بالسود والبورتوريكيين من هارلم.

عرج الموكب القمري حول المنطقة ومن ثم بدأ يهبط نحو برودواي ودخل بسرعة وبصمت ليجتمع مع الموكب الآخر الذي كان يجر بالونه الضخم على طول الجادة الخامسة.

عند ساحة ماديسون لاقى الموكب الآخر، أو بشكل أكثر دقة صار الموكبين موكبا واحداً. ربما يدين المستهلك القانع للتصادم مع سطح القمر الخشن المنكمش كخرقة مطاطية. على الدراجات الآن كانت الديانات يسحبن القمر بشرائط متعددة الألوان. أو بالأحرى وطالما أن عدد النساء العاريات سائقات الدراجات قد تضاعف على الأقل فلا بد أنهن قد رمين ثيابهن الموحدة والقبعات. تحول مشابه استبد بالدراجات والسيارات في الاستعراض. لم يعد بإمكانك أن تحدد أيها كانت السيارات القديمة وأيها الجديدة، كانت العجلات المتشابكة والرفرافات الصدئة مختلطة مع هياكل السيارات المشع كمرآة والمطلية تلك التي كانت تلمع كالمينا.

تغطت واجهات العرض خلف الاستعراض بشباك العنكبوت والعفن، بدأت مصاعد ناطحات السحاب بالصرير والـتأوه، اصفرت الملصقات الإعلانية، امتلأت حاملات البيض في الثلاجات بالكتاكيت، كما لو أنها كانت في حاضنة، ذكرت القنوات التلفزيونية عواصف جوية مدوِّمة. استهلكت المدينة نفسها عند الضربة: كانت مدينة يمكن التخلص منها ذلك أنها في ذلك الوقت تبعت القمر في رحلته الأخيرة.

وصل الموكب على وقع قرع الفرقة على علب الغاز الفارغة إلى جسر بروكلين. رفعت ديانا عصاها ودورت صديقاتها شرائطهن في الهواء، قام القمر بالانطلاقة الأخيرة عابراً القوس المشبك للجسر مائلاً نحو البحر محطماً في الماء مثل قرميدة وغارقاً، مرسلاً آلافاً من الفقاعات الصغيرة على السطح.

في هذه الأثناء، بدلاً من إفلات الشرائط، ظلت الفتيات ممسكة بها، رفعها القمر، مرسلاً إياها لتطير فوق التصوينة ومن على الجسر: رسمت أقواساً في الهواء كغطاسين اختفوا في الماء.

وقفنا وحدقنا في ذهول بعض منا على جسر بروكلين والآخرون على رصيف الشاطئ بين التوق للغطس في إثرهم وبين اليقين من أننا سنراهم مجدداً تماماً كما من قبل.

لم يكن علينا الانتظار طويلاً. بدأ البحر يهتز بموجات انتشرت في حلقة. ظهرت هناك في مركز هذه الحلقة جزيرة كبرت كجبل، كنصف كرة، ككرة ترتاح على الماء أو بالأحرى أقامت تماماً فوقه لا مثل قمر يعلو في السماء، قلت قمر حتى لو أنه لم يكن يشبه قمراً أبداً إلا ذلك الذي رأيناه يندفع في الأعماق قبل لحظات. بأية حال كان هذا القمر الجديد مختلفاً بطريقة مختلفة جداً، انبثق من البحر يقطر ذيلاً من طحالب متلألئة خضراء تصب الماء المنهال في نوافير من حقول منحته لمعان الزمرد. غطته غابة مشبعة بالبخار لكن ليس بالنباتات. بدا أن هذا الغطاء صنع من ريش الطاووس الممتلئ بالعيون والألوان المضيئة.

كان هذا المنظر الطبيعي الذي تمكنا أن نلمحه بالكاد قبل أن تنسحب الكرة سريعا نحو السماء، وكانت التفاصيل الأكثر دقة تتوارى في انطباع عام من النضارة والعذوبة. لقد كان الغسق: كان تضاد الألوان يخبو نحو تناوب متذبذب للضوء والظل، كانت الحقول القمرية والأجمات الآن مجرد حواف لا تكاد تكون مرئية على السطح المشدود للكرة المشعة. لكنا كنا قادرين أن نبصر منظر بعض الأرجوحات الشبكية المعلقة على الأغصان تؤرجحها الريح ورأيت الفتيات اللاتي قدننا إلى ذلك المكان يجلسن فيها. ميزت ديانا في أمان أخيراً تروح عن نفسها بمروحة من ريش وربما ترسل لي إيماءة تقدير.

ها هم هناك! ها هي! صرخت. صرخنا جميعنا، وقد كانت السعادة لعثورنا عليهن ثانية حقاً محفوفة بالألم لخسارتهن الآن للأبد، لم يرسل القمر وهو يصعد إلى السماء المظلمة سوى انعكاسات الشمس على بحيراته وحقوله.

كان يستولي علينا الحماس: رحنا نعدو على اليابسة، خلل السافانا والغابات التي غطت الأرض، المدن المدفونة والطرقات مجدداً. تطمس كل أثر لما كان. وصرخنا رافعين نحو السماء خراطيمنا وأنيابنا الطويلة، الرفيعة، نرعش وبر أجسادنا بتفجع عنيف يستحوذ علينا جميعاً نحن الماموثات الفتية عندما ندرك أن الحياة تبدأ الآن ، وقد كان واضحاً أن ما نسعى إليه لن نحصل عليه أبداً. ♦

ترجمة أماني لازار


[1] Qfwfq هو الراوي في ا لعديد من قصص كالفينو.



كالفينو.jpeg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى