عزت القمحاوي - في مديح الجِزم..

عندما تحولت العديد من المكتبات الشهيرة وسط القاهرة إلي محال للجَزم مع منتصف سبعينيات القرن الماضي كان ذلك إيذانا ببداية انهيار مجتمع بدأ في وضع قدمه مكان الرأس. أو كما في المثل الشعبي (مطرح ما يحط راسه حط رجليه)!
Picasso-Painting-Comes-Alive--42269
لا يعترف بيكاسو بفضائل الجزم. معظم الأقدام في لوحاته حافية، لذلك وجد من يساعده على تهذيب لوحتة بحذاء جديد!

وكان من الطبيعي أن تتقدم الجزمة خلال مسيرتها الظافرة لتصبح وسيلة للحوار السياسي. الدلالة مخيفة لكنها لاتنفي أن بعض الأحذية أكثر نفعا من بعض الكتب، وأكثر نبلا من بعض الأيدي التي ترفعها ومن بعض الرؤوس التي تستهدفها. ويمكننا في هذا السياق أن نثق في تقدير عبدالسلام النابلسي الذي تولى الإعلان الكاريكاتوري عن استمرار الأرستقراطية البائدة بعد التأميم عندما أشار إلي أحدهم في فيلم لا يحضرني اسمه: شايف الجوز الجزمة ده؟ دا أحسن من جوز خالتك!

والعنف في الحوار السياسي ليس جديدا وقد سبق أن هدد العقاد تحت قبة البرلمان بسحق أكبر رأس في هذا البلد، لكنه ترك الوسيلة لخيال المتلقي، فلم يحدد إن كان سيستخدم القبقاب أو الحذاء أو يد الهون، وهذا هو فضل النصوص المفتوحة علي النصوص المغلقة، فهي تترك فرصة لعمل خيال المتلقي.

لكن العقاد رحمه الله كان كاتبا ولايمكن أن نطالب أرباب البيزنس بأن يكونوا كأرباب القلم، ولايمكن لأحد في بلد ديمقراطي أن يمنع أحدهم من حق استخدام الحذاء وسيلة في الحوار السياسي، تعويضا لنقص الشفافية أو الفاعلية القانونية.

لكن بوسعنا أن ننصح بتنويع مصادر السلاح في معارك من هذا النوع، فمن شأن ذلك أن يكسر ملل الجمهور، ويوفر للحرب أخلاقياتها: حيث يجب أن تختلف أسلحة الردع كالجزمة والبنص والصندل والبُلغة عن أسلحة الدمار الشامل كالقبقاب والنعٌال والجزمة الدبابة ذات الحدوة، كما يجب أن تختلف الأسلحة الموجهة إلي رؤوس الأعداء عن تلك التي تستخدم في التهارش والخلاف الطفيف بين أعضاء الحزب الواحد، وهو ما يصلح له المنتوفلي أوالبنتوفلي (حسب الأصل الفرنسي لشبشب المخمل الحنون)!

ولا يُنصح باستخدام الزنوبة ولا الخدوجة حتى لايتعرض مستخدمها إلي استجواب شرعي، فهي من الإسرائيليات المدسوسة.

علي أن هذا الاستغلال السياسي، مهما كانت درجة العنف الرمزي والرغبة في الإساءة التي ينطوي عليها، فإنه لن يصل إلي الحد الذي بلغه فلاح فصيح أعرفه عاني من ظلم أحدهم، فجاءه من يطيب خاطره ويعده بأن ذلك الظالم مصيره النار بكل تأكيد. فما كان من المظلوم إلا أن تساءل باستنكار: النار؟! عادي كده؟! دا هايسيحوه ويصبوه شباشب يلبسها الكفار وهما داخلين النار!

مسخ الإنسان إلي حذاء هو الخيال الأعنف، لكن اعتبار الحذاء أسوأ من الظالم ليس سوي افتئات علي المركوب وجحود للعديد من المسرات التي يوفرها للبشرية خلال رحلة تلازم المصير منذ عرف الإنسان طريقه إلي هذه الصحبة التي لاتنتهي إلا بالموت.

ولو أن أحدا من المضاربين في البورصة والمتضاربين بالحذاء عرف الهوى لكان أرأف بمركوبه، وأنأي به عن هذا التضاد الحاد مع مستقبلنا السياسي، فالحذاء منصة إطلاق لصواريخ الجمال، علي متنه تنتصب قامة المرأة الرشيقة، ومع القبعة ينغلق القوسان الصلبان اللذان يغلفان البهجة.

حجم الغواية الكامن في خلع أو إيلاج القدم في الحذاء لايقل في رمزيته عن غواية الكشف والإخفاء التي توفرها أزياء مثل الملاءة اللف التي تجعل من الجسد نصا متعدد الطبقات.

يقوم الحذاء أيضا مقام القيد ويداعب نوازع الصيد المتوحشة النائمة في لاوعي الرجال، وهذا هو سر جمال الأحذية ذات العنق (البوت) فرغم وظيفة الإخفاء التي يمارسها عنق البوت إلا أن هذه التخشيبة الجلدية التي توضع فيها الساق تحيل إلي القيد، والأكثر إثارة منها الأربطة الجلدية علي الساق التي تزداد إثارتها كلما تزايدت تشابكاتها كعقدة من الأحبال محكمة.

وقد أدركت السينما بشكل كبير الإيروتيكية التي ينطوي عليها الحذاء، وفي كثير من الأفلام تقع الكاميرا في غرام الأحذية، بينما تتكرر في أفلام البورنو ثيمة التعري إلا من الحذاء أو الحذاء والحزام كقيدين يحكمان حصار الضحية!

وما كان لرنة خلخال بنات البلد أن تكون بذلك الإغواء الذي احتفت به الأغنية الشعبية لو كان الخلخال فوق قدم حافية.

وليست المسرات الإيروتيكية هي كل ما يقدمه الحذاء للبشرية المتعبة، فالمسجونون وفاقدو المأوي وعمال الفاعل المنهكون يقدرون حنان الحذاء عندما يتحول إلي وسادة يضعون عليها رؤوسهم في محابسهم وفي الشوارع والحقول.

والحذاء التميمة في السيارة والبيت باعتباره “قدم السعد” التي يتبارك بها الكثيرون ممن يحترمون فضائل الحذاء!




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى