د. شريف بقنه - تسلّق قمّة جَبَل الجليد (شهادة في الترجمة الشعرية)

سأسرد في شهادتي هذه عددا من الاستفهامات و التقريرات تستند على تجربة متواضعة في ترجمة الشعر و كتابته، بدأتها منذ مايزيد عن العشر سنوات بقليل. لطالما شبّهت ترجمةَ الشعر بصعود العاري صوب قمة جبل الجليد، فمايظهر للعيان من كومة الجليد لا يعدو كونَه قمة تقف عل جبل غارق في المدى، ولكن في القمة فقط تُفصح غمام الرؤيا عن نفسها وتنكشفُ جنّةُ التأويل.

ترجمة الشعر هي منتصف الممكن و بقية المُستحيل، يقول جاك دريدا : "لا يحيا النص إلاّ إذا بقي ودام . وهو لايبقى ويتفوق على نفسه؛ إلاّ إذا كان في الوقت ذاته قابلا للترجمة وغير قابل. فإذا كان قابلا للترجمة قبولاً تامّاً؛ فإنه يختفي كنصٍ وكتابةٍ وجسمٍ للغة. أمّا إذا كان غير قابل للترجمة كلّيّة، حتى داخل ما نعتقد أنه لغةٌ واحدة؛ فإنه سرعان ما يفنى ويزول"

ربما ترجمة الشعر مَهَمّة تجمعُ في داخلها ضروراتٍ و حيثيّات متضاربة تتابينُ بين الترجمةِ الحَرْفيّة مقابلَ الاحترافيّة، بين سيطرةِ المزاجيّة مقابلَ الأمانةِ الأدبيّة، بين التقريريّة و محضِ المجازيّة.
رغماً عن ذلك وعَطفاً عليه، فليس هنالك من مَخرَجٍ أو اعتذار عن ترجمةِ الشعر، ذلك أنّ الحياةَ مستمّرة حتى اللحظة على الأقل وبالضرورة فالشّعر مستمر، إذا ما اعتبرنا أن الشعرَ ثمرَةُ التّوت الناضجةِ والحُلوة في قمة شجرة الثقافة الإنسانيّة فليس هنالك من اعتذار، يقول بيار ليريس": ترجمة الشعر أمر مستحيل, مثلما الامتناع عن ترجمته أمر مستحيل" هكذا فإن ترجمةَ القصيدة ممكنةٌ و مستحيلة، والخيانة واقعةٌ لا مناصَ عنها، إلا أنّها مستّحقة لا تعويضَ لها. ولكن، كيفَ يُمكِنُ أن تكونَ خيانةً لائقةً بشرَفِ الغِواية!

ربما يستحيل أن تكون لائقة وناجزة.. يستحيلُ أن تكون ترجمة النّص أمينة، بَلْ منَ الخطأ المغالاة في أمانةِ الترجمةِ الشعرية، فما يَصِحّ في أمانةِ ترجمةِ الحقائقِ العلميّة والقضايا الفكريّة يصعبُ تحقيقه في المجاز الشعريّ خاصّة وأنه يحتمل التأويلَ والتمويه و يحتملُ خلخلةَ إمكانيّات القاموس اللغوي، في ذات اللحظة فإن المتذوقَ للشعر لا يبحث عن المعاني وتفسيرها اللغويّ والحرفيّ، وإنّما يبحث عن خبايا الإبداع والسّمة الجماليّة والتجربة، عن الروح الشعرية و لمسات السّحر والإبهار المجازي. إذا فالمُحصّلة النهائية للشعر المترجم تتأرجّح في الغالبِ بين شعر أفضلَ بقليل أو أسوأ بقليل عن أصله، ويصعب أن يكون بمستواه تماماً.

إن القراءةَ الأوليّة لأي ترجمةٍ شعرية قد تُحدّد نجاح الترجمة لحدٍّ ما، و إذا استندنا لرأي فراي لويس دو لين " يجب ألا تبدو القصائد المترجمة كأنّها أجنبيّة، إنّما كأنّها مولودة في تلك اللغة و متأصّلة فيها"، غير أنّنا لو قارنا أيّ نصٍّ مترجم بأصله ستُفرَضُ معايير أخرى لنجاح الترجمة، أعرّج عليها سريعاً هنا، من ذلك : التركيبُ الكامن، الحقيقةُ الشعرية والبناء، والمجاز الشعريّ.
التركيبُ الكامِنُ في النص هو ذلك النوع من التراكيب المقصودة في قصيدة بوصفها جزءاً من وظيفةٍ تعبيريةٍ للنّص، حيث يتوجّب على المترجم نقل وإعادة خلق مثل تلك التراكيب الى أقصى حد ممكن حتى الوصول إلى غايةِ الشاعر، فالمهمة الأولى هنا هي إيجادُ ذلك التركيب المشفّر الكامن للنّص ومن ثم العثور على الموضوعِ والفكرةِ المنطقيّة للنّص. أمّا الحقيقةُ الشعرية فهي القيمةُ الجمالية والمجازُ الشعري، إنها الصوتُ واللمس، الرائحةُ والذّوْق، اللينُ والغِلْظة في الجناسِ الأصلي. وبالتأكيد أن القيمةَ الجمالية يصعبُ فصلها عن المعنى الكامن والمعرفي للنص فهي متلازمة لهُ بالضرورة. ومن معايير نجاح الترجمة أخيراً، البناءُ والتركيبُ الشعري و المقصود هنا الخطة الكليّة للقصيدة بحسب لغتها الأصل.

أعتقدُ أن قراءةَ النصّ المطلوب ترجمته عدةَ مرات و مراجعة القراءاتِ النقديّةِ للنص المقصود قبلَ الشّروع بالترجمة بما لا يجرح بكارة القراءة الأولى للنص، يجعلُ الترجمةَ أكثر دقّة وصلاحيةً و ربما أقلَّ خيانة.

أنتقلُ الآن للحديث عن اختيار النّص و أي الشّعر يصمدُ للتّرجمة و أي الشعر يصعبُ بل يستحيلُ أحياناً ترجمته! بنظرةٍ سريعةٍ في تاريخِ التّرجمات الشعرية، ثمّة ترجمات صمَدَت عبر لعصور و أصبَحت بمثابةِ أناجيلَ شعرية في مختلف اللغات و عبر مرور الأزمنة، و من ذلك ملحمة كَلكَامش، الأوبانيشاد الهندية، الأوديسه لهوميروس، كتاب التاو للاوتسي، الكوميديا الإلهيّة لدانتي، دونكيخوتي، سونيتات ويليام شكسبير، أناشيد مالدورو للوتريامون، أزهار الشّر لبودلير.. وغيرهم.

تجسّدت لدي قناعةٌ أن الشعرَ الجيد فقط هو ما يستحق عناءَ الترجمة وما يصمد عبر اللغات والأزمنة. ولعل الأمثلة الذي سبق أن ذكرتها خير مثال لذلك. أما الشّعر الذي يستحيل ترجمته أو تترهل ترجمته في رأيي فهو ذاتُه الذي قال عنه الجاحظ "..ولا يجوز عليه النقلُ. ومتى ما حُوِّل ؛ تقطّع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه ، وسقط موضع التعجّب"

إن الشعرَ الذي يلتزمُ الوزنَ أو النظمَ أو القافية، يترهّل ويضيعُ و يصبح رثّاً هزيلاً عند ترجمته، فالوزن يفرضُ على المترجمِ أن يكون متذاكياً وبهلوانياً للحفاظ على إيقاع النصّ وذلك بالضرورة على حساب الفكرة والمعنى الكامن للنّص، أذكر هنا إحدى تجاربي لترجمةٍ عانيت منها و انسحبت تمامًا عن إتمام الترجمة لتلك القصيدة، وهي قصيدة (الغراب) أيقونة الشاعر السوداوي إدغار الان بو، تلك القصيدة بالتحديد لا أعتقد أن تصْلح لها ترجمة، قصيدةٌ من بدايات الحداثة الأمريكية، لاتصِحّ إلاّ موزونةً مقفّاة كما خُلِقت.. كما هي عليه، ذلك أن جماليةَ التدفق في الحوار بين الغراب والعاشق المفارق تعتمد بالكليّة على الإيقاع السّحري اللفظي و المجازي في كل مقطَع على حِدَة ، اضطررت أحياناً إلى تصرّف بسيط هنا وهناك كحذف مفردةٍ تبدو لي زائدة في لغةِ (الهدف) أو إضافة مفردة عند الضّرورة القصوى، ووجدت بعد مقاربة انتهائي من القصيدة أن هذه القصيدة فقدت عذريتها في أماكنَ معيّنة، الأمرُ الذي جعلني أتوقّف. أعلمُ جيدا أن هناك ترجمات منظومة (قريضيّة) نالت شهرتها وتناقلت عبر اللغات، سأكتفي في هذا المقام بالتنويه عن ترجمات رباعيّات الخيّام إلى العربية، تلتزمُ الرباعيّة الفارسيّة أربعَة أبياتٍ تتفق في فكرة وتلتزم قافيةً للشطرين الأول والثاني مع الرابع، أو تلتزمُ القافيةَ في جميعِ الشّطور الأربعة.
لكم أن تقارنوا ترجَمات الصافي النجفي، و عبدالحق فاضل و أحمد رامي، حسين مجيب المصري، علي منصور، وتندهِشوا من سقوط محتوى المتن الشعري (للغة المرسلة) تحت وطأةِ فرض مبنَى القريض، غير أن أهمية رباعيّات الخيام كنموذج، تجعلني أبحث عن حل لترجمة مثل هذه الأعمال الموزونة و الخالدة في الشعر، قد يكونُ ذلك بأن لا نتعسّف فرضَ الوّزن والقافية على الشعر المترجم، أذكرُ ماقاله ناظم حكمت شاعر تركيا الكبير في انتقاده لمترجم روسي قام بترجمة بعض أشعاره إلى الروسية: "اسمع يا سيميونوف، أنت هو الرجل الذي ترجم أشعاري إلى اللغة الروسية بشكل فني حاز إعجاب القراء الروس، غير أنني لست راضياً، إطلاقاً، على ترجماتك تلك، فأنت تكثر من الغوص وراء القوافي بحثاً عن الأشكال الشعرية، وغالباً ما يقترن عملك بقدر كبير من التوفيق والنجاح".

ربّما لو تركنا الشعر المترجم حراً طليقاً، لتحقّقت ترجماتٌ منظومةٌ أو مسجوعةٌ في حالات استثنائيّة بصورةٍ تلقائيّة وعفويّة. قد يحسبُ للشّعر الحديث حسنةٌ أخرى هنا في الخروج عن قيد الوزن وتسهيل المهمة للترجمة الشعرية، فبعدَ قُرون من الثبات، تغير اللّحن الشعري والبنية الايقاعية للكتابة الشعريّة وتوحدّت إلى حدٍّ ما في معظم اللغات وبشكلٍ مُتسارع، وصولاً للنموذج الأمثل في رأيي (قصيدةُ النّثر) والتي تناقلت في بقاع العالم كالنّار في الهشيم، بدءاً من روادها ايزدورو دوكاس( لوتريامون)، و شارل بودلير ومن ثمّ فرسان السرياليّية الفرنسيين وما تبع ذلك من تأثير في الشعر الأمريكي والانجليزي ولم يتمنّع الشعر العربي عنها كذلك. وأنا هُنا لست ولن أكون من أعداءِ القصيدة الموزونة رغمَ أنني أكتبُ قصيدةَ النثر، وأتفقُ مع ماقاله أدونيس "ليس كلُّ كلام موزون شعراً بالضرورة، وليس كلُّ نثر خالياً بالضرورة من الشعر".

أختم شهادتي هذه وأقول يمكن للعاري أن يكتسي فروةَ دبٍّ روسيّ ليتسلق قمة جبل الجليد في خليج الاسكا.

د. شريف بقنه
شاعر ومترجم سعودي




جريدة عكاظ - الإثنين 13/04/1436 هـ 02 فبراير 2015 مالعدد : 4978

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى