الكاتبة ساوى بكر : الإبداع لم يعد معيارا في الجوائز الأدبية العربية

قبل أربعين عاما اضطرت الكاتبة سلوى بكر لإصدار أولى مجموعاتها القصصية “حكاية بسيطة” على نفقتها، وكان رهانا على مستقبلها، فلما كسبته توالت إصداراتها لتتجاوز العشرين كتابا، آخرها رواية “شوق المستهام” التي واصلت فيها مشروعها لإعادة قراءة التاريخ بحثا عن الهوية، فهي الحلقة الخامسة في سلسلة ما زالت مستمرة بدأت قبل عشرين عاما برواية “البشموري”. في ما يلي حوار مع الكاتبة حول مشروعها الأدبي ورؤيتها للكتابة والإبداع والتاريخ.
السبت 2017/12/23

أعتبر نفسي كاتبة هاوية
تدافع الروائية سلوى بكر عن حقها ككاتبة في نزول بحر التاريخ، حيث عُرفت بكتابتها لروايات تغوص في التاريخ المصري، وتقول الكاتبة في هذا الصدد “من حقي كما هو من حق أي كاتب أن يلجأ إلى التاريخ كمصدر للكتابة ففيه أعظم دراما، لأن تأمّل حوادثه ومجرياته يجعلك تتمثّل تاريخ الإنسان، وكل نتاجه الحضاري. التاريخ هو ‘خيال منتج لخيال’ لذا كان عشقي للتاريخ، فهو يمنحك القدرة على أن تعيد كتابته واكتشافه بشكل دائم ومتجدد”.

التاريخ والهوية

تقول بكر موضحة منهجها “أنا لا أستلهم التاريخ ولا أكتبه، بل أكتب عنه رواية تتعلق بقراءتي له في سياق رؤيتي الخاصة، بمعنى أنني لا أعيد إنتاج الحدث التاريخي، لكني أبحث في الوقائع وأرصُدُ العلاقة باحثة عن الفواصل التاريخية، وعن الحدث الذي لم يُثبت ولم يُدوّن”.
وعن دوافع اختيارها للفترات التاريخية التي تعاملت معها روائيا تقول “لم أتعمّد اختيار فترة بعينها، لكن في فترة ما شاع سؤال الهوية في الأوساط الثقافية، فحينما قرأت كتاب ساويرس بن المقفع ‘تاريخ الآباء البطاركة’ وفيه أرّخ لما هو سياسي وما هو اجتماعي وما هو يومي.
ولهذا اعتبره من أهم مؤرخي العصر الوسيط في مصر، وقد فكرت في أن أنسج من خلال هذه المنهجية التاريخية منهجية روائية جديدة ومغايرة، فقد اكتشفت الكثير من الرؤى حول الهوية والتحيّزات الدينية والأيديولوجية المتعلقة بها، خصوصا حينما قرأت ما يخص ثورة البشموريين الممتدة بين القرنين السابع والتاسع. فجأة وجدتني مدفوعة في اتجاه البحث حول تلك المنطقة من التاريخ حتى خرجت ‘البشموري’ التي وقفت من خلالها على ملابسات هذه الثورة كي أتلمس ملامح الهوية الحضارية لمصر آنذاك”.
نحن العرب نعيش الماضي طوال الوقت، حتى أكثر المتشدقين بالحداثة هم ماضويون أيضا إذ أن حداثتهم مزعومة
وعمّا ميّز روايتها “الصفصاف والآس” عن غيرها من الروايات الكثيرة التي تعاملت مع الحملة الفرنسية على مصر تقول الكاتبة “إنها حلقة في مشروعي لتلمس الهوية الحضارية لمصر، وفي هذه الرواية رصدت الهزة القيمية التي حدثت للمصريين بعد دخول جنود الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، حيث كانت لمصر في نهاية القرن الثامن عشر منظومة اجتماعية خاصة وأسلوب حياة معيّن، وحين جاءت الحملة جعلت المصريين يعيدون النظر في كل ذلك.
فقد كانوا قبل ذلك على سبيل المثال يتنزهون في حديقة بها نوافير ومقاهٍ ومسارح أنشأها أحد أمراء المماليك الأثرياء، وكانت هذه الحديقة ذات اسم جميل ‘حديقة الصفصاف والآس لمن رغب في الائتناس’، ومع دخول الفرنسيين ومعهم الملهى الليلي المخصص للترفيه عن ضباط وجنود الحملة، تساءل المصريون: هل نتسلى في حديقة الصفصاف والآس؟ أم نتسلى في ملهى مثلما يفعل جنود نابليون بونابرت؟ وهل نشرب مشروباتنا الوطنية مثل القهوة والينسون مثلا أم مشروبات الأوروبيين؟ وغيرها من التساؤلات المعبّرة عن تلك الهزة القيمية التي جعلت المصريين يعيدون النظر في طرائق حياتهم ومفاهيمهم وفي قيمهم”.
وعمّا توصّلت له بعد عقدين من التعامل الأدبي مع التاريخ تقول بكر “توصّلت إلى أن التاريخ يجب قراءته من خلال أكثر من بعد، والأهم هو التفكير مرارا في صدق الرواية التاريخية والتفكير في الرواية التاريخية التي لم تسرد بعد أو المسكوت عنها، فهذا ربما يكمل الصورة التي نستبين من خلالها حقائق غائبة وحقائق نعتقد أنها لم تقع أبداً”.
وفي ما يتعلق بما واجهته من إشكاليات ترى الكاتبة أن تجديد الأسئلة التاريخية يحيلنا إلى إشكاليات المسكوت عنه تاريخياً. العلاقة بين المتون والهوامش، بين الرئيسي والثانوي. أما الإشكالية الكبرى، في رأيها، فتتمثل في العلاقة بين التاريخ والجغرافيا، ففي المرويات التاريخية تجد دائما إشارات إلى جغرافيا قد تغيّرت، أو لم تعد موجودة.
كيف يتعامل السرد الروائي مع مكان يصعب تمثّله؟ إضافة إلى الانتقائية التي تمارسها الذاكرة البشرية سواء عن قصد أو غير قصد. التاريخ كله انتقائي، لكن ما يعني الروائي في سرده التاريخي هو كيفية إعادة إنتاج خطاب تاريخي مغاير”.

هنا نسألها إذا كان المستقبل هاجسها فلماذا تلجأ للماضي؟ لتجيب “لحظتنا الراهنة هي لحظة شديدة الماضوية، نحن نعيش الماضي طوال الوقت، حتى أكثر المتشدقين بالحداثة هم ماضويون أيضاً وبامتياز، إذا ما نزعنا عنهم هذه القشرة الحداثية فلن يُميّزوا عن السلفيين، وأنا لا أقصد السلفيين بالمعنى الديني فقط، ولكن بكل المعاني التي تعيدنا إلى الماضي فتجعل حاضرنا ماضويا”.

الأدب ليس مثاليا

عن تغيّر سمات الشخصية في مجموعاتها القصصية، والتخلي عن النماذج البشرية عن خيار المقاومة فأصبحت مستسلمة لواقعها تقول بكر “بالفعل هذا صحيح، وإن كنت أشعر في كثير من الأحيان أن حجم المتغيّرات الهائل الذي جرى بالنسبة إلى المجتمعات الإنسانية عموما خلال العقود الأخيرة لم تعُد تسمح للناس حتى بالتفكير في المقاومة”.
لكنها ترفض اتهام شخصياتها النسائية بالضعف والاستكانة، قائلة “إن نموذجا للمرأة مثل امرأة حسن في ‘سواقي الوقت’، فهي وإن بدت هامشية في هذه الرواية إلا أنها تفضّل اختبار الحرية في حدود فهمها لحريتها، وأن تنحاز إلى قناعاتها الخاصة حتى النهاية، فهذه المرأة البدوية ترفض الحساب في علاقات الحب، كما ترفض أن تكون أسيرة لأسباب لا تتعلق بموجبات العاطفة، ولذلك فهي نموذج رافض لعالم حسن المستلب. وعموما ليس مطلوبا من الأدب أن يقدّم نماذج مثالية، فدوره أن يتساءل عن الخير والشر في تعقيداتهما الإنسانية، والمطلوب من الأدب أن يكشف الحقيقة ويضع يده على مواطن الخير والشر في حياتنا”.
“يبدو أن الجوائز تخاصمني”، تقول بكر بلهجة تشوبها السخرية ثم تضيف “لم أحصل طيلة مسيرتي مع الكتابة إلا على جائزتين. الأولى جائزة الإذاعة الألمانية دوتش فيله. والثانية جائزة محمود درويش، ولم أرشّح نفسي أبدا لأي جائزة، فأنا أكره الصراعات، أحياناً أبدو كمقاتلة شرسة لكن ذلك في ما يخص القضايا العامة فقط.
أعود لمسألة الجوائز الأدبية، فجزء من ابتعادها عني سببه أنني لا أسعى إليها، لا أطلبها والجزء الثاني يرجع إلى أنّ معايير الجوائز في العالم العربي قد لا يكون الإبداع فقط، عموما الجوائز لا تشغلني، وأنا حتى الآن أعتبر نفسي كاتبة هاوية، أكتب عندما أرغب في الكتابة”.
وعن تعدّد الجوائز الأدبية العربية تضيف “تلك ظاهرة إيجابية جدًا، فهي أداة تحضّر على المستويين الكمي والكيفي للكتابة وهي تعبير عن نضج ثقافي، وهي أداة تنافسية بين من يملكون المال وتوظيفه بشكل جيّد في سياقات جادة، ولكن هذه الجوائز يجب أن تكون أكثر نضجًا للجان تحكيم موضوعية بعيدة عن الشوفينية ضيقة الأفق”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى