حوار مع الروائي حجاج أدول... لم يحبوا أكل السمك حتى لا يأكلوا أقرباءهم

قال الناقد صلاح فضل متحدثا عن الكاتب النوبي حجاج أدول إن “معظم الكتّاب عندما يتناولون علاقة الشمال بالجنوب، كانوا ينطلقون من الجنوب باعتباره مرجعيتهم الاجتماعية وبيئتهم التي عرفوها جيدا، لكن المفاجأة التي يقدّمها حجاج أدول أنه يأخذ الرحلة عكس كل الكتاب، فيقرر أن تكون الرحلة من الشمال للجنوب”. هكذا هو حجاج أدول دائما يسبح عكس التيار. في ما يلي حوار مع الكاتب حول النوبة وتجربته الأدبية.
الخميس 2017/12/28

آلامي وآلام أهلي موجودة في كتاباتي
بالرغم من تأخر بدايته إلا أن حجاج أدول حقق وجودا أدبيا متميزا، فخلال العقود الثلاثة الأخيرة أصدر أكثر من أربعين كتابا، عشرة منها عن النوبة، كما فاز بجائزة الدولة التشجيعية وجائزة ساويرس.
يُعرّف أدول نفسه “أنا مصري سوداني أفريقي بحر متوسطي عربي، إنسان على وجه العموم”، هكذا يقول نافيا عن نفسه تقوقعه في الهوية الضيقة، فالنوبة عنده جذر وليست هوية.

آلام النوبي

يُرجع الكاتب تأخر ظهور إبداعه للطول الشديد لفترة التجنيد، وقبل ذلك للوضع الخاص بالنوبة، الذي يراه قاتلا للحياة وليس للإبداع فحسب، يقول أدول “التهجيرات النوبية متواليات أربع خلال قرن واحد، هو القرن العشرين. ثلاثة تهجيرات شهدتها هذه المنطقة منها بسبب خزان أسوان، 1902 و1912 و1933. والرابعة بسبب السد العالي، فالنوبيون مزارعون أصلا، ولما أغرقت زراعاتهم ونخيلهم وبيوتهم أيضا، صعدوا إلى بطن الجبل. فعانوا من الفقر بقسوة، واضطر الرجال للهجرة قاصدين العمل في المدن الشمالية. بينما المدينة بالنسبة إليهم غربة مكانية ثقافية”.
يتابع ضيفنا “تشرّبت الآم الغربة النفسية والفقر والمرض الذي اقتحم العائلة. ولكن ذلك كان أهون علينا من العنصرية التي صدمتنا، إنها أسباب أضعفت ثقتي في نفسي كفتى وشاب فلم أجرؤ على الكتابة الأدبية، إلا بعدما تغلبت على ضعفي النفسي ووثقت فيها فكنت حجاج أدّول، أي أنني قررت أن أضع اسم عائلتي النوبي ‘أدّول’ تحديا لمجتمع حاول ويحاول تذويب نوبيتي بشتى الحجج العنصرية والأنانية والاستعلائية. لهذا تأخرت، فرحلتي مع الكتابة بدأت في سن الأربعين، وكنت حينها أشعر بحالة كبيرة من المرارة بعد سنوات طويلة من البقاء على الجبهة في فترة حرب الاستنزاف، ثم حرب 1973، وبعدها خرجت لأجد الدنيا تغيّرت وبمرور الزمن تعرّضت لصدمات كبيرة على المستويين الشخصي والعام”.
من حق كل شعب أن يعتز بخصوصيته الثقافية لا العرقية، والاعتزاز لا يدخل في التقليل من شأن الآخرين
قبل ذلك بسنوات كان يمسك بالقلم وكأنه ناي، ينفث فيه عذاباته، ولما طالت فترة تجنيده كثيرا بسبب نكسة يونيو 1967، حضرت الحرب في أدبه، يتذكر الكاتب “كنت أعدّ لرواية ضخمة، ملحمة تبدأ سريعا من ضياع فلسطين مرورا بحركة 1952 ثم هزيمة 56 عسكريا والانتصار، ثم حرب اليمن فهزيمة 1967، ثم تبدأ الملحمة في التفاصيل والغوص من بعد 67 وحتى 1974. فأنا عشت هذه السنوات جنديّا في كتيبة مقاتلة على ضفة قناة السويس، أي اشتركت في حرب الاستنزاف ثم في العبور، أرهقت تماماً وأنا أعدّ لهذه الملحمة، لكن الفقر أصابني بصدمة وانهيار عصبي. فمزقت كل أوراقي. لم يبق من تجربة الحرب لديّ سوى عدد من القصص القصيرة نشرت في مجموعتي ‘بكّات الدم’ و’تيك أواي\'”.
يقول أدول “دخلت آلامي وآلام أهلي في كتاباتي. لكن من يتابع إنتاجي الأدبي، يجد أغلبه خارج النوبة”. يذكر أنه قبل تجنيده عمل بمشروع السد العالي، يتذكر بأسى “كنت أيامها على بعد نصف ساعة من قرى التهجير النوبية، وذهبت إليها ما لا يقل عن عشرين مرة، عايشت حال النوبيين هناك في تلك القرى التي قالوا عنها كذبا ‘النوبة الجديدة’، نحن هويتنا نهرية نيلية، فيلقون بنا في صحراء جهمة حيث لا ماء ولا غذاء، ولا زراعة. أعطونا بيوتا إسمنتية ضيقة هي أفران في الصيف وثلاجات في الشتاء، بينما بيوتنا في نوبتنا الغريقة كل منها متحف في حد ذاته”.
عن خصوصية الشخصية النوبية وحضورها في قصصه ورواياته يقول الكاتب “البشر هم أنفسهم، في كل زمان وكل مكان. اختلاف البيئة والظروف يعطي تنوعاً ثقافية فقط لا غير. فإن كانت للنوبة خصوصية، فللصعيد المصري خصوصية، وبحري، وشعوب الصحراء، لهم خصوصية وشعوب البحار والجبال إلخ، إذ ليس هناك أفضلية بين هذا وذاك وإلا دخلنا في العنصرية”.
يضيف “النوبيون نيليون، حياتنا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنيل. فمنه الشرب والري والمواصلات والجماليات، وفي أعماقه ناس النهر، بالنوبية ‘آمَنْ نُتّو’ الذين نحن منهم وهم منّا. وعلاقتنا التليدة بهم أساسية، وهذا ما بات يقال عنه الآن أساطير، وقتها لم تكن أساطير، بل كانت حقائق بالفعل. فقبل الرسالات السماوية المعروفة، لم نحب أكل السمك. فكيف آكل قريبي. ولبعضنا قدرة على رحلات غوص في القرى المائية لناس النهر، آمَنْ نُتّو. غوص في أعماق النيل لأيام أو أكثر ثم عودة. وبعض الغرقى النوبيين، لم يكن غرقهم غرقاً حقيقياً. بل هو رحيل لناس النهر. كما بينت في كتبي: رواية ‘الكشَر’، ومسرحية ‘ناس النهر’، و’مسرحية تسابيح نيـلية’، ومجمـوعة ‘لـيالي المـسك العتيقـة\'”.

يرى أدول أنه من حق كل شعب أن يعتزّ بخصوصيته الثقافية لا العرقية. والاعتزاز لا يدخل في التقليل من شأن الآخرين. مؤكدا أنّ التنوع الثقافي جميل مبهج. أما محاولة طمس أي خصوصية إنسانية، فيعتبرها جريمة تستحق المحاكمة. لهذا جاء انشغاله بالقضية النوبية لأسباب عديدة، أبرزها أن كثيرا من الناس أخطؤوا فهم القضية النوبية، وهو يقصد هنا القضية الإنسانية وليس القضية العرقية، باعتبار أنَّ النوبة حالة إنسانية أضافت إلى كل المجتمعات التي كانت جزءًا منها.

الأعجوبة الفنية

في روايته “غزلية القمر” يوظف الأغنية سرديا، وفي رواية “كديسة” يبني المشهد السردي كما لو كان سينمائيا، وتشهد أعمال أخرى له تداخلا بين الفنون، يفسر أدول ذلك بقوله “أسس الفنون كلها واحدة وإن اختلفت الأساليب، والرواية بخاصة أعجوبة فنية. فقد ورثت الملحمة، وتجد فيها خاصية استيعاب الأغاني والأشعار والقصة القصيرة والمسرحية والتاريخ والتحليل النفسي والتاريخ واستشراف المستقبل إلخ. فمثلا في روايتي ‘رحلة السندباد الأخيرة’ مشهد مسرحي يعارض مشاهد من هاملت في وجود شكسبير نفسه. وفي رواية ‘خوند حمرا’ أتى كل من أمل دنقل ويوسف إدريس وهوميروس ومحمد شكري وتشيكوف، كل بما يناسب عملا أدبيا من أعماله، أو موقفا مشهورا عنه. ثم الرواية بها الكثير من فن السيناريو، بالإضافة إلى ما ذكرت عن البناء السينمائي للمشهد الروائي”.
وبالرغم من الموضوعات التاريخية للعديد من أعماله إلا أنه ينفي عنها تلك الصفة، ويوضح “أنا لا أكتب التاريخ. أنا أكتب عن حالة تاريخية تتشابه مع حالة حاضرة. فلا تجد في رواياتي ‘خوند حمرا، وثلاث برتقالات مملوكية، وكديسة’، ولا حتى في قصتي ‘هوجة أم حلمة’، شخصيات تاريخية أساسية، وإن حضرت فإن حضورها عابر. فأغلب الشخصيات من خيالي المبني على قراءاتي العريضة العميقة في الموضوع الذي أكتبه”.
نسأله عن الفرق بين التصورين فيوضح “الإبداع خَلقٌ جديد، بينما التاريخ واقِعٌ ثابت يتم تحريكُه كلما تم اكتشاف أثرٍ ما، وحين يعمل الروائي في التاريخ، يجب عليه الالتزام بالحقائق التاريخية. وعن نفسي قمت بالمراوحة بين الثابت التاريخي والخلق الفني المتحرك، وعموما فقد لجأت للتاريخ، لأنني أردت القول إن البدايات قديمة، فسلسلة التطرّف من البدايات تسير حتى الآن، سواء اسمها ‘داعش’، أو عصابات الرايات السوداء، أو قتلة هيباتيا، أو الصليبيين.. أحاول قراءة التاريخ جيدا واستنباط الواقع في ذاك الزمان مع اختيار شخصيات غير حقيقية. المهم أنّ القارئ لهذه الأعمال يعيش حالة التاريخ ويحيلها هو على الحالة الحاضرة”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى