أسامة حبشى - عندما فر النهار من ليله

يسير على غير هدى الباحث عن ظله فى مدينة الفسدة بحثا عن ظل مشابه للذى فى خياله لكى يحتويه.. كان منذ فترة بعيدة ببلدة بعيدة وسط حقول وعقول على سجيتها يحلم ويحلم بفرصة تطلق العنان لكل ما هو كامن بداخله من تملق وصعود نحو القمة، والقرية بطبيعتها تعجز عن مجاراة مارثون أحلامه الخبيثة، ولكنه الآن أصبح فى مدينة السرقات كما يقول إيتالو كالفينو، مدينة يسرق فيها الكل من بعضه ويعيشون فى هناء، خاض الفاقد لظله تجربة الإبداع وفشل، فدخل دائرة أعمق وهى الصحافة، تلك المهنة الخطرة، لا بيت له ولا سند غير تملقه لكل من يقابله وضحكته الخبيثة، كان كل شيء له يعد مباحا ولكن يصبر نفسه قائلا:
عندما يحين الآوان سأرث مدينة الفسدة وأصنع لنفسى بيتا محصنا لا يدخله إلا من سيجلب لى "مصلحة" مهمة.
لم تكن أيام الجامعة غير تجربة صغيرة لحمل حقائب من يتملقهم، وإلقاء بعض القصائد هنا وهناك، ولكن ما ميزة فى هذه الأيام هى نظرته الحاقدة التى لم تسطع بسمتها الزائفة أن تخفيها، فكيف يمكن الإخفاء بداخل فاسد منتظر!!
دارت به الليال كالرحايا، وهو فى انتظار فرصته كنمر متربص نهارا، وثعلب ماكر ليلا، علمته المدينة الفاسدة كثيرا من القسوة ومن الخنوع والتملق أكثر مما كان فيه، وكان ما يحز فى نفسه أنه بلا ظل فى الشمس وفى ضوء القمر، كان بلا هوية تذكر، ومن ثم توجب عليه البحث عن ظله فى ظل آخر، وأثناء سيره على غير هدى وفى مخبأ القتلة وجد ضالته، ووجد رمزه وقدوته، ذلك الصحفى الذائع الصيت، فتعلم منه وشرب كجائع وجد مائدة عامرة، ووجد الظل الآخر يحتويه ويقدمه هنا وهناك، وهو بمهنة اللص وجد ضالته وسط المثقفين، فصار بكل مكان وبكل هيئة كالبرغوث لا يمل ولا يزهق إلا إن قتلته، وهم لا يقتلونه لأنه مفيد ومروج لما يودون ترويجه، فنشأت له مهنة أخرى وهى التأسيس لجهات أخري، وصار مستشارا هنا وهناك، وذاع صيته فى استغلال النساء، وفى استغلال مكان عمله ، ولكن عاد إليه ألمه وسرق النوم من عينيه، عاد له الحزن القديم، وهو أنه فاقد لظله رغم كل ما هو فيه، وظله الأكبر صار فى ملكوت آخر اسمه الإعلام، وهو كل ما يمكن الوصول إليه أن يكون معدا ببرنامج ما، وغلبت ابتسامته السخيفة حزن كثيف كالضباب، فعاد يسير على غير هدى فى مدينة الفسدة، ولم يشفع له مخبأ القتلة ولم ينجيه من هذا الحزن، فعاد للشعر ولكن العودة كانت أكثر حزنا وألما فلم يستطع الكتابة مطلقا، وباتت لياليه كنهاراته مجرد دوران فى ساقية التملق والحصول على المال، وكانت زوجته ترى فقده لظله فى عينيه، ولم تقدر على مساعدة، فطلبت الطلاق، وعاد هو لوحدته مع فارق بسيط وهو أنه يملك بدل البيت ثلاثة .

مرت به السنوات كالريح واشتعل الرأس شيبا، وقادته الظروف لتولى منصب وزارى، وكان ظله الأكبر قد توفي، فقرر الانتقام ممن يعرفه أو لا يعرفه، وشاعت أخباره فى مدينة الفسدة، ولم يثنيه عن انتقامه تملق من هم على شاكلته، ولكن ظلمه فاق الحد، فتجمع القتلة فى مخبأهم المعتاد واتحدوا على قتله، وبينما الوزير الفاقد لظله يسير على غير هدى فى مدينة الفسدة بحثا عن شبيه لظله الأكبر طالته طعناتهم الواحدة تلو الأخرى، ولم تعرف جثته طريق بيوته الثلاث، ومات كما جاء من قريته تائها وسط طرقات مدينة الفسدة، وبعد مرور أعوام من موته وعندما كبر أولاده وحاولوا بكل الطرق البحث له عن قصائد تنشر له فى ذكراه ولم يجدوا شيئا ولم يجدوا أيضا فاسدا آخر يرثيه بمقالة ولو زائفة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى