محمد حامدي - مؤامرة..

وضع قفة الخضر وسط الحوش فدلف الى غرفته دون أن يكلف نفسه نزع حذائه وكأنه على موعد مهم مع مذياعه الخشبي. أدار الزر يمينا ويسارا في حركة مضبوطة حتى انبعث صوت يعلن موعد نشرة الأخبار. رفع من صوت المذياع قليلا، وطأطأ برأسه حتى كاد أن يعانق المذياع بعد أن نهر طفله الصغير الذي كان يلهو بعلبة السردين الصدئة وقد حولها بمهارة إلى سيارة ذات أربع عجلات من سِدادات القوارير وجعل لها خيطا تقاد به. أوجزت النشرة ففصلت ثم أوجزت ولم تأت بالجديد الذي ظل العربي ينتظره طيلة أيام إضراب عمال المنجم. زم شفتيه بمرارة، وأخرص صوت المذيعة ولم يتركها تعلن عن الفقرة الموالية المبرمجة.. كان بوده أن يكسر خرشاشة المذياع ويرتاح من صداعه الذي لا فائدة منه لكنه لم يفعل إشفاقا على زوجته التي كانت تتابع تمثيلية سيف ذي يزن الإذاعية كل مساء، وتفاديا لكل ما من شأنه تعكير الجو أكثر. تساءل بحسرة واستغراب وهو ينظر إلى ابنه الذي ملأ الغرفة بهدير شفتيه:
- كيف يستطيعون أن يأتوا بكل أخبار الدنيا ولا يخصصون ولو كلمة واحدة عن الإضراب؟!
جاء الرد مزلزلا ودون سابق إنذار حيث ضبطته زوجته السعدية وهو داخل الغرفة بحذائه الذي لا يزال يحتفظ به كشاهد على زواجهما منذ خمس سنوات، أزبدت وأرعدت وعيرت وشكته إلى الله راجية أن يستجاب لدعائها وترتاح من رجل ستصبح يوما حمقاء بسببه. اعتذر لها بشدة معترفا ومبررا فعله الذي حدث تحت وطأة الإضراب الذي أنساه كل شيء إلى درجة أنه نسي حتى نفسه. غيرت من لهجتها بعد أن لاحظت على وجهه علامات الحسرة الخانقة واستفسرته حول أخبار الإضراب وإلى أين يسير، فأجابها بصوت متعب مذيل بزفرات حارقة أن الله وحده هو العالم بما سيأتي راجيا أن تستقر الأمور على خير. سمع طرقا بالباب فخرج للتو لفتحه حتى لا تسبقه السعدية إلى ذلك. إنه لا يحب أن يرى الغرباء زوجته وهي في لباس المنزل خاصة وأن الجو حار جدا فلا لعب في مثل هذه الأمور. ندم على تسرعه وتمنى لو لم يكن هو الذي فتح الباب لما عرف أن الطارق كانت أمها التي لا يطيقها ولا يطيق تحريض ابنتها عليه فهي كلما زارتها إلا وازداد إلحاحها على شراء ثوب جديد كباقي النساء اللواتي ينعمن بالسعد مع أزواجهن. لم يكن يخطر بباله أبدا أن تزورهم في مثل هذه الظروف العصيبة خاصة وأن كراسة الدين قد امتلأت عن آخرها، وعلي السوسي لم يعد يبيع بالدين بعد أن طال أمد الإضراب. فمن أين له ثمن الثوب الذي ستطالبه به السعدية مباشرة بعد مغادرة أمها للبيت. فكر في أن يظل جالسا معهما طيلة مكوث حماتة حتى يحول دون حبك المؤامرة حوله لكن عدل عن ذلك للضرورة حيث توجه نحو المقهى ليستقصي أخبار الإضراب. وهناك أخبره أحد أصدقائه بأن العمال سيباشرون عملهم ابتداء من الغد وذلك بعد تفاوض تم بين المسؤول النقابي ومدير الشركة. تابع الخبر بكل ما يملك من صبر دون أن يستعجل معرفة مكتسبات الإضراب، ولما أدرك أن صاحبه لن يأتي على خبرها قاطعه متسائلا بوضوح؛
- هل كسبنا شيئا من وراء هذا الإضراب؟
أجاب صديقه بإشارة من يده بعد أن رسم بسبابتها وإبهامها دائرة صغيرة نفخ فيها نفخة كادت أن تقفز خلفها رئته التي نخرها " السيليكوز" وعقب:
- لخوى الخاوي.
تمتم لاعنا الإضراب والقائمين عليه، وأطلق العنان لرجليه المتعبتين ليوقف على الأقل المؤامرة التي كانت تحاك ضده في منزله.


محمد حامدي
دجنبر 2018


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى