محمد بنصالح - غرفة في السطح

أهبطُ الدّرج باستعجال، حتى صدمتُ شابة حسناء فائح عبقها، فأوشكتْ على السقوط، ثم اعتذرت منها، فواصلت ركضي متهاوياً إلى الباب، وأتساءل في لهث: أيأتي لعمارتنا كل هذا الحسن والجمال؟.. ما كنت أظن هذا يا هذه.. حتى وصلتُ للقاع، ثم صفقت الباب خلفي، وقد سيرت ناحية المقهى المقابلة، لأجلس هناك أحرس بنظري باب العمارة، لعلّ تلك الكتلة الأنثوية التي صادفتها في الدّرج، يلفظها ذلك الباب الذي فيه شبه من أبواب الأضرحة.. لم أخبركم بعد، إنها عمارة عتيقة كتلك التي يقطنها الأشباح في انجلترا ! لكن أشباحنا لا تقطن العمارات؛ هي كذلك تعاني من أزمة سكن في بلدنا!، أشباحنا متشردة يا (مدموزيل). ما زلت أجلس في سبات، كأني أتأمل عظمة تلك العمارة المتهالكة جدرانها!، أو أني مترعٌ بالحنين وذكريات لا وجود لها!، كالذي لم يذق طعم الحب يوماً، وتجده تتأثر مشاعره عند سماع أغنية عشق حزينة، فيحزن معها.. يا أخي ماذا دهاك أنت، دعه يحزن كيفما هواه!. بعد حين شعرت بأحدهم يطرق فوق كتفي، رفعت أنظاري، لأجد العجوز علال صاحب العمارة جاحظ العينين: "غداً آخر أجل لك، حتى تدفع ما عليك من ديون الكراء، وإلا أترى صندوق القمامة الذي يأخذ حمام الشمس هناك؟ ستجد فيه كتبك وأوراقك، ومعهم أسمالك المتسخة، يا... يا... أعوذ بالله". كذا قال ثم يمضي إلى حاله، ولم يعرني حتى هنيهة لتفوه بكلمة!.. يا لهاذا العجوز الذي لا يقدر ظرف طالباً مثلي.. ثم ما له ومال أوراقي؟ كففت عن أي محاولة تفكير في تهديدات العجوز، لأعود لمهمتي هذا الصباح: أن أتعرف على (مرلين مونرو) تلك التي صدمتها في الدّرج. لم يعد يشغل بالي ميعاد، ونسيت حتى لمَ كنت مستعجلا في نزول الدرج؟ لمَ يا ترى؟ هل من أحد يساعدني على التذكر؟.. (أوبس) وتذكرت، خسئت خسئت!، لقد تأخر الوقت، فانطلقت أركض، وخلفي يركض النادل ويصيح: "لم تدفع ثمن الشاي يا مسخوط!". بفف يا لنحس هذا الصباح!: "سأعود في المساء وأدفع لك".. قلتها بنفس مبهور، دون الالتفات مرة أخرى.. وصلت إلى الجامعة، فصعدت إلى الطابق الثاني، فوجدت باب المدرج موصد، إلى جانبه يقف حارس معبوس:
- "أتسمح لي بدخول؟"

- "لااااء"

قالها التيس بشماتة!، يردف:
- "لقد تأخرت مرة أخرى سيراً عاداتك"

فتبسم !.. ألم أقل لكم إنه يشمت؟
- "لا تخف، فلن يراني الأستاذ المحاضر، وسأجلس في آخر المدرج.. أنا هنا فقط لتسجيل حضوري"

صمت وهو يوزع نظراته في الأرجاء.
- "هيا تنحى جانبا.. (يواصل الصمت) وبعد؟"

تكلم أخيراً :
"ماذا فعلت بخصوصي.. أقصد موضوع نزهة الفيسبوكية؟"

- "إنها تريد رؤية صورتك"

برقت عيناه، ثم تفتحت أساريره :
-"حقا؟!"

-"نعم، هيا آتني بصورتك يا (ديكابريو!) حتى تراها"

دس يده في جيبه، وأخرج منه صورة له، يظهر فيها أصغر سناً:
- "ها هي، أرسلها اليوم"

ثم فسح لي المجال لدخول.. مسكين، لقد كذبت عليه وصدقني، هو أبلهٌ فزاده الحب بلهاً.. في كل حال، هو صديقٌ مقربٌ.

****

في المساء، أمضي عائدا إلى المنزل، فتذكرت تهديدات العجوز في الصباح!.. لم أدفع ثمن الغرفة التي أكتريها في سطح عمارته منذ أربعة أشهر.. قد يكون صادقاً، وتكون ليلتي الأخيرة في السطح، وغداً سأتوسع في العراء!. إن جيوبي مثقوبة، وبالكاد ألقى ما أدسه في وجهي.. فما العمل يا سادة، ما بكم لا تنطقون؟.. فجأة ظهرت لي نفس الشابة الحسناء التي صادفتها في الدّرج صباحاً، وهي تخرج من العمارة.. أستسمح سأركض! حتى وصلت عندها فأوقفتها:
- "معذرة، أود أن أعتذر منك على ما حدث في الصباح"

تنظر إلي كالملسوعة، ثم قالت :
- "من أنت يا أخي؟"

هل قالت أخي؟ بفف.
- "أنا الشخص الذي اصطدم بك في درج العمارة صباحاً، فارتأيتُ طلب المعذرة منك مرة أخرى"

أخذت زفيرا :
- "لا بأس"

تبسمت، فارتسمت شفاه، قد تُثير حتى القتلة.. أما أنا، فمهلهل في حضرة هذا الملاك.
- "اسمي مروان، طالب دكتوراه، وأنت؟"

- "تشرفت.. أنا اسمي نوال، طالبة جامعية"

حصلت على رقم هاتفها، ثم رحلت.

نوال نوال.. الأرجح أنها أعجبت بي، لمَ لا، فأنا طالب دكتوراه، وعما قريب سأكون دكتورا، وكذا مظهري مقبول عند عامة البنات، إنما الآفة أني مفلس أقطن في السطح مثل الديك!، وقريبا سأهبط منه لأستوطن العراء.. أجل يا وسيم.

دخلت غرفتي الغاصة في الفوضى، لأجلس وسط الركام - كالأطلال - متأملاً حالي البائس.. أفكر ماذا بي فاعل، وكيف أتجنب العراء المنذر غدا.. قررت النزول إلى شقة العجوز علال، حتى أطلب منه أن يُرجئ عني دفع تراكمات الكراء حتى إشعار آخر، علّني أوقظ فيه شفقة لحال هذا الدكتور المستقبلي.. عند باب شقته، سمعته يتجادل مع زوجته وابنته. هل قال مروان؟ نعم، هم يتحدثون عني، ثم سمعته يقول: "غدا سأطرده، لقد طفح الكيل منه وخاب الظن فيه.. إنه يكذب ويدعي أنه يعمل ويدرس في آن واحد.. أنا أشك والله أعلم، أنه ينام في أحضان العاهرات، فيصبح به الحال مفلساً". تباً لظنونك يا عجوز.. ردت عليه ابنته :"لا يا أبي، إنه مسكين مثابر، ولا تنس، هو مازال يدرس وبالكاد يكسب ما يأكله". يا لمشاعرك يا حنان!.. أعتقد أنها تحبني، فتصرفاتها اتجاهي تجعلني أشك بذلك.. تطلع لسطح لأجل رؤيتي، وتتحجج بنشر الغسيل.. في الحقيقة، لا تحرك في مشاعري ولو زغبة، فلا أحب من النساء ما عدى أمي!.. مهلاً، حتى لا أنسى نوال التي سحرتني اليوم بأنوثتها الفاقعة. فطرقت الباب، فإذا بالعجوز يفتح.
- "أنت؟"

-"السلام عليكم يا عمي الفاضل"

- "ماذا جاء بك في هذا الوقت.. أكنت تتنصت علينا؟"

- حاشا وماشا"

- "أُدخل أُخل"

كم أمقت التوسل لأحد، لكن لضرورة أحكام، وإلا سأجني على نفسي. جلست في البهو، قبل أن تفاجئني زوجته بعبارات الترحيب، وهي تحمل صينية الشاي المغربية، لتضعها جنب آنية الحلوى واللوز فوق الطاولة:
- "مرحباا بك أولدي، زارتنا البركة، شحال هادي ماجتي عندنا؟ (منذ مدة لم تأتِ عندنا)"

امممم لقد صرت "بركة" كما ترون.. ثم سمعت صوت العجوز في مكان ما في المنزل، وهو يسعل "كح كح كح" أو ينبح، لا أدري تحديداً.

- "بارك الله فيك آعمتي، غير مع الوقت أوصافي، راكي عارفة"

- "إوا أولدي كل ومتحشمش، دار داركم (كل ولا تخجل، فالمنزل منزلكم)"

ثم أتت العائلة جمعاء إلى البهو.. ها هم الآن ينظرون إلي، كما لو كنت سرقت منهم شيئاً.

- "يا عمي، قد حضرت إلى منزلكم، ومعي مبلغ ثلاثمائة درهم، حتى تقتطعه مما أدينه لك.. وهذا المبلغ هو كلما أكسبه"

أخذت زوجته الكلمة:
- "يا مروان، لن نقبل منك فلسا، فأنت بمثابة ابنا لنا.. ولا تكترث كثيراً لعمك هذا، فهو مريض بالسكري، وضغط دمه يرتفع أحيانا".

تنحنح العجوز، وعدل جلسته، ثم قال:
- "اسمع يا مروان، أنا أخاصمك لما هو في صالحك..فقط"

يكذب، فهو لم يخاصمني؛ بل أراد طردي حتى، وأن يُبيتني في الشارع!.. يواصل الحديث:
- " أنت لا أحد لك من غير الله، فوالداك رحمهما الله، وإخوتك كل واحد في حاله.. وأنا قد فكرت كثيراً وقررت"

الحمد لله، لقد قرر أن يُعفيني من أداء الكراء، هذا واضح.. ثم سألته لأتيقّن منه:

-"ماذا قررت يا عمي، اللهم اسمعنا خيراً؟"

- "يا مروان، عمك هذا تجاوز السبعين عاما، ولا يخفيني شيء.. أنا قد لاحظت علاقتك الخفية بابنتي حنان، ونظراتكما تفضحكما"

ماذا يقول هذا العجوز، عن أي نظرات يتحدث؟ هل من أحدكم أن يفرمل هذا المنحوس من العجزة؟"

- "أنا موافق يا مروان"

-"ما قصدك يا عمي؟"

- "أن تتزوجا يا ابني، وكما تعرف فَلم أُرزق غيرها، وهي من سترث مني هذه العمارة.. وأنت المناسب زوجاً لها، فلست طماعاً، وابن الناس ومتعلم، ثم أنتما تحبان بعضكما"

نهضت حنان وتوالت، لشعورها بالاحراج.. أما أنا؟ فَلم أستوعب بعد، ماذا ابتليتُ به، ومن يرد عني هذا العجوز؟. أحرك أنظاري في كل اتجاه، ولا أدري ماذا يحصل حولي.

- "إنما.. يا عمي... حم حم.. كنت أود قول...

فزغردت زوجته :
"لو لو لو لو لو لو ي ي!.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى